الخميس ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم حميد طولست

ثقافة الأعتذار

 

الخطأ سمة من سمات البشر، وكل إنسان في هذه الدنيا معرض للخطأ تحت وطأة الانفعال حتي لو كان نبيا، وليس عيباً أن يخطئ المرء، ولكن العيب أن يستمر في خطئه. والاعتذار رجوع إلي الحق، وإقرار بالخطأ، وإحساس بالندم، وهو وسلوك حضاري وفضيلة تدل علي الثقة العالية بالنفس، وفن ومهارة اجتماعية وأسلوب تصرّف وينبوع يتدفق بالحب والصفاء والتفاهم الحقيقي يتطلب جرأة أدبية كبيرة لأنه ليس مجرد لطافة أو ملاطفة. وقبوله دليل وعي ونضج فكري واضح يزيد من أواصر المحبة والتقارب والتفاهم بين أبناء المجتمع. إلي جانب كل ذلك فهو وثقافة عامة تسمو بصاحبها، لنها غائبة عن حياتنا ومجتمعاتنا، لذا كان ديننا العظيم من أكثر الأديان حثاً علي تصحيح الأخطاء، وكانت التوبة والاعتذار وكل مشتقاتها من أكثر الألفاظ وروداً في القرآن الكريم.

الاعتذار عند الشعوب المتحضرة، أسلوب حياة ونمط سلوك اجتماعي نبيل يعطي الأمل بتجديد العلاقة بين الأطراف المختلفة، وهو التزام يحثّ علي تحسين الأواصر وتطوير الذات، وهو استعداد لتحمّل مسؤولية الأفعال من دون أعذار أو لوم أو تقريعهم، ولا يقوي علي ارتكابه إلا من امتلك الرغبة في تصحيح أخطائه، وتشبع بروح المسامحة والتعاطف مع الآخر، وهو تقويم لسلوك سلبي يظهر من خلاله مدي شجاعة الفرد علي مواجهة الواقع، كما فعل قدوتنا ونبينا المعصوم من الخطأ، محمد صلي الله عليه وسلم حين اعتذر من عبد الله بن أم مكتوم حين عاتبه الله تعالي فيه في سورة (عبس) حيث كان اعتذاره من قوة شخصيته وناتج عنها، ولم يدل أبدا عن ضعفها، كما يري الكثيرون أن في الاعتذار انكساراً لعزتهم وشموخهم وكبريائهم فيستحيون باعتذارهم ولا يستحيون بذنوبهم.

 سهل جدا علي المرء أن يخطئ في حق الآخرين، لكن إصلاح الأخطاء أو الاعتذار عنها يكون من أصعب وأثقل السلوكات الاجتماعية لشعور الإنسان، -العربي علي الخصوص- الدائم بأنه علي حق بينما الآخرون علي خطأ؟ ولما يستوجبه الاعتذار من قوة وشجاعة وشعور بالندم ومساءلة للذات ومراجعة للتصرفات ونقدها للاعتراف بالخطأ أو الذنب المراد الاعتذار عنه. ويبدو أن الإنسان في العالم العربي عامته، لا يعترف بأخطائه فضلاً عن أن يقدم الاعتذار، فما أكثر الإساءات والتجاوزات وما أقل الاعتذارات! وقلما نسمع في مجتمعاتنا عن اعتذار شخص لآخر أو دول عربية لدول عربية أخري أو لغيرها رغم كثرة الإساءات! لاعتبارهم أن الاعتذار هزيمة أو ضعف أو إنقاص للشخصية والمقام، ولاعتقاد العربي الدائم أنه مركز الحياة وعلي الآخرين أن يتحملوا ما يصدر عنه. لذلك نجده ابرع من يقدم الأعذار بدل الاعتذار، ويشق ويصعب عليه تحمل مسؤولية تصرفاته، وكثيرا ما يرمي اللوم علي الظروف أو علي أي شماعة أخري بشرط أن لا تكون شماعته، فالغير هو الذنب دائما وليس هو.

ولا أقول هنا بأن المجتمعات الغربية لا تخطئ ولا تسيء لبعضها وإلي غيرها، بل يخطئون ويسيئون كثيراً ولكنهم يملكون شجاعة الاعتراف بالخطأ وفضيلة الاعتذار، فيعتذرون ويعوضون. ففي اليابان مثلاً يعتبر الاعتذار –بما فيه اعتذار الرؤساء لمرؤوسيهم- أمراً عادياً، وجزء من سلوك الناس. وقد اعتذرت اليابان للدول التي احتلتها في جنوب شرق آسيا، واعتذرت عن ممارساتها تجاه أسري الحرب البريطانيين، كما اعتذرت فرنسا عن شحن يهودها إلي المحارق، وكذاك فعلت سويسرا، وحاكم المثقفون الفرنسيون دولتهم علي ماضيها الأسود في الجزائر وتقدموا بالاعتذار، واعتذرت الولايات المتحدة أيضا لأفريقيا عن قرون من تجارة العبيد. وليست الدول الغربية وحدها من يعتذر عند الخطأ، فهذا الرئيس السنغالي عبد اللاي واد يعتذر للأقلية المسيحية في بلاده بعد أن أخطأ في حقها بتشبيهه تمثاله "النهضة الأفريقية" والذي يجسد صور رجل وإمرأة وابنيهما، بتماثيل المسيح في محاولته لتهدئة انتقادات علماء المسلمين الذين وصفوا التمثال بأنه "وثني".

ورغم أن الكثير من ذوي النيات السيئة منا، يعتبرون أن اعتـذار الشعوب والدول ما هو إلا تخطيط أو تكتيك محكم يستعمل بحنكـة ولباقـة للتقليل من ردات فعل الـرأي العام والظهور بمظهر الآثـم النـادم. بينما هو في حقيقته تصرف نبيل يعكس ثقافـة الشعب والدولة المعتذرة وقادتها ومجتمعاتها بكاملها.

كم نحن في حاجة ماسة لنشر ثقافة الاعتذار وتعميمها في مجتمعنا، ولن يحدث ذلك حتي إذا نحن رغبنا فيه فعلا، إلا حين نربّي أبناءنا علي الصدق في كل الأمور كخطوة أولي نحو تعديل السلوك المنحرف، ثم نعودهم علي مفردات الاعتذار والتواضع أثناء تعاملهم مع الآخرين، وبعدها نعلمهم فن الاعتذار وكيفيته، ومتي يعتذرون؟ ولماذا يعتذرون؟ وهذا يستوجب بطبيعة الحال نوعاً من الضبط الاجتماعي لعلاقة الفرد بمحيطه، والتذكير بالقوانين التي تحكم تصرفاته، والإشادة بتصرّف الطفل أمام الآخرين وتعزيزه باستمرار.

وقبل هذا وذاك يجب أن يغير الكبار آباء ومعلمين ومسؤولين من سلوكهم ويتشبعوا بفضيلة العودة للحق في كل تصرفاتهم الخاصة والعامة، كدليل علي التحضر والوعي، حتي يكونوا قدوة للأجيال الصاعدة، كما أعطي الرسول الكريم المثل علي أن علي المخطئ بوجه عام أن يعتذر حتي لو لم يكن خطأه متعمداً، حين اعتذر صلي الله عليه وسلم من عبد الله بن أم مكتوم حين عاتبه الله تعالي فيه في سورة (عبس)كما أسلفت

 فلمَا لا نراجع أنفسنا ونتساءل منذ متي لم ننطق كلمة "آسف". فلنكن متسامحين مع أنفسنا بالدرجة الأولي ومن ثم مع الآخرين لأن الاعتذار من شيم الكبار كما يقولون.. ودليل الثقة بالنفس والتواضع والاتزان في طبيعة التفكير، ودليل صحة الإنسان النفسية
لذا نجد أن عددا من أصحاب النفوس الكبيرة التي تعالت وسَمَت في أفاق السماء.
من الأنبياء يعتذرون عن أخطاء ارتطبوها:فهذا* آدم- عليه السلام- اعترف بذنبه لمَّا أخطأ وأكل هو وزوجه من الشجرة المحرَّمة، مُقرًا ذلك بقوله: 

﴿قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ﴾ 

(الأعراف:23). 

*وهذا موسي- عليه السلام- أخطأ و لم يراوغ لإيجاد المخارج بعد أن وكز الرجل بعصاه فقتله ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴾ 

(القصص: من الآية 15)، 

ثم قدِّم الاعتذار وطلب العفو والصفح والمغفرة 

﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ 
 
(القصص: 16). 

* امرأة العزيز التي راوغت وكادت لتبرير موقفها الصعب وسلوكها المشين، 
إلا أنها اعترفت في شجاعة نادرة 

﴿ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) 
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾ 
 
(يوسف). 

يا لها من قوة تحليت بها، وجرأةٍ في الحق يعجز أكابر الرجال في زماننا أن يأتوا بمثلها، 
وهذا قدوتنا رسول الله محمد صيي الله عليه وسلم يعتذر 
عَنْ مُوسَي بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْمٍ عَلَي رُءُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ: 

"مَا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ؟"، 

فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الأُنْثَي فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 
"مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا". 

قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ: فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ، فَقَالَ: 

"إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ؛ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، 
وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ" 

صحيح مسلم
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى