الجمعة ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٥

يوسف المحيميد

في ظهيرة باردة، في السابع عشر من رمضان 1383هـ الموافق 31/1/1964م، انطلقت صرخته الأولى، في غرفة علوية لمنزل طيني في حي الشميسي القديم، هتفت جدَّته: ولد! واستبشرت خالته بقدومه بعد سبع بنات، مات الثلاث الأول منهن. كانت أمه تظن أنه سيكون فقيهاً أو شيخاً مرموقاً، وقد تزامن يوم مولده مع ذكرى يوم معركة بدر، المعركة الأولى في الإسلام، والتي انتصر فيها المسلمون.
بعد أن بلغ عاماً واحداً انتقلت أسرته إلى حي عليشه الجديد، وهناك عاش طفولته ومراهقته وأول شبابه، حتى الواحدة والعشرين، وقد تخللت طفولته أيام مؤرقة، شارف فيها على الهلاك، لعل أصعبها إصابته بالحصبة الألمانية في السنة الثانية من عمره، والتي كادت أن تقضي عليه، ودخل فيها مرحلة الخدر والصوم الكليّ عن الأكل: "لقد كان الخس الأخضر في حديقة البيت هو نبتة الحياة" هكذا قالت أمه، وقد عاد مرة أخرى من الموت، فصارت تلك النبتة أهم عناصر الوجبة الغذائية لأمه حتى بلغت السبعين من العمر.

في السادسة من عمره، أصيب المحيميد الابن الأكبر، مع شقيقيه بتسمم حاد، نقلوا على إثره إلى مستشفى المركزي في الشميسي، فخرج بعد شقيقه الأوسط، بينما مات شقيقه الأصغر في السنة الثانية من عمره، وأصيبت الأم بصدمة كبيرة، جعلها أكثر خوفاً وقلقاً عليه، لكن ذلك لم يلغ وقوعه فريسة سهلة للأمراض.

التحق في السابعة بمدرسة الجاحظ الإبتدائية في حي "أم سليم"، وكان يقطع مسافة تتجاوز ثلاثة كيلومترات من حي "عليشة" إلى "أم سليم"، بصحبة أخوه من الأب، وابني عميه الذين يكبرونه في العمر، ويشاركونه في الصف الأول الإبتدائي. وفي الصف الخامس الإبتدائي انتقل إلى مدرسة القدس الإبتدائية في حي "عليشة"، التي كان بابها الغربي يقابل باب منزل أسرته تماما.

أمراضه المتكرِّرة، وكونه جاء بعد سبع بنات، جعله يتذرَّع بالمرض أحياناً، كي يظفر بكتاب مستعمل من "المكتبة العربية" في شارع "الشميسي الجديد"، إذ تُحضره له أخته الصغرى كي يتسلَّى وتخفَّ عنه الحرارة المرتفعة، هكذا تربَّى مبكراً على قصص الأساطير: ألف ليلة وليلة، سيرة عنترة بن شداد، سيرة سيف بن ذي يزن، الزير سالم، وسلسلة المكتبة الخضراء للأطفال، ثم "أوليفر تويست" للإنجليزي تشارلز ديكنز، و"بائعة الخبز" للفرنسي كزافيه دي مونتابين؛ وربما كانت سيرة سيف بن ذي يزن المنزوعة الصفحات الأخيرة جعلته يشعل مناطق الإبداع منذ الصغر، واضعاً للحكاية أكثر من نهاية مبتكرة.

في العاشرة حصل على جائزة دولية تمنحها اليابان لرسوم الأطفال عن لوحته: "يوم الأم"، وكانت عبارة عن أم تحتضن طفلها، ومجرَّد أن انتقل إلى متوسطة فلسطين المحاذية لشارع "العصَّارات"، حتى أخلص للفن التشكيلي والخط العربي، وصار ينفِّذ لوحات كبيرة من الخطوط العربية في المدرسة، بينما أصبحت تجربته في الرسم أكثر نضجاً، حين أتقن تنفيذ لوحات البورتريه بالألوان الزيتية، إلى أن بكت أمه بين يديه، وهي تروي له حلماً مرعباً، رأته فيه يصارع العذاب يوم القيامه، بسبب الكائنات الحيَّة التي يرسمها، وقد جيئ بها كي ينفخ فيها الروح!. هكذا كفَّ عن الرسم بعد سبع سنوات منتظمة، زاوج فيها بين عشق الريشة والكاميرا، مما جعله ينصرف إلى الكاميرا بشكل أكبر، إذ أصبحت كاميرا "أولمبس أو إم 1" هي أنيسته وشريكته في منامه، فلا يكف عن توجيه عدساته المتنوعة إلى الأشجار والزهور والعصافير، بل كان يقتنص لحظات الغروب الكئيبة، فينطلق بسيارته الصغيرة إلى شارع التلفزيون، مستديراً من إشارة شارع "العصَّارات"، صوب الغرب، فيمشي بهدوء مارَّاً بين دار الحضانة يساراً وسجن عليشة يميناً، مطلقاً شهقات العدسة "وايد إنجل" تجاه قرص الشمس الذائب في الأفق.

التحق في الخامسة عشرة بمدرسة الجزيرة الثانوية في طرف "عليشة" الشمالي، وتخصَّص في القسم الأدبي، وبدأ هناك رحلة كتابة القصة القصيرة ونشرها في جريدتي الجزيرة والرياض، ورغم محاولاته اليائسة بكتم أمر النشر عن زملائه في المدرسة، إلا أن أحد الطلاب أحضر، ذات يوم، قصاصة جريدة تحمل قصة منشورة له، وسلَّمها إلى مدرّس اللغة العربية المصري، الذي طلب أن تخصص حصة التعبير في قراءة القصة ونقدها، فما استطاع أن يقف أمام الطلاب لخجله الشديد، ليكلِّف المدرِّس المصري زميلاً له بقراءتها، حيث كانت قراءته جهورية وجميلة، إذ أصبح هذا الطالب الآن شاعر إسلامياً.

التحق في الثامنة عشرة بكلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود، إذ درس السنة الأولى في المبنى القديم للجامعة غرب "عليشة"، المطلّ على شارع الحزام الأخضر، وهناك تشكَّل وعيه الفكري والسياسي، بعد أن اشترك مع طلاب يكبرونه سنَّاً وتجربة، معظمهم يدرسون في قسم السياسة، في تحرير مجلة "حوار" الأسبوعية، ثم صدر قراراً رسمياً بإلغاء النشرات الجامعية ومنها "حوار" إلى أن أعيد إصدارها في السنة الجامعية الثالثة له، إذ صدر عدداً واحداً منها، فانبرت له التيارات الإسلامية المتشدِّدة، وأصبح العدد موضوعاً لخطب الجمعة في جوامع السعودية، حتى كاد أن يطرد من الجامعة بسبب العدد الوحيد من مجلة "حوار"، الذي حمل قصيدة رمزية كتبها أحد الطلاب، تم وصفها بأنها قصيدة تطالب المرأة المسلمة بأن تخلع حجابها وتتحرَّر، إضافة إلى مقالات تسخر من "جماعة الجوَّالة"، وهي الجماعة التي كانت تنظم اللقاءات الدينية خلال الرحلات البرِّية، والتي استحوذت على جميع مراكز اللجان في الجامعة عام 1986م خلال الانتخابات التي ينظمها طلاب كلية العلوم الإدارية، فانصرف بعدها إلى دراسته، وكتابة القصة بشكل أكثر عمقاً ونضجاً، حتى أصدر مجموعته القصصية الأولى "ظهيرة لا مشاة لها" عام 1989م في الرياض، وما كادت تطرح في الأسواق حتى تسلَّم إستدعاء من وزارة الإعلام اعتماداً على شكوى تقدَّم بها رجل دين معروف في منطقة "القصيم"، يطالب فيها بسحب الكتاب من الأسواق، لأنه يحمل قصصاً خليعة، مثل قصة "التراب" وغيرها، إذ حمل خطابه بشدة على جهاز الرقابة في الوزارة الذي مرَّر مثل هذا الكتاب.

في مطلع التسعينيات الميلادية، قرَّر المحيميد أن ينصرف بكتابه إلى العالم العربي، فابتدأت رحلته مع النشر خارج البلاد منذ مجموعته القصصية الثانية "رجفة أثوابهم البيض" الذي طبعه عام 1993م في القاهرة، وكتابه "لابدَّ أن أحداً حرَّك الكرَّاسة" عام 1996 في بيروت.
بعد تخرجه من الجامعة عمل محاسباً في "بترومين" ومن ثم انتقل إلى "وزارة البترول والمعادن" وعمل أثناء ذلك في الصحافة، مشرفاً على صفحات الثقافة بمجلة "الجيل"، ومؤسساً لمجلة "الجيل الجديد" للأطفال، ثم رئيساً للقسم الثقافي بمجلة اليمامة، حتى لاحت له فرصة السفر إلى بريطانيا عام 1998 للدراسة، فاستقر هناك بمدينة "نورج" البريطانية شمال شرق لندن، وتعلَّم اللغة الإنجليزية ودرس التصوير الفوتوغرافي هناك، في جامعة نورج، ثم في مركز الفن، وحين عاد إلى الرياض مطلع الألفية الجديدة أخلص لكتابة الرواية، إذ كانت تجربته الأولى "لغط موتى" مكتوبة عام 1996 لكنها لم تنشر إلا عام 2000 في إتحاد الكتاب العرب في دمشق في طبعتها الأولى، وفي دار الجمل في كولونيا بألمانيا في طبعتها الثانية.

شعر بعد ذلك بأهمية أن يكون له ناشره العربي الخاص، فبدأ رحلة النشر مع دار رياض الريِّس للكتب والنشر في بيروت، وذلك عام 2003 في روايته المهمة "فخاخ الرائحة" التي ترجمت إلى الإنجليزية، وتلقى عرض نشرها بلغات أخرى، مثل الفرنسية والعبرية، وبعدها نشر روايته "القارورة" عام 2004 التي حققت له شهرة كبيرة داخل السعودية وخارجها، وتناقضت الآراء حولها، ووصفها البعض بأنها فضح للمسكوت عنه في مجتمع مغلق، بينما رأى آخرون أنها تفكك آليات القهر في المجتمع، في حين هاجمتها بعض المواقع الإلكترونية ورأت فيها تعدِّيا على المجتمع والمرأة، وجعل المرأة فيه إما مجرمة أو عاهرة أو تافهة، وقد ترجمت تلك الرواية إلى الإنجليزية والروسية، وفي عام 2005 عاد المحيميد إلى عشقه القديم، وأنجز مجموعته القصصية "أخي يفتِّش عن رامبو" والتي أدان بها المجتمع وقوى الهيمنة والفساد فيه بشكل فني جديد، ثم صدرت أخيراً روايته الجديدة "نزهة الدلفين" عام 2006م، والتي التحقت بغيرها من رواياته الممنوع دخولها إلى بلاده.

اشتهر يوسف المحيميد بكتابة أدب الطفل منذ إشرافه على مجلة ( الجيل الجديد ) المتخصصة في ثقافة وصحافة وإبداع الطفل خلال 1992 - 1997م . وإصداره سلسلة مغامرات الأشجار في 1998م . وهو يشتغل على تفاصيل الابداع للطفولة والفتيان وكأنه آمن بالمستقبل برعاية شتلات الطفولة بدلاً من الإحتطاب في أشجار الراشدين ..

من الأعمال الأخرى للكاتب يوسف المحيميد سلسلة أعماله القصصية من ظهيرة لا مشاه لها ( عام 1989م ) مروراً برواية لغط موتى وفخاخ الرائحة ( 2003 ) حتى روايته الأخيرة القارورة ( 2004 ) . وهو يلقي الضوء على تفاصيل بيئة نجد وحياة الصحراء متجلياً في الهم الإنساني بلغة سردية جذابة وجرأة على الكشف وبعين تنظر ماوراء الحجب وعبر خيال خصب .

تم تكريمه من قبل ديوان العرب في الثامن من يناير 2005 تقديرا لجهوده في خدمة الثقافة العربية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى