الأحد ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم عزيز العرباوي

زارع الشوك

كان التعب يغمر أحمد من جراء العمل الروتيني الذي يداوم عليه يوميا ذهابا وإيابا إلى المدرسة على دراجته النارية البطيئة التي خرت قواها من كثرة الأعمال التي تقدمها له طوال عشر سنوات، تحت المطر، أو في لحظات الشمس المحرقة، أو في غضب الرياح التي تحمل معها غبار الدنيا وملل الأيام التي تمر بنفس الوتيرة، ولا تكاد تتغير كأنها أصيبت بعدوى الحكام العرب. وكانت الأيام معه ظالمة، والتي ما كانت لتكف عن إهانته، والتي أثقلته بالديون والمشاكل كأنها تستقصده دون غيره من العباد الآخرين.
كان قد أنهى الموسم الدراسي بعد شهور كالجحيم، في مدرسة نائية مهترئة، أحس خلالها بأن كل شيء من حوله كان مجرد أشباح. وكانت هذه هي المرة الأولى في مشواره العملي التي يحس فيها بهذا الإحساس وبالشعور المفرط في الظن الخاطيء. وقد كان هذا إحساسا طالما راود آخرين من قبله. والآن بالذات هاهو يعيد إنتاج هذا الإحساس من جديد.

لذلك السبب الوحيد كان لا يحب أن يقاوم، أو يتمرد على أوضاعه، ولذلك السبب الوحيد كان يدفن كل مشاعره في داخله بحرقة متناهية، ويسعى جاهدا إلى إخفائها على المقربين منه.
أما الآن، وبعد أن أصبح لا يعني شيئا في قاموس الحياة الجديد والحداثي، وصار مؤهلا ليدفن في مقبرة الأشباح الأحياء، وقادرا على طأطأة الرأس والجسد أمام الزوابع والكبائر وحتى الصغائر،وعاجزا على التفوه بكلمات مثل: أعارض سياسة التهميش والإقصاء، وأمتنع عن التصويت على مقترحاتكم ومبادراتكم، وأهدد بالخروج عن حزبكم الواحد والوحيد في الساحة، وهذه الكلمات التي كان يتمنى يوما أن تخرج من بين شفتيه وبعنف، ليعمل له ألف حساب وحساب، مثلما يهدد مسؤول ما بنسف الأغلبية، أو الانضمام إلى الأقلية، كلمات ستحسسه مباشرة بعد نطقها أنه رجل مهم وشخص يحسب له ألف حساب قبل مواجهته، ومع ذلك فإنه في غمرة إحساسه بالذل والضعف لازال يركن على طريقة العظماء إلى أن هذا الوضع، الوضع الذي يعيشه، لا يمكن له أن يدوم معه، إنها ثورة تكاد تكون جديدة في تاريخ الثورات التي قرأ عنها في كتب التاريخ والشعر، والتي تولد من جديد من بطن عذراء مثلما المسيح آية من عند خالقه، هذه الثورة تسعى إلى هدف واحد دون زيغان يتجلى في أمرين: إما البقاء في ظل الوحشية أو الفناء بحرية.

غير أنه من حسن حظه هو الرجل والإنسان الذي افترس السنين من عمره في عمل لم يعد عليه بأي ربح مادي يذكر، ومن حسن حظه أن مهنته لازالت تحترم في مجتمع الصيارفة والبيادقة. ولأنها -مهنته - قد جعلته يدفع أحلى أيام عمره في الأدغال والجبال وعلى ظهور البغال والحمير وبين كومات الأحجار والصخور المتكومة في كل الطرق التي سلكها طيلة حياته العملية مثلما المشاكل والهموم المتكومة أمام أعينه في مسارات حياته لا يعرف لها حلا أو قدرة، ما كان يمكن له أن يبقى على قيد الحياة أو يتمكن من الإبقاء على عقله سليما ومعافى. فها هو أحمد يمضي الآن نحو العجز على قدميه ويديه مجتازا كل المضايق والسدود المنيعة التي طالما اصطدم بها من بعيد أو قريب حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن.

طيلة حياته لم يقدم له برهان واضح على أن مهنة التعليم قد تحفظ وجه صاحبها. فقد تحفظ اسمه إن كان محظوظا وتنازل عن الكثير مقابل السمعة، لكن الواقع التعليمي مثل أي قضية عربية لا تكاد تظهر في الواقع مشاكلها حتى يبدأ القاصي والداني في تغطية فضائحها وشوائبها بخرجات إعلامية وفنية من طراز جديد.

لم يقدر أحمد خطورة أن يعيش الرجل دستة من السنين حتى تسرقه، وتسرق جزءا من حياته التي قضاها جافة وشاقة، لا أولاد، ولا بيت، ولا موارد مالية يعتمد عليها في آخر عمره، بل افترض أن الحياة بلا مسؤوليات أولاد وزوجة قد تغنيه مشقة الاهتمام في شراء البيت وتوفير الغذاء واللباس والتعليم للأولاد ومسائل أخرى، واعتقد أيضا بأن عدم الزواج سيغنيه من مسألة البحث عن المرأة المناسبة بعدما تيقن في دواخله بأن النساء جميعهن عاهرات ولا توجد امرأة في الكون يمكن أن تكون شريفة ولم تعرف رجلا في حياتها قبل أن تدخل مرحلة الزواج.

ليس هذا الكلام يعني أن أحمد إنسان متحجر ومتطرف ويكره النساء، كما أنه باعتباره رجل من الرجال قد أحب وكره، وعشق النساء وبكى من أجل الحب وكتب الخواطر والأشعار في مرحلة من مراحل عمره. وكل ما حدث هو أنه قد أحس أن العمر قد سرقه وابتعد به كثيرا عن نقطة الممكن التي من خلالها يمكنه أن يتزوج ويفتح بيتا وينجب أولاجا.

لم يستطع أحمد أن يمنع نفسه من الشعور بالغبن حيال هذه الحياة التي يحياها، حيث لم يعرف لحظة واحدة معنى الحب والاستقرار والسعادة التي يراها على أوجه بعض أصدقائه الذين يصغرونه سنا. فقد انتقل بفكره الغارق في العطالة إلى أرذل الأماكن، وأحس نهاية حياته التي أملت عليه السقوط إلى الهاوية.

كانت أشعة الشمس اليوليوزية قد أخذت مكانها في المساحة المخولة لها. وأحدثت ثورة جديدة في عقول الناس من أجل الاصطياف. وبدا لأحمد أن الخروج من روتينه اليومي وتفكيره المتواتر في حياته ومشقتها لن ينفعه بشيء، سوى بزيادة الأمر أمرين. وعندما قرر التوجه إلى البحر وفتح صفحة جديدة في مشاويره اليومية، تولد لديه إحساس بالمتعة المتأخرة، بل بالمراهقة المتأخرة، وهو يمتع نظره بأجساد عارية تمشي وتجيء بين يديه وتترامى على صفحات الرمال الشاطئية مثل الأفكار الإبليسية تتداخل داخل عقله كأنها مملاة من فم شيطان رجيم...

تمثلت الأجساد العارية والمزينة بملابس السياحة الملونة والمزركشة تسحر الناظرين وتطبق على قلبه وعقله ونفسه كأنها موجة غبار قد صدمته * أتساءل عما إذا كانت هؤلاء النساء تفكر فيما أفكر فيه أنا، لو حصل هذا سيكون شيء عظيم وجميل..*.
صار يفكر في عقله في أنه لو تمكن من أن يعيش حياة هارون الرشيد مع هؤلاء النساء قدر ساعة زمن أو زمنين ثم بعدها فلتأت الموت. أدهشه هذا المنظر وكأنه يعيشه لأول مرة. عجيب أمره وهو المعروف عليه أنه لا يمر عليه أسبوع حتى يقتنص عاهرة يقضي معها الليلة كلها.

فيما هو يستحضر الحلم الموحي بامتلاك كل نساء البحر بما فيهن المتزوجات، كان ذهنه الخارج لتوه من شلله النصفي يصاد هذا الكلام المستحيل، وهذا الادعاء المتطرف.
ذلك هو إذن ! الوهم في آخر الزمن ! لسوف يراهن عليه حتى نهاية حياته أو على الأقل حتى يصل حالة الاصطدام بالواقع. بل إنه يتعين عليه أن يعيش بقية عمره في الدرجة السفلى من الحياة. لأنه بكل بساطة، لا يعرف معنى الحياة، ولماذا أصلا خلقنا في هذا المجال الشاسع من الأرض ؟ حيث إننا نأكل ونشرب وننكح النساء، ونبكي ونضحك ونلعب مختلف الألعاب الرياضية وغير الرياضية،... ومن المؤكد أننا، وأحمد واحد من النحن، ليست لدينا أدنى معرفة معمقة حول دوافع وجودنا في الحياة، اللهم بعض الإشارات والأفكار والتفسيرات التي تتخبط في التناقض والخلاف البين فيما بينها، ما من دوافع تذكر قد تشفي غليلنا. يمكنه أن يراهن على شيء آخر، ولسوف يتخلص من الأفكار الشيطانية التي تغزو فكره مثلما تغزونا بشكل من الأشكال.

واصل التفكير صامتا، وصاحبه الوهم إياه، وقاسمته الشمس المحرقة نفس التفكير وهي لاتني تخفي وجهها، لسوف يكون التخلص من الوهم صعبا، خاصة وأنه ليس وحده من يعيشه، فالشمس هي أيضا تعيش الوهم على نحو مغاير وتحاول إعادة إنتاجه كلما تمكن أحمد من التخلص منه، فيراه شاحب الوجه مصحوبا بأشعة الشمس يترنح مزهوا بسفرته بعد أن يكون قد حجز غرفته في فندق أحمد المبني بأفكاره المكدرة.
استبد الحزن بأحمد رغم الزرقة والجمال والنساء، وأوشك أن يسقط آخر سقطة معبرا عن رفضه وتدهوره النهائيين. وظن ظنا أنه سيصاب بالجنون إن هو استمر في مكانه ولم يصطد فريسة متهورة تقضي على آخر ذرة أمل لديه في بناء السعادة...!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى