الأربعاء ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

غربة

الزمن المشاكس يثرثر بقبح، يتعنت كالقطط المتلصصة، يخاتلك لتسقط مضرجا بدماء إحباطك، ومتاعبك، تئن بفظاعة لا متناهية، تتشرد أنفاسك اللاهثة المضطربة بين ماضيك وحاضرك، وتبحر نحو نقطة البدء مشتتا كحلم مراهق لم يسعفه حظه العاثر في امتحانه العسير.

نطقت بصعوبة بالغة: سأبوح لك بسر هام قد حاولت جاهدة إخفاءه عنك طيلة هذه السنوات، أرجو منك عدم الانفعال، أنت لست ابني الحقيقي، أنا تحملت كامل مسؤوليتك، وربيتك.
اهتز العالم بأكمله أمام عينيك الضيقتين، واسود كأنه الحداد المزمن.

ــ لقد عثرت عليك بمحاذاة مقبرة نائية ملفوفا في خرقة بالية وأنت ترتجف من شدة البرد وقساوته، انحنيت عليك وحملتك بين ذراعي وأنا مصممة على تنشئتك، وتهذيبك، صدقني، هذه هي الحقيقة الناصعة التي لا غبار عليها يا ولدي.

جحظت عيناك حتى بلغتا أبلغ اتساع، وندت منك صرخة مدوية معتوهة كادت توقعك أرضا: لا، لا، لا.

احتضنتك بقوة يعجز اللسان عن وصف هذه اللقطة العامرة بفيضان الأمومة، والوفاء، والحب النرجسي الخالص.
ــ تماسك يا ولدي، تماسك.

كان اعترافها الصادق بمثابة خنجر حاد طعنتك به في الصدر والظهر، وكان بمثابة السم القاتل الذي تتمزق له أحشاؤك شر تمزيق.

ــ لماذا تحملت مسؤوليتي كما تقولين وأنت مني بريئة؟

ــ خفت عليك من الكلاب الضالة، المتوحشة أن تفتك بجسدك الطري، وتكون مضغة سائغة بين أنيابها.

ــ من هما والداي؟

ــ ليس لي علم بهما يا ولدي.
نطقت بصوت أجش يكاد يضارع البكاء: لماذا تسترت على جريمة شنيعة ارتكبها غيرك؟ لماذا؟

سؤال غامض في غموض الطلاسم يسطو على بيداء ذهنك، ويشتتك في كامل الاتجاهات كدمعات حيارى مالحة: من هما والداي الحقيقيان؟

غربة موجعة تكتسح أعماقك المحبطة في ذهول مباغت ، تتبعثر أحلامك اللازوردية التي رسمها خيالك يوما كغمام كئيب، الإحساس بالوحدة تضاعف بداخلك، استحال إلى هاجس فظيع يقض مضجعك.

سقت قدميك المتعبتين إلى هناك، إلى حيث الجسر، ذلك الشبح المخيف الذي لا يشبع أبدا من ضحاياه.
مازال فاهه فاغرا يطلب المزيد.

انبجس في عالمك المشوش نداء الشيطان الرجيم: هيا اقفز من فوق الجسر قفزة بطل صنديد، هيا، لا تتخاذل، تشجع، ماذا تنتظر؟

تضببت معالم الرؤية في عينيك الضيقتين، كدت تنصاع انصياعا كاملا لوسوسة الشيطان وخبثه إلا أن هناك نداء آخر انبثق من أغوار ذاتك كما ينبثق الماء الزلال دفعك دفعا لأن تتراجع عن هذه الفكرة الطائشة: أتريد أن تكون جثة هامدة لا روح فيها، ولا حياة؟ أتقدم على الانتحار ناسيا غضب الله عليك؟ تريث قليلا، لا تتهور، لا تكن كالجبناء المولعون بشهوة الانتحار، كن قويا، متماسكا كالبنيان المرصوص، والدتك التي أحرقت سنوات عمرها من أجل تنشئتك لا زالت فاتحة أحضانها الدافئة لك، كن لها الابن البار، المطيع الذي يعترف بجميلها عليك.

أحسست فجأة بأن اتزانك عاد يتسرب إليك من جديد، وأن الضباب الداكن الذي ملأعينيك طفق يتبدد رويدا رويدا. الأفضل لك أن تعود أدراجك من حيث أتيت، وأن تستكين لذلك الصدر العامر بالحب كما يستكين الفرخ الصغير على دفء عشه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى