الأربعاء ٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

الشموخ

هل توقف خيالك الجامح عن التحليق في سماء عسجدية، نيرة، تبدع من غير كلل ترنيمة قصص مشوقة، ودفء خواطر، وظلال أشعار؟ هل خاصمك يراعك الأوفي الذي يسيل عزة وافتخارا مخاصمة الحبيب الحميم لحبيبه؟ وهل أنت راضية عن نفسك تمام الرضا عما جنيته من أذيال صمت، وركود، وخيبة؟

لا، لا يمكن أبدا أن تجهري بانسحابك المفاجئ من ميدانك الرائع الذي يزخر بآلاف الصور الملونة كقوس قزح بهي، والذي يصدح علي الدوام بعبقرية المفردات الشيقة، وبشفافيتها في شفافية البلور.

هاتفتك شقيقتك التوأم (عائشة) وشهقات البكاء تمزق نياط قلبها، وتبعثرها كأشلاء سفينة ضائعة علي شاطئ مهجور: أنا، …….. أنا…….

وغاصت في قلب المعاناة غوصا عميقا باحثة عن طوق النجاة.

إحساس غريب، غامض، مدمر هاجمك هجوما شرسا، نهش بنهم جنوني أعز اللحظات التي تحظين بها مجانا، صوتها الأنثوي الذبيح أرجفك كأنه زلزال مفاجئ، تقوقعت أحلامك دفعة واحدة، وتثلجت كأنما غزاها الصقيع، ولم يعد هناك حلم وردي متفتح يجول في فسحة خاطرك، ويسبح كغواص ماهر في ثنايا عالمك.

لملمت شتات شجاعتك مجددا، ورحت تغسلينها بطوفان جارف من الأسئلة عسي أن تضعي أصبعك علي بؤرة الداء: هل توغلت مع زوجك في شجار مريع أعنف من الإعصار أفضي بك إلي طريق شائك، مسدود لا نبض فيه، ولا وهج؟ هل تورطت ابنتك (رؤي) في مشكلة جسيمة، معقدة الخيوط استعصي عليك حلها في أقرب الآجال؟

نطقت وكأنها علي شفير هاوية: لا هذا، ولا ذاك، أنا…..
واختنقت أنفاسها اللاهثة في نفق مظلم من التوهان، والضباب، والأسي.
ــ إفصحي عما يلوث أجواء حياتك، ويربكك إلي هذا الحد، سنتقاسم الأتراح معا مهما كان وقعها أمتن وأشد.

ــ أنا مصابة بداء السرطان.
اكتسحتك ظلال من الدهشة، صحت بفزع رهيب لن يقاوم: سرطان!؟ منذ متي!؟
ــ اكتشفت ذلك مؤخرا، وستجري لي عملية استئصال الثدي عما قريب.
قبل انتقالها إلي المستشفي بأسبوع شددت الرحال وأنت تصطخبين حنينا موجعا، وشوقا عارما يفيض.

حين اكتحلت مقلتاها المرهقتان برؤياك بادرتك قائلة ودمع جم ينهمر بلا هوادة يضارع في تدفقه الشلال: إن طالتني يد مكروه شنيع أثناء العملية حاولي أن تكوني سندا قويا، وبلسما شافيا لابنتي(رؤي)، امنحيها شذي عطفك، وإشراقة حبك، ولمسة حنانك السرمدي، إعتبريها مثل ابنتك تماما، أقطع وعدا صادقا أنني سأتركها أمانة مصانة في رقبتك.
لثمت جبينها العاجي كأنما تلثمين أغلي وأندر جوهرة، ثم ند من فيك الزمردي حديث هامس تتراقص علي إيقاعاته زخات الأماني الجسام: عليك أن تولي اهتماما بالغا لصحتك، ولا تدعي لليأس الفتاك مجالا ليتسرب إلي ذاتك، ويسيطر علي كامل قواك، حاولي بإيمان كبير أن تبثي بين جنبات نفسك زرعا ينمو، وعنادل تهدل، وقمرا يشع، ولا تتوجسي خيفة من ذلك الغد، أتمني أن يكون أفضل غد، وأفضل عيد بهيج ننتعش حتي الثمالة بنسائمه اللطيفة، ونبحر في أغواره السحيقة بلا أشرعة، ولا مآس.

رفرف الصمت الحبيب فوق رأسك هنيهة، ثم أضفت قائلة وأنت تلفينها في ديباجة من دفء، وحلم معشوشب: ابنتك(رؤي) تحتل عرش فؤادي من غير شك، إنها تماما كفلذة كبدي.
شعرت أختك بسياج الأمان يحيط بها، ويبعثها برفق شديد إلي التفاؤل بالحياة، والتمسك بأهدابها.

انقضي الأسبوع في رمشة عين كأنه البرق الخاطف، وحانت لحظة اللقيا البريئة التي ستبقي في الذاكرة محفورة.
أفراد عائلتك أحاطوا بها كما يحاط المعصم بالسوار، تطلعوا إليها في فضول بين وألسنتهم تقطر حمدا وسلامة.
كانت تتفنن في رسم ابتسامة مشعة كالماس فوق شفتيها، كانت كالملاك الطاهرالذي لم يقترف وزرا في حق أحد.

إنها زوجة مخلصة تفانت في إسعاد زوجها علي مدار ثلاثين سنة، ولا زالت قادرة علي العطاء، كما كرست جل أوقاتها وأشهاها لابنتها(رؤي
همست في أذنها بلطف مخافة إزعاجها: من اليوم فصاعدا ستكونين قوية، وشامخة.

هل توقف خيالك الجامح عن التحليق في سماء عسجدية نيرة تبدع من غير كلل ترنيمة قصص مشوقة، ودفء خواطر، وظلال أشعار؟
لا، لم تنسحبي من ميدانك الرائع لأنك ما زلت تحنين إلي أجواء الكتابة الساحرة كما يحن المغترب إلي دياره.
أختك(عائشة)تعافت بعد طول علاج، وها هي تحيا بين قريناتها مطمئنة البال، قوية، شامخة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى