الأربعاء ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم وسام دبليز

الإكرامية

حين رأيته بجانبي قبل نزولي بلحظات اقتحمتني الدهشة،ما الذي أتى به إلى هنا وكيف لم أنتبه لوجوده وهو بهذه الفخامة، بالتأكيد أنا بحاجة لراتب عدة أشهر كي أحصل على جهازٍ كهذا.

لا بد أنه سقط من أحد الركاب،وكنشالٍ ماهرٍ وضعته في حقيبتي فلن أعطيه لسائق التاكسي أبداً،وما هي إلا هنيهات قصيرة بعد نزولي حتى اتصل صاحبه من رقم خاص،دهش عند سماع صوتٍ أنثوي وابتسمت بخبْث عند سماع صوته الذي يشي بالتهذيب.

خمسُ دقائقَ وسيكون أمامي،وفي هذه الفترة الزمنية القصيرة راحت غيوم الأحلام تُمطر سعادةً فوق رأسي،هل سيتحقق ما قالته ماغي فرح اليوم : «حب جديد يطرق باب قلبك».

وفيما كنت أطمئن إلى مظهري الأنيق وقفت سيارةٌ فخمةٌ سوداءُ اللون بزجاج أسود تقودها فتاةٌ حسناءُ، نظرت إلي بطرف عينيها وبنصف ابتسامة رمقتني من رأسي لتستقرّ عند حذائي.
كدت أهمس وأنا على رصيف الخيبة:
‪-‬ تباً لحظّي،
ومن الجهة الأخرى نَزَلَ شابٌّ طويلُ القامة،عريضُ المنكبين،بمعطفٍ أسودَ. وحين رفع نظّارته عن وجهه واصطدمت عينيّ بعينيه الزّرقاوين شهقت روحي شهقة الذّعر على عتبة الذّهول،وقفت أمامه.. هو عمرٌ من الصّمت مضى فقدت فيه أبجديّتي.
وقفت سفينتي المرمّمة لحظتئِذٍ على شاطئ بحر عينيه الزّرقاوين، وأبحرت بيمّهما لتقذفها أمواج بحره الثّائرة على جزرٍ مهجورة. إشاراتُ الاستفهام جنّت في وجهي والذّاكرة فتحت كطفلٍ شقيّ ألبومَ حبّها المغلق.

وإذا بي أمام حبيبٍ عشت معه عمراً كاملاً من الحبّ،حبيبٍ زرعت معه على كلّ مفرقٍ زهرة، وفي كل أرضٍ غرسه، وتحت كل شجرةٍ ذكرى، ومع أمواج البحر أرسلنا أحلامنا.

كذبتَ حين قلت أنّك ستضع صورتي على كلّ جدارٍ كي ترى وجهي الأسمرَ كيفما جلت بناظريك،وها أنت تنتزع صورتي حتّى عن جدار قلبك وتبني لك قصرا ًمن دوني،قصرا ًمن ذهبها و مالها ومن كرامتك ربّما.
وحين داعبت نسماتُ الشّتاءِ الباردةُ شعري ليقبّل وجهي السّاخن، نظرت إليه وكأنك تذكّرت شيئاً من الماضي.

كدت أسألك وشعري يحنّ لمداعبة أناملك فيتدفّق عطراً وورداً :إلى ماذا تنظر؟! مشط أصابعك كسر منذ عمر مضى،حين بدأت تسدلُ ستار اللامبالاة وتحفرَ طريقَ الفراقِ بيننا وتضعَ أسباباً للهروب لطالما كنت أعظم وأكبر منها.
منذ ذلك العمر وأنا أشتمك، لم أستطع الغفران لزيفك بعد حبّ سنواتٍ مضت.
كيف صدقت عينيك الجميلتين..وجهكَ الموشي بالطيبة.. يدك الدافئة؟!.
ما زلت أذكر ذلك اليوم..يوم وفاتك...حين كانت يدك في يدها إلى قفصكما الذّهبيّ، في حين كنت قد وصلتَ في قلبي إلى موتك،
وحزناً عليك رحت كالغبيّة أقطع أوردتي فلا وجود لحياة أنت لست فيها.
وفيما كنت أنت ترقص معها فوق منصّة الفرح، كنت أرقص رقصة الموت،وحين كنت تنتزع عن جسدها الغضّ ثوب سعادتها الأبيض كانوا قد نزعوا عنّي آخر خيوط الأمل بعد أن نزفت حتّى الموت.
كيف عدت للحياة ولماذا؟!هي معجزة،هكذا قال الأطباء.
لكنّي في قرارة نفسي زعمت أنني أعلم السّبب،فأنا تخلصت من ذلك الدم الأسود الذي لا يحوي سواك، وها قد خرجت من دمي إلى محرقة جسدي.

لكني اليوم وأنا أتناثر شوقاً أمام عينيك الباردتين، لم أدرك إن كان الذي أمامي هو أنت أم أنّه طيفك فأنا لم أتعرف إلى صوتك الذي لبس زيّ المجتمع المخملي،صوتك الذي كان قهوتي الصباحية، وزاد يومي الجميل.كدت للحظة أرسل أصابعي المرتجفة لتبحث عن نبضٍ حبيب في هذا الجسد الذي وضعته تحت التراب منذ عهدٍ مضى.
ألسنا نختلج ونصاب بالذعر دوماً عند رؤية الأموات!

أنا من شيعتك ووقفت عند حافة قبرك، بعد أن وضعت صورتك السوداء على جدارٍ منسيّ من جدران روحي ،أي معجزة تلك التي أعادتك إلى عالمي!.
مددت رماد يدي كي أبحث عن روحي الشاردة على أرصفة الوداع، وما أن وصلت إلى مفرق التلاقي حتى عانقتها يدك البيضاء،ورمتها في سرير اللهفة، فأورقت اشتياقاً للحظة وانتفضت بذعر، بغضب، وكادت تسألك عن يد تلك الشقراء التي استلقت في أحضان كفك.

مددت الجهاز إليك دون أن أنطق بأي حرف، وأخذته دون أية كلمة. وهناك عميقاً عميقاً انسابت دمعة،أخذت تشق طريقها في أعماقي لتصل إلى روحي.
كنت أدرك أنك لن ترى دموع قلبي، أنت الذي لم ترى دموع عيني المتهاوية على دروب لقاءاتنا الخضراء، عندما تركتني أتخبط في بحر مياهك المالحة وما خرجت إلا بجسدٍ منهك وقلب ٍمحطم،لكني اليوم رفضتُ أن ترى احتضار روحي من جديد، فأدرت ظهري لك وأنا أضغط على جرحي الغافي الذي عاود النزيف.

كنت أؤسر في باطني بركاناً من الوجع والغضب، أنفجر في غرفتي على شكل نوبات جنونية ،تراوحت بين البكاء والضحك كلما رنَّ صوت تلك الشقراء في أذنيّ كالجرس ‪:‬
‪-‬ هيا أعطها إكراميتها ألحق بها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى