السبت ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

بغل الانتخابات

بينما أنا غارقٌ في التفكير في ما جرى لي في الحمّام البلدي، مع شخصٍ عديم الذوق (حيث كان طلب منّي أن أعيره سروالي الداخلي لكي يستحمَّ فيه، وحيث بالَ عليَّ طفلُه انتقاماً منّي لكوني رفضتُ تلبية طلب والدِه البدوي السخيف)؛ وبينما السماءُ صافية، والشمسُ مستقرّة في مكانِها لا تتزحزح؛ وبينما الناسُ لا يُبالون بالانتخابات سوى من ناحية الحصول على القليل من الدراهم، مقابل بيع أصواتهم إلى سماسرة الانتخابات؛ رأيتُ رجلاً بائسٍ ضرير جالسا على بعد مترين من الطِّوار.

وعلى الرغم من أنّه كان مُقْعداً، متحجّرا في مكانه، إلاّ أنّه كان ما يزال حيّا. رأيتُ الحياةَ في عينيه المبيضّتين المحملقتين في السماء، وفي أذنيه الهامستين.
لم يكن الرجلُ الكفيف ميّتاً، لأنّه كان يتكلّم.

من حين لآخر، كان ينطق بهذه الكلمات:"آ وْلادْ الحلال... عاوْنو هاذْ البصير!"
لم يكنِ الرجلُ ميْتاً إبّان الانتخابات التشريعية. كان حيّاً على طريقتِه. كان يعي، يطلبُ، يحلمُ، يتوهّم...

"ربّما لذاك الرجل أسرةٌ يعولها؛ زوجة، أطفال، أخٌ ضريرٌ مثله، ماضي مجيد، أو لديه ما يحكي... أنا لمْ أرَه من قبل في تلك الزاوية... من المؤكّد أنّه لا يحترف التسوّل... سأعطيه بعضاً من المال"

بلادي تغيّرتْ. بلادي دخلتْ إلى "عهدٍ جديد". دولة الحق والقانون. محاربة الفقر أينما كان. التنمية الاجتماعية المستدامة. حقوق الإنسان. حريّة التعبير. محو الأمِّية كيفما كانت... بلادي جميلة، ومن الممكن أن تصيرَ أجمل؛ ولكن: لماذا ما زلتُ أرى المتسوّلين؟

ثم رأيتُ رجلا ضخماً ينزل من سيارة مرسيدس سوداء، وفي فمِه سيجارٌ في حجم إصبع كفتة كبير. رأيتُه يتوجّه إلى ذلك الضرير لكي يعطيه ورقة.

ـ اللهم اجعلها له في الميزان المقبول! اللهم صنه وسدد خطواته! اللهم حقق له ما نوى !
انتظر صاحب المرسيدس حتى أنهى الرجل الأعمى دعواته له؛ ثم انصرف إلى سيّارته، مخلِّفاً كوماً من الدخان.

عندما اقتربتُ من الضرير، وسمع أنين "صندالتي" المطّاطية البكّاءَة؛ كانت الورقة ما زالت في يدِه؛ فقال لي:

بالله عليك يا ولدي؛ قل لي ما هو ثمن هذه الورقة النقدية؟
رأيتُها بعين حزينة. أمسكتُها بشفقة. فحصتُها بألم. فقلتُ له بحسرة:
هذه ليست ورقة نقدية؛ إنّها ورقةُ دعاية انتخابية.
تأمّل المسكينُ كلمتي بعينينْ مسدودتيْن، ثم رنا إلى الأرض، وقال لي:
أنا لم أكنْ ضريراً. السجنُ هو من ضيّع بصري. في زمن مضى كنتُ رجُلاً مُهاباً. كنتُ أدافع عن حقوق المأجورين...

وشرع يبكي.

ـ لم أتسوّل إلاّ بعد أن أعدمتُ. ليس لي شيء؛ ولكن ما زال لي صوتي الانتخابي؛ الصوتُ الذي لن ينالوه، ولوْ دفعواْ لي مال قارون... صوتي لي؛ ولنْ أعطيه لأيّ أحد...
ثم استجمع هيبتَه، وانصرف إلى بعيد.

وأنا أنظر إليه وهو يمشي بثقة، جاءتني فكرة تدوين مختلف مظاهر التخلّف والخبث كما أراها يوميا، وذلك في كتاب ضخم، مثل كتاب "غينيس" للاختراعات والأعمال البطولية؛ أجل! قرّرتُ أن أكتبَ عن أشدِّ الناس وقاحة؛ ذلك الرجل الذي طلب منّي أن أعيره سروالي الداخلي لكي يستحمَّ فيه، أكبر بغل انتخابات يتصيّدُ صوتَ أنبل المكفوفين، أكبر قرد بشري يضحِكُ بتهريجاته الفارغة أكثر الجماهير بلادة في العالم والتاريخ، أعظم مجرم مالي يسطو على خزائن الدولة مع أصغر قدْرٍ من المحاسبة، أكبر أصغر نمس يبني لصالحه وأهلِه أصغر أكبر الفيلاّت على حساب أوسع شريحة من الفقراء معدومي السكن، أبشع قوّادَة تجلب لأحطِّ الناس أكبر عددٍ من الأصوات الانتخابية، أقصر مذيع معاقٍ فكرياً يذيع الأخبار الكاذبة، أكذَبُ زعيم سياسي، أطول قافز على القوانين، أسرع انتهازي، أخفى مصدّر للحشيش، أبعد مسؤول عن المسؤولية، أبشعُ واعظ بأبشع لحية في أبشع قناة فضائية، أخطر مجرم يمنحُهُ القضاء أوسع ظروف التخفيف، مع عقوبة حبسية موقوفة التنفيذ، ودرهم يتيم رمزي كغرامة مالية لفائدة الدولة، أجمل امرأة تحتكرُ التلفزيون أطولَ مدّة لكيْ تقدّم لنا أردأ الوصفات الغذائية، أبلدُ واصف لمباريات كرة القدم، أقدمُ زعيم التصاقاً بكرسي الزعامة، أردأ و"أبغل" ممثل، أحقر كاتب، "أحمر" المخرجين المسرحيين اعتدادا بنفسِه، أشدُّ الرياضيين إنكاراً للطبقة الفقيرة التي كانوا ينتمون إليها...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى