الأحد ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

خُطْبَةُ الْقُبَّرَة

 اسمع يا سيد زمانه!... نعرف أنك تتوعد بالقهر والحرمٍان، العنادل والقُبَّرات والكيروانات وسائر الطيور المغردة، إن هي امتنعت عن التغني بمجدك. وفي مقابل ذلك تشتري بالمال والتهديد مواهب طيور أخرى... اعلم أيها السيد أن الأشعار التي منبعُها الخوفُ والطمع لا يمكن لها أن تخلِّدك؛ هي بالأحرى قادرة على أن تخذلك. فالشعر الذي جوهره الضعف، لا يخلد حتى نفسه. وحدُه الشعر. الحقيقي المنبعث من هدوء القلب، يقدر أن يسعف القلوب بما تحب. وحدها الأغاني الصادقة والمتحررة من قبضة الخوف، تقدر على جلب السكينة للذي لا ينام بسبب القلق. واعلم أن الأشعار المرتجفة سرعان ما تفقد ألوانها؛ فهل ترضى أن تعلق على جدران قصورك صورا شاحبة؟... ولتكن متواضعا حتى تصير أكثر عظمة، وتقدرُ السماء على رسم صورة هادئة في قلوب رعاياك...

لم يتململ الأسد من على الصخرة التي اتخذها عرشا له. وظل يرنو إلى ذاك الطائر الضعيف في مظهره، القوي في جوهره وقد اتخذ وقفة الخطباء الشجعان. وتصبَّر الأسدُ وأسرَّ لنفسه "أنا من أتاح لها هذا المنبر، وهاهي تتكلم منه بكل وقاحة ". ثم أشار لها بأن تكمل.

 ... وأنا حينما أتكلم في حضرتك بصبر وعزيمة، فإني لا أتوخى الوقاحة، وإنما أردتُ أن أبلغك الحقيقة من المنبر ذاته الذي أتحتَ لي لكي لا تقول في يوم من الأيام " لم أجد في رعيتي من يقول لي الحق" فتتحسَّر.

قالت القُبًّرة:
 الترهيب والإغراء أمور لن تسعدك. ولن تجلب إليك إلا القلوب الضعيفة التي لاهمَّ لها سوى أن تنال وتنال وتنال... وحتى أولئك اللذين يتغنون بك الساعة، لن يلبثوا أن يتخلوا عنك في الأوقات العصيبة... فلا تأمر ـ بعد اليوم ـ القبرات بأن تغني لك الأغنيات التي لا تؤمن بها (هي)، لأن قلوبها خالية من المجاملة والنفاق.

فارتعد شارب الأسد، واحمرَّت عيناه؛ واصطبر، وأشار لها بالاسترسال في خطبتها؛ فقالت:

 ... في قلب قبرة واحدة تجد كل الحب. وفيه تجد صورة محبوبها وبعض الذكريات: أرنبٌ من سحاب، وزهرة أقحوان, وقبلة في الهواء. قلبها صغير لكنه يسع جميع الكائنات الطيبة. ونحن القبرات ما في قلوبنا طمع ولا نخاف، ومع ذلك نقوم بالواجب ونرفض الظلم. نمشي على صراط العدل، ونتعالى بكرامتنا على أمور الحضيض والخيانة. وفي كل صباح نصلي ونقول"احفظنا يا الله من الخوف والطمع و النفاق والحسَد!" فيستجيب.

أعرف أنك ما. استدعيتني لمقامك. إلا لأقول فيك المديح؛ لكنني لست شاعرة متهافتة. أنا ـ والله شاعرةـ حرة. وسأبقى حرَّة ولو في السجون... أيها السيد؛ في الليل يأتيني الغراب... هل تعرفه؟ الغراب؟ يأتيني ويقول لي: "ويحكِ أيتها الصامتة الحقيرة؛ تحركي وانظمي نظما يعجب سيِّدَنا الأسد! " فهل كنتُ لأردّ على واحد من الجهلة؟ وفي كل ليلة أتاني؛ أرهبني بك فقلتُ له: " قل لسيدك إن الذي يهمس الحب في زهرة الأقحوان لهو. الأحق بالحب، ومجِّدَه بالشعر " ولعله أخبرك بما قلتُ وزاد من عنده لكي يغرقني بالتهم الملفّقة. وقال لي: " يا مجنونة؛ تهيئي لسرب من الطيور الجارحة لافتراسك!" فهل صحيح أن سيادتك أرسلت أسطولها الحربي للفتك بطائر صغير لا حول له ولا قوة؟... ــ و قالت ــ ... أرى السماء تكدَّرت وتلونت بلون العاصفة، ولسوف تمطر؛ فهل تملك أن تردَّ المطر الذي سيبلل جسدك بعد حين؟... يا سيدي؛ أنا لا أعرف عنك إلا القليل. قالوا عنك إنك رهيب. ربما. أنت كذلك ، فمن يتخذ الغربان والضباع والقردة والخنازير والأفاعي نصحاء له؛ لا يمكن له إلا أن يكون رهيبا. لكن؛ هل يُثاق فعلا في مخلوقات الحضيض؟...

فزمجر الأسد زمجرة اهتزت لها القلوب والأرض، وزأر في حاشيته:

 من افترى عندي على هذا الكائن النادر؟ من حاول تشويه صورتي في مرآته؟
ولم يقدروا على الردّ،ِ واختبئوا خلف نفاقهم، ودعوا أربابهم أن يهدأ السيد؛ وأن لا تطيش مخالبه وتبطش بهم. فمسحهم بنظرة عامرة بالوعيد؛ فرآهم عراة في مكرهم، وكظم غيظه، وتنهد، وقال:
 تكلمي أيتها القبرة الصادقة؛ فلي في كلامك حكمة. فردَّتْ:
 ليسمح لي السيد بأن أنصرف، فليس بعد كلمته هذه كلام.
ولم يعترض، ولم يتململ من مكانه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى