الجمعة ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم مصطفى يعلى

الصورة في الرواية

كتاب ( الصورة في الرواية ) [1]، هو منجز رائد لاستيفن أولمان ، ترجمه ترجمة رصينة وجدية الأستاذان رضوان العيادي ومحمد مشبال، عن اللغة الإنجليزية. وقد كنت بالمناسبة، أعتقد دائما بأن اللغة الفرنسية في المغرب تضللنا وتحجب عنا ما هو أهم في اللغات الأخرى، بما في ذلك لغة الجيران المباشرين الإسبان، التي تملك عمقا ثقافيا يمتد من أوربا إلى أمريكا اللاتينية، مرورا ببعض الدول الإفريقية. بحيث لا نتداول في إطار المثاقفة سوى ما يقدمه الطبق الفرنسي، لأسباب ليس هنا مجال تفصيلها. لذلك لم يكن من المستغرب أن لا يهتم عندنا بهذا الكتاب حتى الآن، مع أنه يطرح منظورا جديدا لقراءة الرواية نصيا، يختلف عن الولع البنيوي الفرنسي بالتنظير أساسا، فضلا عن أنه ـ في حدود علمي ـ يتم فيه لأول مرة الاشتغال على الصورة في الرواية وليس في الشعر.

ولئن كان عنوان ( الصورة في الرواية ) بما يوحيه من تمتع الكتاب بالجدة والإضافة، كفيلا بأن يعتبر حافزا قويا لاستجابة المتلقي بالإقبال على تدارسه والاستفادة منه ، إذ أننا مفطورون على التعامل مع الصورة في الشعر حصرا وليس في النثر ، بحكم ثوابت ثقافية نوعية؛ فإن التوطئات الثلاث لكل من محمد أنقار والمترجمين والمؤلف، تقدم إغراء شهيا للنظر في الكتاب واستيعابه والإفادة من آليات اشتغاله، بما تضمنته من إشارات مركزة من قبل الثلاثة إلى طبيعته ومنهجه ونتائجه وقيمته.

إن الكتاب يركز على رصد أنساق الصورة الروائية من منطلق بلاغي أسلوبي، مقترحا لهذا الغرض أعمال أربعة كتاب فرنسيين معاصرين هم : أندري جيد ، آلان فورنيي ، مرسيل بروست ، وألبير كامو. علما بأن العنوان الأصلي للكتاب هو ( الصورة في الرواية الفرنسية المعاصرة ).

وسوف أحاول فيما يلي الكشف عن صورة تقريبية موجزة لبعض ما في هذا الكتاب . لهذا أبادر إلى القول إن هذا الكتاب يوقفنا على تطور الصورة في روايات أولئك الكتاب الأربعة بكثير من الإحاطة والعمق، محددا موضوعاتها، وروافدها، وعناصرها، وطوابعها، وأنواعها، ووظائفها، ودلالاتها لدى كل واحد من هؤلاء الروائيين الأربعة على حدة، خلال أربعة فصول طويلة.

فالمؤلف ستيفن أولمان يلاحظ أن الصورة في كتابات جيد الروائية قليلة نسبيا، لكنها على المستوى النوعي دقيقة وملائمة ولطيفة. فقد جاءت مرتبطة بالموضوعات الرئيسية ، مساهمة في إنتاج الرموز والتماثلات اللامعة، ومتكيّفة مع السياقات المتكونة في روايات (اللاأخلاقي)، وجسدت المشابهة بين العالم والكتاب في رواية ( سيمفونية الرعاة )، واتخذت طابع السخرية في رواية ( مزيفو النقود ). وبشكل عام، فقد تراوحت بين ما أسماه المؤلف الصورة الفكرية والصورة الساخرة والصورة الوظيقية.

وتتسم في نظر المؤلف صور فورنيي في روايته ( مولن الكبير )، بكونها صورا تشبيهية أكثر منها استعارية. وهي موزعة بين مجالات البحر والماء والجندية والحواس. بينما يجد أولمان لدى بروست عكس الصورة التشبيهية البسيطة المعتمدة لدى فرونيي ، حيث أولع بروست بالصورة الاستعمارية المركبة والغنية، المتنوعة مجاليا بين صور المجال العلمي، وصور المجال الفني، وصور المجال الحيواني والنباتي، وذلك عبر العناصر الحواسية المختلفة، مع توظيف التقنيات البنائية المدهشة في طريقة صوغها. ومن هنا كان انطباع أولمان عن صور بروست يتلخص في كون ( خصائصها العظيمة تنكشف بجلاء من أي زاوية تتم مقاربتها ).

كما أن أولمان في تنقيبه عن تجليات الصورة في أعمال كامو، يتوصل إلى أن هذا الأخير يستخدم الصورة بحذر واقتصاد كبيرين، لتميز أسلوبه بالبساطة وانعدام الزخرفة، أي أنه ( أبيض ومحايد )، أو كما يسميه رولان بارت ( درجة الصفر في الكتابة ). ومع ذلك فقد حمل أسلوب كامو الغنائي صورا جريئة، تنوعت وظيفيا بين التزويد بحافز الجريمة في ( الغريب )، وبسلسلة من الرموز الكبرى في (الطاعون )، في حين هي في ( السقطة ) جزء من المادة الأسلوبية نفسها؛ وإن كانت تنحصر في موضوعات أضيق وذات طابع مادي ملموس يعتبر خاصية مميزة لأسلوب كامو. وعليه فإن ألبير كامو لم يكن واحدا من ( مبدعي الصور الملهمين).

وينبغي الاعتراف، بإن أهم ما جذبني في كتاب أولمان ( الصورة في الرواية )، فضلا عن المستوى المعرفي، هو هذه القدرة العالية على مواجهة المتن الروائي في نفس مثابر مرتكز على شتى الأدوات الإجرائية، من تفكيك، وتفسير، ونقد، وتعليق، وجدل، وإحصاء، وتعليل، ومقارنة، واستقصاء، وتصنيف، واستنتاج، وتقييم.

وعلى الرغم من أن منهج المؤلف في الكتاب ينزع نحو التفسير البلاغي الأسلوبي، إلا أنه عمد إلى الاستفادة من كل الإمكانات التي تقدمها المناهج الأخرى في حالة الضرورة. وهكذا لا نستغرب إذا لاحظنا ميل أولمان بين الحين والحين إلى الاستعانة بالتفسير النفسي أو الاجتماعي أو الموضوعاتي ، لدى الحاجة الماسة إلى التأويل وتسليط الضوء على بعض الظواهر الأسلوبية والموضوعاتية.. وهي سمة إيجابية في الكتاب تحول دون خضوع الدراسة لسلطة وضيق المنهج الواحد. إذ الهدف هو تحصيل النتائج المتوخاة، وليس توثين المنهج أو عرض عضلات النجمية المنهاجياتية، خاصة إذا كانت الدراسة رائدة تحفر في أرض بور.

وفي رأيي المتواضع، إضافة إلى قيمة وأهمية هذه الدراسة الرائدة، أرى أنها تلتزم بالتركيز على تتبع واستقصاء الصور البلاغية في النصوص الروائية والاستدلال عليها بغية تصنيفها، بنفس مفهوم الصورة في الشعر، دونما إضافة نوعية، مما يغيب المكونات الروائية التجنيسية الأخرى. لهذا يبقى المشروع الذي اجترحه أولمان في كتابه ( الصورة في الرواية ) أبتر، وفي حاجة إلى تطوير واستكمال.

ولعل المؤلف قد أوحى بشيء من هذا، عندما درس أيضا الصورة في القصة القصيرة من خلال المجموعة اليتيمة في آخر الكتاب، وهي مجموعة ( المنفى والملكوت ) لألبير كامو. وكأني بأولمان على سبيل الافتراض، يريد أن يشير إلى أن مشروعه الدقيق لا يختص بالرواية فقط، بل بتأصيل دراسة الصورة في كل أجناس السرد، وأيضا في النثر الفني عامة، مقابل الصورة الشعرية، وأن دراسته الحالية ليست سوى الخطوة الأولى في المشروع.


[1- تأليف : ستيفن أولمان
 ترجمة : رضوان العيادي ومحمد مشبال
 الناشر : جامعة عبد المالك السعدي / منشورات مدرسة الملك فهد
العليا للترجمة بطنجة
 طبعة : 1995
 عدد الصفحات : 315


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى