السبت ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم موسى حوامده

في ذكرى معركة السموع أكتب لأنتصر

أمس مرت ذكرى تدمير بلدة السموع، في تلك المعركة التي وقعت عام 1966، والتي استشهد فيها أكثر من ثمانين جندياً من جنود الجيش العربي، عدا بعض المدنيين، شاهدت البلدة كوم رماد وحجارة، رأيت بأم عيني منظر الشهداء من الجنود الأردنيين، رأيت بعضهم تلتهمه النيران، كانت النار لا تزال تشتعل في جرزات الصوف العسكرية، والبساطير والبنطلونات، رأيت الجيبات المحترقة، رأيت الأشجار المشتعلة، شاهدت الحرائق في كل مكان، ورأيت الغبار يلف وجه السماء، بعد أن صارت البلدة ركاما فوق ركام، وغبارا يعلوه غبار، إنه يوم القيامة.

منذ تلك اللحظة، لم يعد ذلك الطفل في داخلي، سوياً.

كان لا بد من التغلب على الفاجعة، بنسيان الصور مرة، باللعب واللهو حتى فوق الركام مرة، بالنوم في سرير الفاجعة مرة، وبمحاولة الثأر دائماً.

قرر الطفل داخلي، أن يعمل المستحيل ليعيد بناء البلدة، يطفئ النار المشتعلة، يبني البيوت المهدمة، ويمسك أولئك الجنود المحترقين ليقبل جباههم، يطفئ النار في ملابسهم، يوقف شلال الدم منهم، ويعيد إصلاح البنادق والمدافع المحترقة، يتخيل الحرب من جديد، وهو يسقط تلك الطائرة الملعونة التي كانت تتقلب في كبد السماء، وفوق رأسه صباحا وترسل حممها النارية، فوق السيارات والمدرعات العسكرية، وبعض المواقع المدنية.

بدأ الأطفال يجمعون الفشك الفارغ، وبعض قطع القنابل المتشظية، وبعض النحاس الأصفر، وبعد رماد المعركة، وكانت رائحة البارود لا تزال تملأ الأفق، كان الصبي يشم رائحة الشواء المحترق، ويرى الجنود المشتعلين أمام عينيه، يرى طاسات الحرب على رؤوسهم، يرى بنادقهم في أيديهم، وبدأ يسمع عن بطولات الجنود والشبان، في الدفاع عن البلدة، وعن قيام بعض الجنود بعمليات انتحارية وسط دبابات العدو.

يا للعدو الذي جاء خصيصا لوأد طفولتي، وأنا في السادسة من العمر، يا للعدو الذي لا زال يلاحق طمأنينتي، ويصادر طفولتي هناك، وطفولتي هنا، وسنوات العمر كلها.

يا للعدو الذي لم أكن قادرا على هزيمته، وقهره، وردعه، وقلب المعركة ضده، وسحق آلياته ومجنزراته.

ولأني خسرت المعركة، تلك المعركة وما بعدها، كان لا بد من البحث عن مخيلة تسعفني من الموت، بعد أن فشلتْ في حمايتي من القهر، والإحساس بالعجز.

أي طريق يسلكه المرؤ ليتخلص من ثأر ثقيل، وعدو حقير، ومصير ملعون؟
وتجيء هزيمة حزيران، بعد أشهر قليلة، وكان لا بد من التماسك.

تماسكْ أيها الطفل الذي تعرض لفواجع مبكرة وثقيلة، وقل لي: كيف تنهض على قدميك؟ كيف ترد على عدوك، كيف تنتصر؟.

لجأت إلى حيلة ملعونة، وهي الخيال والحلم، بهما أنقذت نفسي من الجنون، وبهما أقنعت نفسي او أوهمتها بقدرتي على تكوين جيش كامل يملك ترسانة من الأسلحة القوية التي تردع العدو وتحطمه، لم أكن أعرف حدود البلاد، ولا مكان العدو، ولا طبيعة الصراع وهشاشة الوضع العربي، لكني كنت أعرف نفسي، وأمضي بها للإنتصار، وكوني لم أشعر بالهزيمة داخليا، فقد ثبت أن الطريقة المثلى للإنتصار، هي عدم الشعور بالهزيمة أساسا، وعدم الإقرار بها، والوقوف في وجه القدر بقوة، والرد على العدو بثقة وعزيمة لا تلينان.

ووجدتني أقف متحديا، أنخرط في المظاهرات والمسيرات، وأرى العدو بكل جبروته هشاً ضعيفا، يتحطم تحت قبضتي وسلاحي الخيالي.
وانتفعت بذلك كثيرا، ولكن حين بدأ الوعي ينضج قليلا، تبين لي أن الرد بهذه الطريقة لا يكفي، فلا بد من عمل لأعيد بناء البلدة المدمرة، وأعيد المعركة من جديد، هربت ثانية للخيال، وقادني الخيال للكتابة، ولولاهما لكان العدو قد سحقني منذ تلك المعركة، ولكني تغلبت عليه، وتغلبت على الفواجع المتلاحقة، بنقل معاركي من الخيال والوهم إلى الحبر والورق.
أعذروني،

فما زلت أعيد ترتيب أوراقي، وأكتب.

لا أريد مجدا أدبيا، إنني أكتب لأحمي نفسي من التلاشي.

أكتب لأعيد الثقة والحلم واليقين.

أكتبُ لأنتصر على عدوي، إنني حتما سأنتصر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى