الثلاثاء ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
تعارف الشعوب
بقلم محمد نادر زعيتر

بديلاً عن حوارات الأديان والحضارات

بعد أن نشر كتاب صموئيل هنتغتون بعنوان «صدام الحضارات»، وكتاب فرانسيس فوكويوما بعنوان «نهاية التاريخ أو الإنسان الأخير» في مطالع التسعينيات من القرن العشرين. تهافت المنظرون إلى الرد على الكتابين، واستجدت مصطلحات جديدة في عالم الأيدولوجيا: حوار الأديان، حوار الحضارات، تحالف الحضارات.

كان مبرر إظهار الديانات على واجهة الفعاليات المتصدية للأدبيات الغربية، من مثل الكتابين المشار إليهما، هو أن «صدام الحضارات» قد آل خلف هذا العنوان إلى مجانبته، والمناورة توصلاً إلى قصد خبيث، (وهو التصدي للإسلام) بحسبانه حضارة العنف والتخلف.

كانت منطلقات هنتغتون هي في تصنيف المفارقة على صعيدي التاريخ والجغرافيا كما يلي:
 الغرب والاخر.
  استحقاق الهيمنة الغربية على الآخر حتماً.
وكانت آليات الخطاب الهنتغتوني:
  الديانة هي المعيار الأول للتمييز بين الحضارات.
  حتمية صدام الحضارات أي الديانات.
  الإسلام هو العدو الأول.
  الحضارة هي بالمحصلة "المصالح"، والصدام إذن هو على خلفية المصالح.

أما الديانات حسب تصنيف هنتغتون، فهي: الإسلامية والكونفوشيوسية والبوذية والهندوسية، وقد ركّز على الديانتين الأوليتين، وتجنب ذكر الديانات الأخرى. وخاصة اليهودية.

وقبل أن نخوض في تفنيد نظرية هنتغتون - بعد أن تراجع فوكويوما عن نظريته -، ثمة تساؤلات عن نتائج اللقاءات المتصاعدة والكتابات المسهبة، حول حوار الحضارات أو بالأحرى الديانات.
أقول، وبكل ثقة، إن هذه المحاولات التي أعد لها أحياناً إعداداً جيداً، لم ولن تؤتي بثمر. لماذا؟

أولاً: هناك خطاً في الشكل انزلق إليه المنظرون المجتهدون في هذا الموضوع، ذلك لأن الدين، أي دين، لا يصادم أو يصارع الآخر، إنما الأتباع هم الذين يصطنعون الصدام أو الصراع، والتاريخ شاهد على ذلك.

ومن أبرز الشهود: العدوان الفرنجي (الحروب الصليبية)، الذي قام ملوك وفرسان الغرب تحت راية الصليب - الذي كان معتبراً في الأرض المقدسة - وبتوجيه من بابا ذلك الوقت (أوربان الثاني)، هل كان ذلك الصدام - الذي لا يزال يتردّد صداه حتى الآن - صدام الإنجيل مع القرآن، أم كان لأطماع مصلحية ألبست لبوس الدين؟ إنه باختصار صراع الأتباع، وهكذا يجب إن يكون العنوان لتلك الفعاليات مبدئياً: حوار أو تفاهم أتباع الديانات التي تترادف - لدى هنتغتون تمويهاً - مع الحضارات، في التفاف غائي خبيث.

ثانياً: هل إن أتباع الدين الواحد هم أنفسهم متفقون أصلاً؟ أم إنهم مذاهب تذهب بأي منهم حتى إلى درجة الخلاف وما هو أكثر من الخلاف، ينطبق هذا على أتباع الإسلام وكذلك المسيحية، إذا لم نذهب أبعد من ذلك، المسلمون بضع وسبعون فرقة - كما ورد في الروايات - ولا يعلم تحديداً أيها الفرقة الناجية، وبالتالي فمن يحق له أن يمثل الدين الإسلامي في حوار الديانات؟ أو ليس من الأجدى لأتباع هذا الدين، قبلاً، أن يتلاقوا، أن يتحاوروا، أن يكونوا صفاً واحداً، قبل أن يذهبوا فرقاء فرادى إلى الحوار مع فرقاء أتباع الديانات الأخرى، أو يذهب أحدهم دون قبول الفرق السبعين الأخرى؟ ونفس الشيئ بالنسبة للفرق المسيحية، كما هو معلوم.

ثالثاً: إن ممثلي الديانات الذين يدعون إلى المناظرات العدديدة، وهم النخبة المتدينة من كل منها، لا يُعقِل أن أياً منهم يتنازل عن ما استقر عليه، أو عما يتولى بنفسه تلقينه للأتباع صباح مساء، قال لي أحد من هؤلاء المشاركين: إن رجل الدين من أي دين له مزايا مادية ومعنوية بمناسبة مركزه الديني، هل يتصوّر أنه يقبل التساهل أو التسامح في ما جماعته عليه؟ وأضاف: إن أياً منهم كالجبل في ثباته، هل تتلاقى الجبال؟
رابعاً: من خلال تلك الحوارات تكون النهاية عموميات لا تقدم ولا تؤخر، ومجاملات وتسويف لاجتماع آخر، إن كل ما يرشح عن المداولات محضر يرد فيه، بعد ذكر الشكليات: إن المجتمعين ممثلي الديانات السماوية اتفقوا على ما يلي:
  التوافق على ما هو متفق عليه.
  التسامح فيما هو غير متفق عليه.
  نبذ العنف ومكافحة الإرهاب.

ما هو المتفق أو غير المتفق عليه؟ يبقى الجواب مثل السراب يحسبه الظمآن ماءً.
ما هو العنف المحرم؟ ما هو الإرهاب؟ ما تعريفه؟ والمقاومة ما شأنها؟ تلك -كما يقولون تفاصيل - والشيطان يركن ويظهر في التفاصيل، ثم ما هو الموقف من العدوان، وقد أصبح سمة العصر؟

خامساً: إن تلك الحوارات كانت تضم ممثلين عن الديانات الثلاث - المسماة سماوية - أجل، ولماذا تُتَجاهل ديانات أخرى كالكونفوشيوسية الصينية، التي يصادمها هنتغتون مع الغرب في كتابه الشهير، أسوة بالإسلام، وتلك الديانة هي أكبر الديانات عدداً، وديانات أخرى كالهندوسية والبوذية والجانتية اليابانية، بل ولمَ ينحّى العلمانيون - وهم فئة كبيرة في المجتمع الإنساني - عن مثل هذه الحوارات؟ من قال: إن كل الصراعات أصلها من بعض الديانات؟ ألم يتعاطف الغرب مع مسلمي البوسنة وكوسوفو ضد مسيحيي البلقان الأرثوذوكس؟ ألم تكن الحربان العالميتان بين دول الغرب المسيحي أساساً؟ ألا يتصارع بروتستانت إيرلندا مع الكاثوليك فيها وهم جميعاً غربيون مسيحيون؟ وكذلك صراع منظمة إيتا في الباسك مع السلطة الاسبانية، ألم تصطف دول اليوم، وكانت تسمى بالمنظومة الاشتراكية، ضد من كانت حاضنتهم بالأمس القريب وهم من دين واحد؟ كالصراع بين روسيا وكل من جورجيا وأوكرانيا، ألا يتعاطف الغرب مع أنظمة إسلامية ضد أنظمة إسلامية أخرى؟ ألم يفعل الغرب الآمريكي مثل هذا في أفغانستان، إذ دعم الغرب الأمريكي في الماضي من يحاربهم اليوم دون هوادة؟

سادساً - لقد سبق، منذ صدر الإسلام، الدعوة إلى التلاقي كما ورد في الآية الكريمة:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء..." ولكن أهل الكتاب لم يلتقوا، ولاسيما اليهود على الرغم من أنه كان ثمة مقاربات مع الإسلام: القبلة الواحدة (في أول الأمر)، وصوم عاشوراء (إكراماً للنبي موسى)، وتحريم لحم الخنزير، والختان، والتأكيد على وحدانية الله، ومعاهدتهم على المعاملة المتكافئة بميثاق مكتوب يحترم خصوصياتهم الدينية والتعبدية والأحوال الشخصية والحرية الاقتصادية وعدم إلزامهم بالجزية أو أي مضايقة، ومراعاة حق الجوار، وحق التنقل والمساكنة أينما شاؤوا ( ولم يفرض عليهم الغيتو، كما فعل الغربيون)، بل أشركهم فيما يسمى بالدفاع المشترك، لكنهم لم يراعوا كل هذه المشتركات والتساهلات الهامة، وقابلوا هذا التقرب بالصدود والعداء والغدر. وكذلك فإن السيد المسيح حاول الإصلاح مع اليهود، وعلى الرغم من تبنيه للناموس الموسوي، وعلى الرغم من أنه ذكرهم بالأب المشترك، وهو ابراهيم في أول آية في الإنجيل (متى1:1)، فإنهم جفوه وساموه سوء العذاب، فماذا بدا من مستجد حتى نحاول اجترار ماهو مجتر باسم الحوار سواء في مجال الديانات او الحضارات؟
سابعاً - إن الصراعات، وإن ارتدت اللبوس الديني أحياناً، فإنما هي ليست كذلك لو تعمقنا قليلاً في الأسباب الحقيقية لكل صراع على حدة.

ويبقى السؤال: إذن ما هي أسباب الصراعات؟ وهل ثمة قاسم مشترك بينها؟ إن الجواب على هذا التساؤل الكبير هو الذي سيؤدي إلى التشكيك في جدوى ما يسمى حوار الأديان أو صدام الحضارات أو صراع الأيدولوجيات، ولا أرى في تلك الحوارات إلا تعمية للسبب الحقيقي للصدام الذي يستحيل إلى عدوان بشكل من الأشكال، وبأي غطاء، أو بلا غطاء، كان.

ثامناً - فضلاً عن جهل أو تجاهل أسباب ومبررات الصراعات العالمية أو الإقليمية، يوجه سؤال إلى الدعاة أو الرعاة لمثل هذه الملتقيات، ما هي الاستراتيجية المهدوفة من هذه الحوارات؟ كيف نتفادى الصراعات التي نبحث في ظواهرها، هل كالطبيب الذي يصف مسكِّناً دون البحث في أسباب الألم، إما لجهله، أو لتصريف الحالة المعروضة عليه؟ إن مثل هذه المعالجة، على مستوى دول وقوى دولية، والتي يسمونها تكتيكاً، لا تفيد في كشف حقيقة الداء المستشري في الجسم العالمي، وبالتالي لا نكون في موقع من يعالج حقيقةً.

نعود إلى السؤال الذي وصفناه بالكبير، ما هو القاسم المشترك في كل تلك الحراكات الدولية: تحالفات! ضغوط! مساعدات! تسهيلات! تهديدات! عقوبات! محاكمات! احتلال!
آن لنا أن نجيب، إنه:

المصلحة

بالخط العريض جداً، وبالفم الملآن. وفيما يلي غيض من فيض:
  حروب الفرنجة التي يسمونها "الصليبية"، لإسباغ الصفة الدينية عليها، لم تكن- في ذهن معدّيها- لوجه الله، فقد كانت القدس، مهد السيد المسيح، في مأمن لكل قاصد أو حاج، ولا يذكر التاريخ أي إشكال ديني قبيل هذا العدوان، لقد كانت هذه الحروب من أجل السيطرة على بلاد العسل واللبن، وإلا ما معنى أن يقود هذه الحروب ملوك وأمراء ونبلاء؟ وما معنى أن يتوسع هؤلاء في المعارك والاحتلالات حتى الساحل السوري بكامله، ويحتلوا أعماق بلاد الشام، وقبلها أسية الصغرى، ويقيموا في كل من الرها وأننطاكية أمارة غربية، ويقيموا الحصون، وتأسيسات من يفكر في السيطرة الشاملة الدائمة؟ وما معنى أن يقصد الجنرال الفرنسي غورو إثر الغزو الفرنسي لسورية عام 1920، أي بعد أكثرمن ستة قرون، بعد احتلال دمشق ضريح صلاح الدين، ليقول له هازئأً شامتاً: ها قد عدنا يا صلاح الدين! هل كان الانتداب الفرنسي نصرة للصليب! ثم هو ذا بوش الرئيس الأمريكي السابق يصرح علناً، في مطلع القرن الحادي والعشرين، أن مهمته في غزو بلاد في الشرق، واحتلال العراق، إنما هي متابعة للحروب الصليبية، على الرغم من أن العراق لم تكن مهدوفة في الحروب الصليبية التاريخية، وحين أدرك خطورة هذا الكلام، حاول التدارك بأنها زلة لسان، ولكنه، بعد ذلك، لجأ إلى صيغة دينية توراتية، هذه المرة، بمقولة "محور الشر"، من أجل التمويه على الحقيقة، أليست المصلحة، مجرد المصلحة، هي التي جعلت فرنسا تتجشّم تكاليف غزوها لسورية باسم الإنتداب في مطلع القرن العشرين؟ أو ليست المصلحة هي التي شرعنت لرأس النظام الأمريكي أن يقوم بغزو العراق، ذلك الغزو الذي حيّر البسطاء في أسبابه! ولسنا بصدد التفصيل في المصلحة الاستراتيجية الأمريكية هنا، إنها أعمق من البحث في هكذا عجالة. لكن يكفي أن نفهم أن تضحية ! العم سام لا علاقة لها بالديمقراطية وقد هتكت في العراق، ولا لإزالة أسلحة التدمير الشامل حيث ثبت عدم وجودها أساساً، ولا لتحقيق الأمن وقد اضطرب أيما اضطراب، وكلف الضحايا: قتلى وجرحى ومهاجرين وسجناء وتعذيب ومعاناة من كل النواحي، ودمرت البنية التحتية، وتشرزم المجتمع العراقي، والحبل على الجرّار....، أنها رد على
إن ما سقناه من مَثَلٍ حي عن السبب الحقيقي للحرب الأمريكية، ينسحب على كل الصراعات الأخرى قديمها وحديثها.

مثال آخر: لقد دعمت الولايات المتحدة استقلال كوسوفو، وفي ذلك خدمة لشعب أكثريته مسلمة، لماذا؟ لنبحث أيضأ عن المصلحة، إن المصلحة الأمريكية في ذلك هي التصدي للنفوذ الروسي في بلاد البلقان، وكذلك الموقف الآمريكي في كل من مشاكل جورجيا وأوكرانيا والقاعدة العسكرية في دول أوروبا الشرقية القريبة من حدود روسيا.
ومثل آخر: عندما شعرت الولايات المتحدة أن نفوذها في أفريقيا يتهدد من قبل الصين ودول أوروبية، أخذت تصطنع المشاكل في القرن الإفريقي والتدخل، كما هو في الصومال والسودان، ليس كرمى لعيون الديمقراطية والسلام، بل أولاً وأخيراً من أجل مصلحتها الاقتصادية، واستكمالاً لمصلحتها تسعى للتدخل في اليمن باعتبار باب المندب هو الضفة الشرقية للمدخل الاقتصادي المائي العالمي، وربما يكون التدخل العسكري لمكافحة القرصنة في القرن الإفريقي من هذا القبيل.

إن السيطرة على المنظمة الدولية، والبنك الدولي، والدعوة للعولمة، وتحرير التجارات الدولية، إنما هو موجه للمصلحة الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة، وكذلك عدم ااعترافها بالمحكمة الدولية، وعدم الانتظام في الجهة الدولية من أجل المناخ، وإن سن قانون يُحَصِّن جنودها من المساءلة عن الجرائم المرتكبة خارج حدودها، وعدم الاستجابة لنداءات طلب تعريف الإرهاب، والدعم المفتوح للكيان الصهوني وتبرير جرائمه، كل ذلك يصب تأكيداً في خانة تلك المصلحة.
لقد كان هنتغتون صاحب كتابه " صدام الحضارات" واضحاً حين أشار في آليات الصراعات - كما ذكرت في مقدمة البحث - إلى أن المحصلة هي "المصلحة، المصلحة"، والتكرار هنا مقصود.
لقد عرف الداء، البعيد عن أي دين، وإذن، فإن الصراعات ليست بين أديان أو ثقافات أو حضارات، ولو أريد لها أن تتزيّا بزيِّه، أو أن تتجمّل بشعارات الديمقراطية والسلام، بل إنها صراعات المصالح، صراع الأنانيات الدولية، صراع على المكاسب، ومن أجل ذلك فليكن للمنظرين أن يفلسفوا ويبرروا ضروب النفوذ والهيمنة والتدخل وحتى القتل الجماعي، ولا بأس أن يوضع الحصان خلف العربة! إنها ستسير على أية حال.
وإذن - برأيي - إن ديكورات تجمعات أو أدبيات أو عناوين من مثل: حوار الأديان أو الحضارات أو الثقافات لم تعد ذات جدوى. فلنكف عن اللغط وإدارة المشاكل بالمداورة حولها لإقناع أنفسنا بالمسكنات التي لا تصيب الداء موضوعياً.
وفيما يلي استقصاء عن ما ذاع وشاع عن ما يسمى صراع الحضارات:

صراع الحضارات

على أثر ظهور كتاب "صدام الحضارات، وإعادة بناء النظام العالمي" مؤلفه الصحفي الأمريكي/صموئيل هنتغتون/ عام 1993، والأطروحة الأساسية لهذا الكتاب هي أن الثقافة أو الهوية الثقافية، والتي في أوسع معانيها "الهوية الحضارية" بل "الأصولية الدينية" وعلى الخصوص "الإسلام والعقيدة الصينية"، هي التي تشكل نماذج التطرف والتفكك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة.......

كما ظهر كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" مؤلفه االأمريكي من أصل ياباني/فرانسيس فوكوياما/ ذو النزعة الليبرالية، الذي ينتهي إلى قسمة العالم مجدداً إلى من هو داخل التاريخ، ومن تخطاه وأكمل تحقيبـه، وبالتالي إلى الإقصاء عن التاريخ الذي يتحتم على الشعوب الخارجة عن التصنيف الغربي، وأكثر من ذلك ينتهي إلى الحكم على هؤلاء "الخوارج" بالطرح في مكب التاريخ نهائياً.

على أثر هذين الظهورين تباحث منظرو العالم في معالجة هذا التوجه الاستئثاري الذي بدأ يتشخّص في ما يسمى ب"العولمة"، وهرع أولاء إلى محاولة التلاقي عبر الإعلام أو المنتديات أو المؤتمرات لإنقاذ الوجود الحضاري من الأيلولة إلى السقوط في الهيمنة الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما وقد بدت مستفردة مستأثرة مستقوية في العالم، باعتبارها القطب السيد الرائد المعتمد من الإله بعد انزياح الإتحاد السوفييتي من الخارطة السياسة. وكان أن تنادى القوم إلى ما يسمى "حوار الأديان" أو "حوار الحضارات" ، هذه الحراكات المنخدعة بتلك المقولات لم تؤد إلى نتيجة، وكانت عبارة عن مراوحة في المكان، وأصداء متلاشية .....

لقد أخطأ كل من المفكرين المذكوين باعتبارهما الحضارة، أي حضارة أو ثقافة كماً خصوصياً متفردا متأهبأً للتنافس مع الآخر، بل والصدام معه، وغفل هذان ومن دار في فلكهما، أن الحضارة - عملياً - تتميز بأنها ذات سيولة لا تحصرها حدود أو موانع، إنها مثل فضائيات واتصالات اليوم، هل من سبيل لتحجيمها؟
إن الحضارة، مثل الحكمة، ضالة الناس أينما وجدوها التقطوها.
إن هذا العالم محدود على شكل كرة، أنى اتجهت فإنك تدور وترجع إلى نفس المكان، وقد وصف بأنه استحال إلى قرية عالمية، فكيف يمكن في مثل هذه القرية أن نتبين تصانيف الحضارة، فـنقصي ونثبت!

إن التسليم بمقولة " صراع الحضارات أو صدامها"، يُجَافي حقائق التاريخ ويتعارض مع طبيعة الحضارة، فالحضارة لا طابع عرقي لها، وهي لا ترتبط بجنس من الأجناس، ولا تنتمي إلى شعب من الشعوب، على الرغم من أن الحضارة قد تنسب إلى أمة من الأمم، أو إلى منطقة جغرافية من مناطق العالم على سبيل التعريف ليس إلاَّ، بخلاف الثقافة التي هي رمزٌ للهوية، وعنوانٌ على الذاتية، وتعبيرٌ عن الخصوصيات التي تتميز بها أمة من الأمم، أو يتفرّدُ بها شعبٌ من الشعوب.
والحضارة هي وعاءٌ لثقافات متنوعة تعدّدت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت، فشكّلت خصائص الحضارة التي تعبّر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً.

أليس على سبيل المثال: منطقة بلاد الشام التي تمازجت فيها العاديات المعبرة عن حضارات الإغريق والرومان وسائر الأنظمة التي تواردت على هذه المنطقة لتتحصّـل في الوقت الراهن تعبيراً حضارياً تشكيلياً نزهو به.
أن الحضارات كانت تتواصل مع ما جاورها، وتؤثر وتتأثر، إلى درجة التوازن، كما هي الأواني المستطرقة.

والحضارات الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية تَتَفَاوَتُ فيما بينها في موقفها من المادية والروحية، فمنها ما يغلب عليه الجانب المادي، ومنها ما يغلب عليه الجانب الروحي، ومنها ما يسوده التوازنُ بينهما. فهي إذن، سلسلة متعاقبة من الحضارات التي تخلي كلُّ واحدة منها المجالَ لما سوف يتلوها من حضارة أخرى، مما جعل كثيراً من الباحثين في مجال دراسة الحضارات يذهبون إلى القول بوجود التماثُل والتطابُق بين الكثير من هذه الحضارات. والتماثل والتطابق لا يدعان مجالاً للصراع.
ولذلك، فإن الحضارات لا تتصارع، وإنما تَتَدَافَعُ وتَتَلاقَحُ ويكمل بعضها بعضاً، وتَتَعَاقَبُ وتَتَواصَلُ، لأنها خلاصة الفكر البشري والإبداع الإنساني وحركة التاريخ التي هي، في المفهوم الإسلامي، سنة اللَّه في الكون. فالصراع بين الحضارات، ليس وارداً، لأن دورات التاريخ تطَّرِدُ وفق المشيئة الإلهية، ولأن التاريخ هو حالة إنسانية استمرارية، والإنسان الذي يؤثر في مسار التاريخ ويصوغه ويُبدع فيه، هو من الأوفياء لوجوده وإنسانيته.

والتدافع الحضاري مفهومٌ قرآنيٌّ، وهو جامعٌ للمعاني والدلالات التي تؤكد بطلان نظرية صراع الحضارات من الأساس. يقول اللَّه تعالى : ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض (سورة البقرة/251)، ويقول : ولو لا دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم اللَّه كثيرا (سورة الحج/40). ويأمر اللَّه عباده بالدفع بالتي هي أحسن في جميع الأحوال، كما في قوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليًّ حميم(سورة فصلت/34)، و : ادفع بالتي هي أحسن السيئةَ نحن أعلم بما يصفون (سورة المؤمنون/96).

ودفع اللَّه الناس بعضهم ببعض يُلغي الصراع ويبطل زعمه، لأن هذا (الدفع) هو الذي يمنع فساد الأرض ويحول دونه. والحياة الإنسانية قائمة على أساس (دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض)، فهذا هو القانون الأزلي للبشر فوق الأرض، وهو سنة الله . وبذلك تتهاوى مزاعم الصراع، وتسقط افتراضاته، وتتهافت حتمياته.
وعلى هذا الأساس، فإن مصير الحضارات لم يكن عبر التاريخ كلِّه، صراعاً وصداماً، ولكنه، من حيث الجوهر والعمق كان تدافعاً، (ويفسره البعض أنه بمثابة النقد البنّـاء)، وكان دائماً وبصورة مطّردة، يسير في الاتجاه الصاعد إلى ازدهار الحياة بتراكم العطاء الحضاري في مختلف مجالاته، وإلى الرقيّ بالإنسان الذي استخلف في الأرض لعمارتها، بينما الصراع يتّجه نحو الإفساد في الأرض.
ونخلص من هذا إلى أن صراع الحضارات ليس حتميةً من حتميات التاريخ، كما تقول النظرية الماركسية، وكما يدعي المنظّرون المعاصرون الذين يرسمون معالم سياسة الهيمنة والغطرسة والقوة لقهر إرادات شعوب العالم.

حوار الحضارات في المنظور العربي الإسلامي

لقد تمثّـل العرب الحضارات الأخرى في أبان نهضتهم الحضارية، وجسدوا التفاعل العالمي دون أن يخطر بالبال أي صدام أو صراع، كما هو مكرّس هذه الأيام.
  إن الرسول محمد (ص) دعا قومه للعلم بقوله:"اطلبوا العلم ولو في الصين"، والصين ليست من بلاد الإسلام أصلاً.
  لقد جمع الرسول في بيته ومن حوله شخصيات ذات انتماءات من شتى الأجناس: الحبشي (بلال)، الفارسي (سلمان)، الرومي (صهيب)، القبطية (مارية)، فهل نبذ المجتمع العربي الناشئ هذا التآلف بسبب اختلاف أصولياتهم الحضارية؟
  إن ترجمة كتب الإغريق، وفلاسفتهم خاصة، التي تصاعدت في العهد العباسي، والنهل العربي منها، والتمازج مع الفلسفة والعلوم العربية. هل كان إلا للاعتقاد أن الثقافة رأسمال العالم كله؟
  إن استقاء الغرب، في مبتدأ نهضته الفكرية والصناعية، من الشرق العربي شتى العلوم واعتمادها والبناء عليها، لتصبح القاعدة الحضارية المتطورة الصاعدة الآن، ليس إلا عملاً نافعاً للبشرية يدحض كل مقولة عن تنافر الحضارات أو تعارك الثقافات.
  معلوم أن الغرب يكتب ويحسب بالأرقام العربية....وتزخر القواميس اللغوية الغربية بالمفردات العربية المنشأ... والعرب بدورهم يكتبون ويحسبون بالأرقام الهندية، أليس هذا دليلاً على سماء فكرية واحدة تظلل هذا العالم، تتكلل بقوس قزح فيه ألوان متعددة كما هي التعددية الثقافية منذ أن بزغ هذا القوس الحاني على العالم كله؟
  أليست الروح الدينية في الغرب التي يتعمد بها أطفاله، وترافق أرواح موتاهم في قارتيه الأوروبية والأمريكية إلا نوراً برز من البشرية الشرقية - مهد السيد المسيح - روح الله، ثم من هنا كان مصعده نحو العلاء الإلهي، ولا تزال المسيحية الضمير الحي في الغرب ونجواه.
  إن تلاقي الجذور الإفريقية والأقدمية الإسلامية المطعّمتين بالتربية الأنكلوساكسونية في قمة النخبة الأمريكية الحاكمة بشخص الرئيس أوباما - بغض النظر عن السياسة - إلا دليلاً على عدمية العنصرية الحضارية وزعم التفوق الغربي اللذين يتشدق بهما هونتغتون وفوكوياما؟
  أو ليس فوكوياما نفسه، عندما رأى الأسواق الأمريكية تغرق بفيض الإنتاج الصيني، يتراجع عن نظريته " نهاية التاريخ"، حيث بدا له أن التاريخ لما ينته بعد، بل ربما بدأ من جديد!
  عندما أهدى الخليفة العباسي الساعة العربية الأعجوبة لشارلمان ..يوم كانت أوروبا غافية في عصر الظلام، أليس ذلك إلا للاستدلال على مدى التقدم الحضاري العربي، وتحريضاً للغرب ليقدروا ذلك، ويعملوا على منواله!
  أليست مقدمة ابن خلدون وعقلانية الفيلسوف الحكيم ابن رشد العربيين ذَوَيْ الهوى الأندلسي، واللتان لا تزالان موضع الدراسة والإعجاب إلا نبراساً فكرياً لعالم الغرب قبل الشرق...
  آن لنا بعد التقديم الآنف، أن نبرز صورة حية عن الحراك الثقافي العربي في سالف الزمان، كشاهد على مدى انفتاح الحضارة العربية العلمية على الآخر، إنه ما يسمى "بيت الحكمة".

بيت الحكمة

(حوار الحضارات في أحضان العرب)

الحوار الخصب الذي دار في بيت الحكمة بين حضارات الشرق والغرب، شكل نموذجاً رائعاً ورمزاً حيّاً لما ينبغي أن يكون عليه حوار الحضارات في عصرنا.
كان تأسيس (بيت الحكمة) في بغداد، على أيدي العباسيين، حدثا ثقافيا بالغ الأهمية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، إذ لم يكن مجرد مكتبة ومركز للترجمة والتأليف والمناظرة والنسخ فحسب، وإنما كان أيضاً (مسرحاً) للحوار بين حضارات الشرق والغرب، آنذاك، ولاسيما: الحضارة العربية الإسلامية والحضارات اليونانية (الإغريقية) والفارسية والسريانية والهندية. ويستهدف هذا المقال إلقاء بعض الضوء على ظهور (بيت الحكمة) والدور الذي نهض به في الحوار بين تلك الحضارات.

والمقصود بـ (بيت الحكمة) الدار أو البيت الذي استخدم لحفظ أو خزن الكتب بصفة عامة، وكتب (الحكمة) أي (الفلسفة) بصفة خاصة. وكان مصطلح (الفلسفة(يشمل في ذلك العصر، عدداً من العلوم مثل: الرياضيات والفلك والفلسفة والمنطق والطب والطبيعة وغيرها.

يُجمع المؤرخون على أن الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت192هـ/809م) هو الذي وضع النواة الأولى لـ (بيت الحكمة) في بغداد، حيث أسس ما عرف باسم (خزانة الحكمة).و كانت عبارة عن مكتبة تحتوي على بعض كتب الفلسفة اليونانية، التي كان قد جلبها الرشيد معه من بلاد الروم (البيزنطيين)، أثناء إحدى حملاته على مدن آسيا الصغرى مثل: أنقرة وعمورية. وقد عهد الخليفة بترجمة هذه الكتب، من اليونانية إلى العربية، إلى العالم المسيحي النسطوري: يحيى (يوحنا) بن ماسويه. كما اشتملت (خزانة الحكمة) هذه، على بعض كتب التراث الفارسي، والتي عهد الرشيد بترجمتها، من الفارسية إلى العربية، إلى الفضل بن نوبخت.

استراتيجية ثقافية

ولكن لم يبلغ (بيت الحكمة) ذروة نشاطه العلمي إلا في أيام الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م). فمن نافلة القول: إن هذا الخليفة كان يتميز بعقل مستنير وفكر حر وثقافة واسعة، ولهذا ما كاد يستقر في بغداد حتى أحدث تغييراً كبيراً في (الاستراتيجية) الثقافية للدولة العباسية، فلقد أدرك، من خلال تنشئته ودراسته من ناحية، وعلاقته الوثيقة برجال العلم والأدب من عرب ومسلمين ونساطرة وفرس وهنود وصابئة، من ناحية أخرى، أن بناء الحضارة العربية الإسلامية وازدهارها مرتهن بالتفاعل والحوار بينها وبين الحضارات الأخرى، والإفادة من كنوزها، لأن ما توصل إليه علماء تلك الحضارات من نتائج علمية هو ملك للبشرية جمعاء، بغض النظر عن عقائد وأجناس وألوان هؤلاء العلماء. وانطلاقاً من هذه (العقيدة العلمية (فتح المأمون أبواب الترجمة، إلى العربية، على مصراعيها وفي الحقيقة، إن ترجمة بعض المصنفات إلى العربية كانت قد بدأت في العصر الأموي، وذلك عندما ترجمت بعض كتب الكيمياء، من اليونانية إلى العربية، بناء على طلب الأمير الأموي خالد بن يزيد، ولكن هذه الترجمات وغيرها كانت كلها بمبادرات فردية وتتسم بالعفوية، وتتعلق بميادين علمية محددة. أما في عهد المأمون، فقد غدت الترجمة منهاحاً أو (استراتيجية) عامة للدولة العباسية، ولا ترتبط برغبة هذا الخليفة أو ذاك الأمير، كما أنها لم تعد تتعلق بميدان دون آخر، وإنما أصبحت تشمل معظم العلوم والمعارف التي ازدهرت في الحضارات القديمة. وفي ضوء ذلك رأى المأمون أن (خزانة الحكمة)، التي أسسها والده، لا يمكن لها النهوض بالمشروع الثقافي الكبير الذي يعتزم القيام به، ولهذا حوّلها إلى (مؤسسة) علمية، عرفت باسم (بيت الحكمة)، مهمته ليست خزن الكتب والترجمة والتأليف والنسخ فحسب، وإنما احتضان مسألة الحوار بين الحضارات وتبادل العلوم والآداب والفنون فيما بينها.
لقد حصل الخليفة المأمون على مخطوطات تراث الحضارات الأخرى من داخل العالم العربي والإسلامي وخارجه، فبالنسبة إلى مخطوطات التراث اليونانية، مثلا، فقد حصل عليها من أماكن متعددة، بعضها جلب من جزيرة قبرص، حيث أرسل المأمون إلى حاكمها البيزنطي يطلب منه كتب الفلاسفة اليونان، التي كانت، كما يقول المؤرخون، (مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد)، فلبى الحاكم طلب الخليفة. كما حصل المأمون على مجموعة أخرى من المخطوطات اليونانية من عاصمة الدولة البيزنطية، وهي القسطنطينية، وذلك بعد مراسلات تمت بينه وبين الإمبراطور البيزنطي، ومن العلماء الذين بعث بهم الخليفة إلى العاصمة البيزنطية لاختيار المخطوطات ونقلها إلى (بيت الحكمة) في بغداد، نذكر: يحيى بن ماسويه، والحجاج بن مطر، ويحيى بن البطريق، وغيرهم. وكان هؤلاء جميعا من المسيحيين النساطرة، ويتقنون اللغة اليونانية. كما وصلت إلى (بيت الحكمة) كميات كبيرة من المخطوطات اليونانية، من أديرة وكنائس بلاد الشام والرافدين، وذلك عن طريق العلماء العرب المسيحيين.

معيار الكفاءة

وبعد أن وصلت هذه المجموعات من التراث اليوناني إلى (بيت الحكمة ( تم تصنيفها وترتيبها وفقا للأصول المرعية فيه، وفتح المأمون أبواب العمل فيه لخيرة المترجمين والعلماء والأطباء والأدباء. وكان المعيار الرئيس للعمل في هذه (المؤسسة العلمية) هو الكفاءة العلمية، وكان العلماء الأوفر حظا فيها، مادياً ومعنوياً، هم الذين يتقنون لغة أجنبية أو أكثر، والذين ذاع صيتهم في ميدان من الميادين العلمية، والذين اشتهروا بالدقة والنزاهة العلمية. ومن المترجمين والعلماء الذين عملوا في بيت الحكمة، نذكر: يحيى بن ماسويه، والحجاج بن مطر، وحنين بن اسحق، وابنه اسحق، وحبيش الأعسم، وقسطا بن لوقا وغيرهم.

كان هؤلاء جميعاً من المسيحيين، وترجموا في (بيت الحكمة) من اليونانية والسريانية إلى العربية. ومن العلماء المسلمين الفرس، الذين عملوا في بيت الحكمة وترجموا من الفارسية إلى العربية، نذكر: الفضل بن نوبخت وسهل بن هارون. ومن العلماء الصابئة نذكر ثابت بن قرة، الذي ترجم الكثير من كتب الفلك والهندسة من اليونانية إلى العربية. ومن العلماء العرب الذين عملوا في بيت الحكمة نذكر الفيلسوف الكبير الكندي، الذي كان عالماً كبيراً بالرياضيات والكيمياء والموسيقى، وقام بنشاط علمي كبير وبخاصة فيما يتعلق بوضع المصطلح العربي الملائم للأصل اليوناني، وذلك بالتعاون مع كبار المترجمين العاملين في بيت الحكمة، كما تولى عدد من العلماء والمترجمين رئاسة (بيت الحكمة) أمثال العالم الرياضي محمد بن موسى الخوارزمي في أيام الخليفة المأمون وحنين بن اسحق أيام الخليفة المتوكل (247هـ/861م).

وقد أنفقت الدولة العباسية أموالاً طائلة على (بيت الحكمة) ونشاطاته العلمية. فقد كان عليها، مثلا، أن تدفع مبالغ ضخمة للحصول على المخطوطات ونقلها، ومبالغ أخرى للمترجمين والعلماء والإداريين وأعمال النسخ والرصد والصيانة... إلخ. وتؤكد المصادر أن المأمون كان يعطي بعض المترجمين، أمثال حنين بن اسحق، وزن الكتاب الذي يترجمه ذهباً.

لم يكتف المترجمون والعلماء، العاملون في بيت الحكمة، بترجمة الكتب من لغاتها الأصلية إلى العربية فحسب، وإنما قاموا بتفسير الكثير منها ونقدها وتصحيحها. بل إن بعض الكتب كان يترجم ويشرح ويصحح أكثر من مرة، ومن طرف أكثر من مترجم وعالم، ولاسيما إذا كانت الترجمة الأولى لا تتسم بالدقة والوضوح والفصاحة. فكتاب (أصول الهندسة) للعالم اليوناني إقليدس، وكتاب (المجسطي) أي (الكتاب الأعظم( للعالم اليوناني بطليموس، وقد تُرجما وفُسرا ونُقحا أكثر من مرة توخيا للدقة والأمانة العلمية.

ولم يقتصر دور (بيت الحكمة) على الترجمة، وما يرتبط بها من نشاطات علمية، وإنما كان أيضا مركزا للتأليف والمناظرة والبحث العلمي، لاسيما أنه كان يضم مكتبة ضخمة أعانت العلماء على إنجاز بحوثهم ومشاريعهم العلمية. وتشير بعض الدراسات إلى أن عدد الكتب التي اشتملت عليها هذه المكتبة، في أيام الخليفة المأمون، ما بين كتب عربية وأجنبية، مؤلفة ومترجمة، بلغ نحو مليون كتاب. وتؤكد المصادر أن الخوارزمي حقق معظم إنجازاته الرياضية اعتماداً على مكتبة (بيت الحكمة)، كما أن عدداً كبيراً من علماء الفلك حققوا كشوفهم العلمية اعتماداً على المرصد الفلكي الذي كان ملحقاً ببيت الحكمة. لقد استمر (بيت الحكمة) يؤدي رسالته الحضارية، بالرغم من الظروف القاسية التي عصفت بالخلافة العباسية، حتى انتهى دوره باكتساح المغول بغداد (656هـ/1258م) حيث غدا أثراً بعد عين.

حوار للحضارات

والواقع أن أعظم ما تمّ في (بيت الحكمة) هو الحوار بين الحضارات،التي التقت على ساحته، وبخاصة الحضارات العربية الإسلامية واليونانية والفارسية والسريانية والهندية. وعلى الرغم من اختلاف هذه الحضارات، من حيث أسسها وخصائصها ومظاهرها وسياقها التاريخي، فإنها تفاعلت فيما بينها وتبادلت العلوم والآداب والمفاهيم والمناهج، لاسيما أنها - في نهاية المطاف - حصيلة جهود وإبداعات تراكمت عبر الزمن، وشكلت تراثاً للإنسانية جمعاء. وسنكتفي هنا بالإشارة إلى الحوار الذي جرى، في بيت الحكمة، بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة اليونانية القديمة، لأن هذه الأخيرة كانت أكثر الحضارات الأجنبية التي قدّر لها أن تؤثر تأثيراً كبيراً في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية من ناحية، وكانت الأساس الرئيس الذي قامت عليه النهضة الأوربية في العصر الحديث من ناحية أخرى.

وينبغي أن نشير، بداية، إلى أنه كان من الصعوبة لهذا الحوار بين الحضارات أن ينجح ويؤدي رسالته الإنسانية لولا الحرية التي توافرت لرجال العلم والفكر في بيت الحكمة، ولولا سياسة التسامح التي انتهجتها الدولة العباسية آنذاك تجاه الآخرين وحضاراتهم وعقائدهم، بحيث لم يمنع أحد من أهل العلم، على اختلاف مللهم ونحلهم، من المناظرة في أعقد المسائل، ولم تحاول أي ثقافة احتواء الأخرى، بل لم تحاول أي قوة سياسية أن تفرض ثقافة بعينها على الثقافات الأخرى، وهذا ما جعل الحوار، بين الحضارات، في بيت الحكمة، يتسم بالهدوء والعقلانية والموضوعية واحترام الآخر، وهذا ما ساعد الحضارات جميعاً على أن تفيد من هذا الحوار. وتتبادل العلوم والآداب، والتي شكلت، في النهاية، رصيداً ثراً للحضارة الإنسانية.

معاناة الترجمة

أما بالنسبة إلى ما أفادته الحضارة العربية الإسلامية من حوارها مع الحضارة اليونانية القديمة، فقد تجلى في الكثير من الميادين العلمية والفلسفية، ففي ميدان الطب، مثلا، أفادت من مؤلفات أبقراط وجالينوس، وفي ميدان الفلسفة أفادت من مؤلفات أفلاطون وأرسطو، وفي ميدان العلوم والرياضيات والهندسة أ فادت مؤلفات: أرخميدس وإقليدس وفيثاغورس وأبولونيوس وغيرهم. وفي ميدان الفلك والجغرافيا، فقد أفادت مما كتبه بطليموس. أما في ميدان اللغة، فقد تم إغناء اللغة العربية بالمصطلح العلمي من خلال المعاناة الحقيقية للترجمة في بيت الحكمة، حيث تم البحث عن بدائله باللغة العربية، لأنه حتى ذلك الوقت، تقريبا، لم تكن اللغة العربية، قد كوّنت لنفسها مصطلحات علمية تكفي للتعبير عن كل التراث العلمي والفلسفي للحضارة اليونانية.

ولاشك في أن الحوار بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة اليونانية كان عاملاً مهماً في انتقال العرب والمسلمين إلى مرحلة النبوغ والإبداع، إذ لم يثبت العلماء العرب والمسلمون قدرتهم على استيعاب التراث اليوناني فحسب، وإنما على نقده وتجاوزه من ناحية، وعلى استخدامه في تلبية حاجات مجتمعهم الفكرية منها.

وأما ما أفادته الحضارة اليونانية القديمة (وبالتالي الحضارة الأوربية الحديثة)، من الحوار مع الحضارة العربية الإسلامية، في بيت الحكمة، فقد تجلى في الكثير من الميادين، وفي مقدمتها إنقاذ العرب والمسلمين للتراث اليوناني القديم من الفناء والأسر والاحتقار الذي كان يعانيه في الغرب الأوربي والعالم البيزنطي على السواء.
فمن المعروف أن الكنيسة، في الغرب، قد حاربت التراث اليوناني القديم حربا شعواء، ونظرت إليه على أنه تراث ضار بالعقيدة المسيحية لارتباطه بالوثنية، وحرمت على المسيحيين الاطلاع عليه باعتباره من عمل الشيطان وبالتالي، تعرضت مؤلفات معظم الفلاسفة والأدباء اليونان للإهمال والازدراء.

كما قام الإمبراطور البيزنطي جستنيان (ت 565م) بإغلاق مدرسة الفلسفة في أثينا عام 529م. ولقد ظل هذا الموقف المعادي للتراث اليوناني قروناً طويلة، والدليل على ذلك أنه عندما بعث الخليفة المأمون إلى إمبراطور الروم يطلب منه كتب الفلسفة اليونانية تردّد الآميراطور في تلبية طلبه، فهرع الرهبان يحثونه على الإيجاب،
وقالوا له:
(إن هذه الكتب لم تدخل بلداً أو دولة إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها...)، وعندئذ أسرع الإمبراطور في إرسال تلك الكتب. ولهذا كله لا نبالغ إذا قلنا إن جلب التراث اليوناني إلى بيت الحكمة وترجمته إلى العربية هو إنقاذ له من الفناء. والدليل على ذلك أنه عندما بدأت أوربا تتلمّس بدايات نهضتها الحديثة، والتي قامت على أساس إحياء التراث اليوناني القديم، لم تجد في حوزتها سوى الترجمة العربية لهذا التراث، لأن معظم أصوله اليونانية الأولى كانت قد فُقدت. ولهذا قامت بترجمته عبر صقلية والأندلس، خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، من العربية إلى اللاتينية..

 ولكن لم يقتصر ما أفادته الحضارة اليونانية، في حوارها مع الحضارة العربية الإسلامية، على مسألة إنقاذ التراث اليوناني وحمايته وترجمته فحسب، وإنما أفادت أيضا مما قام به العلماء العرب والمسلمون من شرح ونقد لهذا التراث، والذي شكل بدوره إضافة معرفية حقيقية..

 ويهمنا أن نؤكد على أن الغرب الأوربي هو الذي قطف أخيراً ثمار هذا الحوار بين الحضارات، وهو الذي أفاد من نتائجه العلمية والأدبية في انطلاق نهضته الحديثة. فقد تسلم هذا الغرب التراث اليوناني القديم، وقد اكتسب برعاية العرب والمسلمين له حضوراً جديداً وحياة جديدة، كما أفاد أيما إفادة من إبداعات الحضارة العربية الإسلامية وكشوفها في ميادين العلوم والآداب والفنون، كما اقتبس، من خلال الحضارة الأخيرة، الكثير من منجزات الحضارات الشرقية الأخرى. ولهذا فمن نافلة القول أن هذه الحضارات قد أسهمت جميعاً، وبدرجات متفاوتة، في يقظة أوربا وتكوين حضارتها الحديثة.

ما هو الحل الآن؟

والآن: ماهو البديل عن الحوارات والمنتديات التي يشترك فيها من يسمون أنفسهم نخب الديانات السماوية، ويصدرون العبارات النموذجية، ولا فائدة حقيقية ملموسة؟
الحل هو في لقاء يضم ممثلي الشعوب في العالم كله ليتعارفوا، أولاً، ولا أقول أنظمة أو سلطات، وإلا نكون قد عدنا إلى شكل شكلي على غرارمنظمة الإمم المتحدة، وما هذا هو القصد أساساً، إنني أقصد الشعوب، مهما تنوعت دياناتها ومذاهبها، إن الاختلاف فضيلة، وبه نمارس ميزة التسامح، وسوف آتي لاحقا بالتفصيل في ذلك.
إن نخب شعوب العالم كله مدعوة للتعارف أولاً، ثم الكلمة السواء، فيما أصطلح عليه ب" ميثاق الشرف العالمي" جوهره مبادئ قيمية لا يختلف عليها إي إنسان سليم، ومناطها كل دين وكل مذهب وكل نظام. وسوف آتي على استقصاء تلك المبادئ تالياً

 

من هنا كان عنوان البحث:

تعارف الشعوب

استقاءً من الأية الكريمة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" 0سورة الحجرات/13)، والتي أعتبرها من التراث العربي الذي نفخر به منذ أن كنا خير أمة أخرجت للناس.
في هذه الأيات محطات تستوجب الوقوف عندها:
  يا أيها الناس: خطاب عالمي دون حصر ولا استثناء.
  إنا خلقناكم: إشارة إلى وحدانية الخالق والخلق.
  من ذكر وأنثى: إثبات المرجعية الإنسانية إلى أب وأم واحدين.
  وجعلناكم شعوبا وقبائل: إشارة إلى التنظيم الدولي (الشعوب)، والحفاظ على الانتماء والخصوصية (قبائل).
  لتعارفوا: إن مهمة الشعوب والقبائل هي في تعارفها، والتعارف يعني التواصل في سبيل الخير.
  إن أكرمكم عند الله أتقاكم: التقوى شرعاً هي: حفظ النفس مما يؤثِـم، وذلك بترك المحظور، (عمدة الحفاظ/مادة: وقى)، والتقوى بهذا المعنى هي اجتناب الأذى والممنوع، وبقدر هذا الالتزام يكون التكريم.

المنطلقات الأيدولوجية في تعارف الشعوب:

أولاً—المرجعية الإنسانية:

كل الناس أصلهم واحد، من أب واحد، تسلسلوا ذكورأً وإناثأ متشابهين في الخلق، وأما اختلاف اللون فهو بسبب التباين الجغرافي والاختلاف الطبيعي الذي لا يؤدي إلى أي تفاضل، وإن ما تواضعت عليه الشعوب من التمايز القومي أو الإقليمي لا يشكل أي انتهاك لوحدة الأصالة الإنسانية.

  وإذا رجعنا إلى أدبيات آخر الأديان وهو الإسلام، على سبيل الاستئناس والقياس، نجد أن الخطاب الموجه ل "الناس" و "العالمين" و "ياأيها الإنسان" و " يابني آدم" هو الغالب في كتاب الله، وهذه المصطلحات لايختلف حولها المفسرون في كونها قاصدة كل العالم الموجود على الأرض، والمعنى أوضح في قوله تعالى :"ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" (سورة النساء/1)، بهذاالمعنى قال الإمام علي (ر):"الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
  كما لايوجد في أي من الديانات أو الأفكار ما ينكر على الإنسان أصوليته المبدئية، فقد ورد في التوراة، التي يؤمن بها اليهود والمسيحيون، في سفر التكوين " فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم، وباركهم الله، وقال لهم: أثمروا، واكثروا، واملؤوا الأرض......".
  وورد في قاموس الكتاب المقدس" وقد شملت العناية الإلهية الإنسان، كيما ترفعه، وترده إلى مكانته من الله"، وورد في معجم اللاهوت الكتابي" ولأن الإنسان هو سيد الأرض، فهو أيضاً وجود الله على الأرض"، وورد في أدبيات ديانة مصر القديمة في مخاطبة الإله سيد الأبدية" أنت الذي أحللت كل إنسان في موضع، وأنعمت عليه بحاجاته، فصار كل منهم يأخذ نصيبه، ويعيش أيامه المعدودة، لقد خلقت ألسنتهم وأجسامهم وجلودهم، فسبحانك من ممـيـِّزٍ لخلقك".
  وورد في عقيدة الهندوس:" على سطح الأرض، نشأ في العالم أول زوج وأول زوجة، واجتمع الزوجان..فكان أول نسلهما النتاج البشري".
  وفي الديانة البوذية ورد أن بوذا يقول لأتباعه من الرهبان:" مبارك كل من كانت فيه الحقيقة والاستقامة..اذهبوا .. وعلموا كل واحد، في كل مكان كيف يجب أن يحيا الإنسان حياة صالحة".
  وفي العقيدة الجانتية اليابانية، "حين يذهب المؤمن الى المعبد يصلي أمام التماثيل داعياً بالسلام والابتهاج لجميع المخلوقات قبل أن يطلب أي فضل لنفسه".
  وفي الكونفوشيوسية" إذا كنت عاجزاً عن خدمة الناس، فكيف تستطيع أن تخدم أرواحهم؟".
  وفي معتقد الداوية:" قابل الإساءة بالإحسان، فأنا طيب مع الطيبين، وطيب أيضاً مع غير الطيبين، فبذلك يصير كل الناس طيبين".
  وفي الزرادشتية:"ومن ذا الذي أخرج العقل النير(أي الإنسان)؟ إنه أنت يا واحد...ياأهورمزدا".
إذن تخلص كل ديانات العالم إلى سواسية وتمجيد ورفعة الإنسان، وكان الإسلام بذلك أثيرا متميزاً.

فقد خلقه من جنس طبيعي واحد، دون تمايز، والكل مخلوق من ذكر وأنثى واحدين، كما بينّـا في مطلع هذا المقال، وزود الله الأب الإنساني بالعلم: "وعلم آدم الإسماء كلها" (سورة البقرة/31)، وكرمه: "ولقد كرمنا بني آدم" (سورة الإسراء/70)، وجعله خليفة في الأرض:" هو الذي جعلكم خلائف الأرض" (سورة الأنعام/165)، وكلف الله الملائكة أن تسجد له بعد أن نفخ فيه من روحه: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.." (سورة البقرة/34) ودلّـه على طريقي الحياة :"و هديناه النجدين" (سورة البلد/10)، وأسكنه في الجنة "..اسكن اكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغدا" (سورة البقرة/35)، ثم سخر له كل شيء لمعيشته ، هذا المخلوق الإلهي - الإنساني هو أبو كل الناس على الأرض.

تلك هي الأنسنة التي أشار إليها روجيه غارودي، في كتابه "الأساطيرالمؤسسة لإسرائيل".
ذلك هو المنطلق الأول البادئ لأي حوار حول العالمية الحائلة دون أي إشكال مبدئياً.

ثانياً —الإعتراف بالآخر:

وهذا يقودنا إلى التسليم بالاختلاف بين البشر، وهذه ظاهرة فطرية، سواءً على الصعيد الجغرافي، أو على الصعيد القومي، أو على الصعيد الأيدولوجي بين الاشتراكية والرأسمالية، أو على الصعيد العالمي دول العوالم الأول والثاني والثالث، أو على الصعيد الديني، وهوالصعيد الأبرزعلى مدى التاريخ، إذ ثمة مذاهب وتيارات ضمن المسلمين، وكذلك لدى المسيحية، واليهودية التي تتياين بين أورثوذكس وكاثوليك وبروتستانت، وإلى جانب تلك المفارقات هناك العلمانيون، أي حوار يمكن أن يوفق بين هؤلاء المتعددين المختلفين؟ يستحيل ذلك مالم نقبل ب "التعددية" كحالة إنسانية واقعة دون أن يتطرّف أحد في أحد مواقعها، وهذا ما تبناه إعلان حقوق الأنسان منذ أكثر من قرنين بنبذ التفرقة بين البشر في الجنس أو اللون أو الدين، في نفس الوقت الذي تصرفيه العقلية اليهودية العالمية على التميز العرقي بناء على صفاء واستعلاء العنصر اليهودي إلى درجة المطالبة الآنية بالاعتراف أن فلسطين المحتلة دولة يهودية صرفة! على الرغم أن قوم موسى الذين خرجوا معه من مصر أصلاً كانوا من بني إسرائيل، منضافاً إليهم - كما جاء في توراتهم- "وصعد معهم لفيف كثيرأيضاً" (سفر الخروج:12/38).
وكان الإسلام منذ اربعة عشر قرناً قد أقر بالاختلاف والتعددية والاعتراف بالآخر، قال تعالى:"ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" (سورة هود/118) وقوله تعالى:"والسماء ذات الحبك، إنكم لفي قول مختلف" (سورةالذاريات/8)، وقوله تعالى:" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" (سورة المائدة/48)،والمأثور عن الرسول (ص):"اختلاف أمتي رحمة" وكذلك المأثور التراثي:" الاختلاف لا ييفسد للود قضية".

وبنظري - أنا شخصياً، على الأقل- فإن رائد التعددية الدينية، واحترام هذا المبدأ الذي عاش في سبيله، والذي كلفه حياته، هو المناضل الهندوسي غاندي القائل:"إنني أملك ثقة عمياء بالله وبوجوده، وميلاً للحق والحب لا ينضب معينه، ولكن أليس هذا كامناً في كل إنسان؟" وأضاف:"إنني لا أريد هيبة ولا صيتاً، فتلك مكانَها قصورُ الأمراء، إنني خادم للمسلمين والمسيحيين والمجوس واليهود بقدر ما أنا هندوسي".
إن ما يقتضي التنبيه إليه هو وجوب أن يحظّـر تجاوز الآخر على الآخر، واستغلال أي أسلوب للتدخل في مكامن أفكاره، أو انتمائه طالما لا يسبب الضرر العام أو للغير، تحت شعار التسامح أو حرية التعبير، بتسفيه معتقده ونقده والتجني عليه بأي وسيلة من وسائل التعبير أو الإعلام، يجب التأكيد على حق الخصوصية العقدية أو الثقافية أو أي مبدأ يعتنقه من يشاء دون أن يمس الآخر، إن الخصوصيات المسالمة يجب اعتبارها، ويدخل هذا في إطار التسامح.

إن التسامح يدعو لفهم الأفكار واستيعابها، ويعمل على استحواذ انتباهنا لخلفيات كافة الأفكار المحيطة بنا، وخاصة أفكار الآخرين المنافسين أو الأنداد، وإن كانت وجهة نظرنا تبدو غريبة وغير مقبولة لدى الآخر الذي يجب، بالمقابل، التسامح معه أيضاً.
وفي ذلك يقول المفكر الفرنسي"فـولتيـر" :"أنا لا أومن بكل ما ما تريد أن تقول، ولكنني سأدافع حتى الموت في حقك أن تقول ما تريد".

إن النقيض للتسامح بأشكاله ( الدينية والفكرية والتعبيرية ...) هو ما انطلق عليه حديثاً مصطلح " الدوغماتية"، ماهي الدوغماتية؟

الدوغماتية: تعريب لكلمة Dogmatism ، وهي تعني الوثوقية أو التوكيدية، وهي تعني أيضاً الاعتقاد الجازم واليقين المطلق، دون استناد إلى براهين يقينية، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق. والدوغماتية ليست مذهباًفلسفياً أو دينياً، وإنما هي سمة وطريقة تفكير تتسم بها أي فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل كامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئاًمن الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات، لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية أو السياقات المكانية والاجتماعية.

وتؤدي هذه الميزة، ميزة " الاعتراف بالآخر" و"احترام الآخر" أو الإقرار ب"حق الخلاف" أو "واقعية التعددية" الى الفضيلة التالية:

ثالثاً - التســــامح :

لن أعرِّف التسامح’ إذ يكفي المعنى اللغوي الظاهر لهذا المصطلح، لكنني سوف أستشهد بالمأثور عن هذه الفضيلة "فضيلة التسامح".

يقول د.رؤوف عبيد في كتابه (الإنسان روح لا جسد):" لولا ميزة "تعدد االأديان"، لما كان لفضيلة التسامح الديني - وهي أصل لفضائل كثيرة - من مبرر ولا مكان. التسامح هو طريق المحبة الحقيقية التي لا تعترف بأخوة أصدق ولا أعمق من أخوة الإنسان للإنسان، وبغيرها يصبح الإيمان بالله نوعاً فحسب من إيمان الإنسان بنفسه وبما ورثه من اعتقاد، وبالتالي حافزاً للأثرة بدلاً من الإيثار، الذي هو الأب الشرعي والأم الرؤوم لكل فضيلة حقيقية ".

إن البديل عن التسامح هو التعصب والتزمت وازدراء الآخر حتى درجة الضرر أو العنف في أقصى السلوكيات الشائنة ضد الآخر أو الآخرين.وهذا ما يجب أن يحرّم ويجرّم كلياً.
== وقد نادى غاندي:"بأن عدم العنف هو قانون الإنسان، كما أن العنف هو قانون الوحش، إن الغابية والقوة والغلبة هي قانون الوحوش، أما القيم - وأهمها: التسامح والأثرة فهي قانون الإنسان وميزته، ولكن متى يعنى الإنسان - ولا سيما إذاكان من النخبة - بهذه الميزة، فلا يكون أقرب لسلوك الوحوش؟".

ورد في التوراة المتداولة (العهد القديم) ما يفيد الدعوة إلى التسامح، من مثل هذه الوصايا :"كل ما تكره أن يفعله غيرك، فإياك أن تفعله أنت بغيرك" وورد :"اغتسلوا وتطهروا وأزيلوا شر أفكاركم (...) وكفوا عن الإساءة، تعلموا الإحسان والتمسوا الإنصاف" ( الكتاب المقدس للمدرسة والعائلة في العهدين القيم والجديد - العهد القديم / بعناية الأب باسيليوس كناكري، ص135). لكن اليهود في الواقع لم يلتزموا بالمعاملة الحسنة المتكافئة مع الآخر، ولم يعرفوا ذلك الإنصاف الموصى به. فقد حارب اليهود كل العالم القديم، واحتقروا، ولا يزالون يسفّلون الآخر، كونهم حسب زعمهم خلق الله المختارين المتميزين أصلاً، وهم الآن فوق القانون وعكس القيم وهمرموز الإرهاب المتمركز في المنطقة العربية. كيف ونبيهم موسى كان يناله الأذى منهم، ووصفهم بأنهم غلاظ الرقبة (أي لا يعرففون الرحمة)، ووصفهم السيد المسيح:" هكذا أنتم، من خارج تظهرون للناس أبراراً ولكنكم من داخل مشحونون رياءً وإثماً"(متى:33/28)، وكان في نهاية المطاف أن استحقوا الوصف الإسلامي "أشد الناس عداوة" (سورة المائدة/82).

أما في الأدبيات المسيحية فقد تميزت بالتسامح، أليس إلا المسيح القائل:" من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الأيسر أيضاً"، ( متى:5/29)، والقائل:" أقول لكم: "إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم" (متى5/23)، وقال:"أما أنا أقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّـوا من أجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم...." (متى:5/44)، وقد قصدته امرأة كنعانية- أي غريبة بالنسبة لقومه - كي يشفي ابنتها المجنونة، فاستجاب لها، على الرغم من معارضة تلاميذه، وقال لها: لك ما تريدين. وعن صراحة التسامح العام - الذي عُبر عنه بالمغفرة الأخوية - جاء في قاموس الكتاب المقدس:" طلب الله من المؤمنين أن يغفروا لإخوتهم المسيئين إليهم، لأنهم إن غفروا للناس زلاتهم يغفر لهم أبوهم السماوي خطأهم، ولا يغفر الله تلك الأخطاء ما لم يغفر الناس لبعضهم البعض".
وجاء في الأدبيات المسيحية :"عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنّـوا إليكم، وإن متُّم بكوا عليكم"، (الكتاب المقدس للمدرسة والعائلة في العهدين القديم والجديد - العهد القديم / بعناية الأب باسليوس كناكري، ص135).

أما في الإسلام، فقد ورد الكثير عن التسامح حتى مع الذين أخرجوا نبي الإسلام من مهده مكة ثم قاتلوه، إذ قال لهم، بعد أن تمكن منهم بفتح مكة،:" اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة، إذهبوا فأنتم الطلقاء..." والوثيقة التي منحت لليهود عقب هجرة الرسول إلى المدينة كانت مثالاً للعلاقات الندية بين ديانتين لم يراعها الطرف الآخر، واختار الغدر والنقض، وكذلك العهدة العمرية بين الخليفة عمر(ر) وبطريرك القدس (صفرونيوس) التي حفظ فيها للاخوة المسيحيين كل حقوقهم وحرياتهم الدينية، وقد اختار هؤلاء أن ينص في هذه العهدة على عدم مساكنة اليهود في المدينة، لما عرف عنهم من مكر وضغينة.

أما في القرآن الكريم فهناك الشواهد الكثيرة على التسامح، فمثلاً قصة ولدي آدم (قابيل وهابيل) التي أوردها اليهود في توراتهم للإشارة إلى أولية الخلاف بسبب الجنس بين أخوين، بينما وردت في القرآن الكريم شاهداً على أعظم تسامح بين ابني آدم، إذ قال الأول للثاني المعتدي:" لئن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك" (سورة المائدة/28)، أما الآيات التي تؤدي إلى الانفتاح الديني على الآخر وعدم إحراجه في اتباع دين الإسلام، فقد كان من أصرحها الآية على لسان الرسول في خطابه للكافرين:" لكم دينكم ولي دين"، وقد سبق ذكرها، وآيات عديدة بهذا المعنى:" فذكّر إنما أنت مذكّر، لست عليهم بمسيطر" (سورة الغاشية/22). و:"ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء" (سورة البقرة/272). و:"لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي" (سورة البقرة/256). و:"آمنا بالله وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله" (سورة البقرة/285). و:"إن الله يغفر الذنوب جميعاً" (سورة الزمر/53). و:"أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (سورة يونس/99). و:"شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا,ً والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه" (سورة الشورى/13)، وقال تعالى في آداب الحوار :"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (سورة النحل/125)، وفي الحديث يقول الله عز وجل:"اسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبادي" والإسماح: لغة في السماح والسماحة بمعنى المتابعة والانقياد، وفي الحديث المشهور:"السماح رباح" أي أن المساهلة في المعاملة تريح صاحبها، وتقول العرب:"عليك بالحق فإن فيه لمسمحاً" أي متسعاً،(لسان العرب).

== وفي هذه المعاني أيضاً، تحدث عدد كبير من الفلاسفة والمتصوِّفين، ومنهم الشاعر الفيلسوف محيي الدين بن العربي المتوفى في عام 638 هـ، والذي كتب في قصيدة معروفة له، يقول:

كنـت قبـل اليـوم أنكر صـاحبـي
إذا لم يكن دينه من شرعتي دانـي
لقد صار قلبي قابلاً كل صـورة
فمـرعــى لغـزلانٍ وديـر لرهبــان
وبــيت لأوثـان وكعبـة طـائــف
وألـواح توراة ومصـحف قـــــرآن
أديـن بديـن الحب أنى توجّــهت
ركائبــه، فالحـب دينـي وإيـمانـــي
 
وفي نفس الاتجاه كتب أمير الشعراء شوقي، يقول:
 
الدين لله من شاء الإله هـدى
لكل نفـس هوى في الدـين داعيها
ما كان مُخْتَلِفُ الأديان داعيـة
إلى اختـلاف البـرايا أو تعـاديها
الكتب والرسل والأديان قاطبة
خزائن الحكمة الكبرى لواعـيها
محبـة الله أصل فـي مراشدها
وخشـية الله أسٌّ في مبـانيـها
تسامح النفس معنى من مروءتها
بل المروءة في أسـمى معانيـها 

إعلان مبادئ بشأن التسامح

الديباجة

إن الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة المجتمعة في باريس في الدورة الثامنة والعشرين للمؤتمر العام في الفترة من 25 تشرين الأول/ أكتوبر إلي 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995،
إذ تضع في اعتبارها أن ميثاق الأمم المتحدة ينص علي أننا "نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا في أنفسنا أن ننقد الأجيال المقبلة من ويلات الحرب... وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره... وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار".
وتذكر بأن الميثاق التأسيسي لليونسكو المعتمد في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1945 ينص في ديباجته علي أن "من المحتم أن يقوم السلم عي أساس من التضامن الفكري والمعنوي بين بني البشر".
كما تذكر بأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد أن "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين" (المادة 18) و "حرية الرأي والتعبير" (المادة 19) و "أن التربية يجب أن تهدف إلي ... تنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية" (المادة 26).
وتحيط علما بالوثائق التقنينية الدولية ذات الصلة، بما في ذلك:

 العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
 العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
 الاتفاقية الدولية للقضاء علي جميع أشكال التمييز العنصري.
 الاتفاقية الخاصة بمنع جريمة إبادة الجنس والمعاقبة عليها.
 اتفاقية حقوق الطفل.
 اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين وبروتوكولها لعام 1967 والوثائق التقنينية الإقليمية المتعلقة بها.
 اتفاقية القضاء علي جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
 اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
 الإعلان الخاص بالقضاء علي جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين علي أساس الدين أو المعتقد.
 الإعلان الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلي الأقليات الوطنية أو الاثنية والدينية واللغوية.
 إعلان وبرنامج عمل فينا الصادران عن المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان.
 إعلان وخطة عمل كوبنهاغن اللذان اعتمدتهما القمة العالمية للتنمية الاجتماعية.
 إعلان اليونسكو بشأن العنصر والتحيز العنصري.
 اتفاقية وتوصية اليونسكو الخاصتان بمناهضة التمييز في مجال التربية.

وتضع في اعتبارها أهداف العقد الثالث لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري، والعقد العالمي للتثقيف في مجال حقوق الإنسان، والعقد الدولي للسكان الأصليين في العالم.
وتضع في اعتبارها التوصيات الصادرة عن المؤتمرات الإقليمية التي نظمت في إطار سنة الأمم المتحدة للتسامح وفقا لأحكام القرار 27 م/5.14 الصادر عن المؤتمر العام لليونسكو، واستنتاجات وتوصيات مؤتمرات واجتماعات أخري نظمتها الدول الأعضاء ضمن إطار برنامج سنة الأمم المتحدة للتسامح،
يثير جزعها تزايد مظاهر عدم التسامح، وأعمال العنف، والإرهاب، وكراهية الأجانب، والنزاعات القومية العدوانية، والعنصرية، ومعادة السامية، والاستبعاد والتهميش والتمييز ضد الأقليات الوطنية والاثنية والدينية واللغوية واللاجئين والعمال المهاجرين والمهاجرين الآخرين والفئات الضعيفة في المجتمعات، وتزايد أعمال العنف والترهيب التي ترتكب ضد أشخاص يمارسون حقهم في حرية الرأي والتعبير، وهي أعمال تهدد كلها عمليات توطيد دعائم السلام والديمقراطية علي الصعيدين الوطني والدولي وتشكل كلها عقبات في طريق التنمية.
وتشدد علي مسؤوليات الدول الأعضاء في تنمية وتشجيع احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بين الناس كافة، بدون أي تمييز قائم علي العنصر أو الجنس أو اللغة أو الأصل الوطني أو الدين أو أي تمييز بسبب عجز أو عوق، وفي مكافحة اللاتسامح.
تعتمد وتصدر رسميا ما يلي:


إعلان مبادئ بشأن التسامح

إننا إذ نعقد العزم علي اتخاذ كل التدابير الإيجابية اللازمة لتعزيز التسامح في مجتمعاتنا لأن التسامح ليس مبدأ يعتز به فحسب ولكنه أيضا ضروري للسلام وللتقدم الاقتصادي والاجتماعي لكل الشعوب، وتحقيقا لهذا الغرض نعلن ما يلي:

المادة 1:

معنى التسامح

  إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح، هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.
  إن التسامح لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل التسامح هو قبل كل شئ اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا. ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية. والتسامح ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول.
  إن التسامح مسؤولية تشكل عماد حقوق الإنسان والتعددية (بما في ذلك التعددية الثقافية) والديمقراطية وحكم القانون. وهو ينطوي علي نبذ الدوغماتية والاستبدادية ويثبت المعايير التي تنص عليها الصكوك الدلاولية الخاصة بحقوق الإنسان.
  ولا تتعارض ممارسة التسامح مع احترام حقوق الإنسان، ولذلك فهي لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها. بل تعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيس بسلام وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض علي الغير.

المادة 2:

دور الدولة

2-1 إن التسامح علي مستوي الدولة يقتضي ضمان العدل وعدم التحيز في التشريعات وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية. وهو يقتضي أيضا إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون أي تمييز. فكل استبعاد أو تهميش إنما يؤدي إلي الإحباط والعدوانية والتعصب.

2-2 وبغية إشاعة المزيد من التسامح في المجتمع، ينبغي للدول أن تصادق علي الاتفاقيات الدولية القائمة بشأن حقوق الإنسان، وأن تصوغ عند الضرورة تشريعات جديدة لضمان المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص لكل فئات المجتمع وأفراده.
2-3 ومن الجوهري لتحقيق الوئام علي المستوي الدولي أن يلقى التعدد الثقافي الذي يميز الأسرة البشرية قبولا واحتراما من جانب الأفراد والجماعات والأمم. فبدون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، وبدون السلام لا يمكن أن تكون هناك تنمية أو ديمقراطية.
2-4 وقد يتجسد عدم التسامح في تهميش الفئات المستضعفة، واستبعادها من المشاركة الاجتماعية والسياسية، وممارسة العنف والتمييز ضدها. وكما يؤكد الإعلان بشأن العنصر والتحيز العنصري فإن "لجميع الأفراد والجماعات الحق في أن يكونوا مختلفين بعضهم عن بعض" (المادة 1-2).

المادة 3:

الأبعاد الاجتماعية

3-1 إن التسامح أمر جوهري في العالم الحديث أكثر منه في أي وقت مضى، فهذا العصر يتميز بعولمة الاقتصاد وبالسرعة المتزايدة في الحركة والتنقل والاتصال، والتكامل والتكافل، وحركات الهجرة وانتقال السكان علي نطاق واسع، والتوسع الحضري، وتغيير الأنماط الاجتماعية. ولما كان التنوع ماثلا في كل بقعة من بقاع العالم، فإن تصاعد حدة عدم التسامح والنزاع بات خطرا يهدد ضمنا كل منطقة، ولا يقتصر هذا الخطر علي بلد بعينه بل يشمل العالم بأسره.

3-2 والتسامح ضروري بين الأفراد وعلي صعيد الأسرة والمجتمع المحلي، وأن جهود تعزيز التسامح وتكوين المواقف القائمة علي الانفتاح وإصغاء البعض للبعض والتضامن ينبغي أن تبذل في المدارس والجامعات وعن طريق التعليم غير النظامي وفي المنزل وفي مواقع العمل. وبإمكان وسائل الإعلام والاتصال أن تضطلع بدور بناء في تيسير التحاور والنقاش بصورة حرة ومفتوحة، وفي نشر قيم التسامح وإبراز مخاطر اللامبالاة تجاه ظهور الجماعات والأيديولوجيات غير المتسامحة.

3-3 وكما يؤكد إعلان اليونسكو بشلاأن العنصر والتحيز العنصري، يجب أن تتخذ التدابير الكفيلة بضمان التساوي في الكرامة والحقوق للأفراد والجماعات حيثما اقتضى الأمر ذلك. وينبغي في هذا الصدد إيلاء اهتمام خاص للفئات المستضعفة التي تعاني من الحرمان الاجتماعي أو الاقتصادي، لضمان شمولها بحماية القانون وانتفاعها بالتدابير الاجتماعية السارية ولا سيما فيما يتعلق بالمسكن والعمل والرعاية الصحية، وضمان احترام أصالة ثقافتها وقيمها، ومساعدتها على التقدم والاندماج علي الصعيد الاجتماعي والمهني، ولا سيما من خلال التعليم.

3-4 وينبغي إجراء الدراسات وإقامة الشبكات العلمية الملائمة لتنسيق استجابة المجتمع الدولي لهذا التحدي العالمي، بما في ذلك دراسات العلوم الاجتماعية الرامية إلي تحليل الأسباب الجذرية والإجراءات المضادة الفعلية، والبحوث وأنشطة الرصد التي تجري لمساندة علميات رسم السياسات وصياغة المعايير التي تضطلع بها الدول الأعضاء.

المادة 4:

التعليم

4-1 إن التعليم هو أنجع الوسائل لمنع اللاتسامح، وأول خطوة في مجال التسامح، هي تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها وذلك لكي تحترم هذه الحقوق والحريات فضلا عن تعزيز عزمهم علي حماية حقوق وحريات الآخرين.
4-2 وينبغي أن يعتبر التعليم في مجال التسامح ضرورة ملحة، ولذا يلزم التشجيع علي اعتماد أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح تتناول أسباب اللاتسامح الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية - أي الجذور الرئيسية للعنف والاستبعاد، وينبغي أن تسهم السياسات والبرامج التعليمية في تعزيز التفاهم والتضامن والتسامح بين الأفراد وكذلك بين المجموعات الاثنية والاجتماعية والثقافية والدينية واللغوية وفيما بين الأمم.

4-3 إن التعليم في مجال التسامح يجب أن يستهدف مقاومة تأثير العوامل المؤدية إلي الخوف من الآخرين واستبعادهم، ومساعدة النشء علي تنمية قدراتهم علي استقلال الرأي والتفكير النقدي والتفكير الأخلاقي.
4-4 إننا نتعهد بمساندة وتنفيذ برامج للبحوث الاجتماعية وللتعليم في مجال التسامح وحقوق الإنسان واللاعنف. ويعني ذلك ايلاء عناية خاصة لتحسين إعداد المعلمين، والمناهج الدراسية، ومضامين الكتب المدرسية والدروس وغيرها من المواد التعليمية بما فيها التكنولوجيات التعليمية الجديدة بغية تنشئة مواطنين يقظين مسؤولين ومنفتحين علي ثقافات الآخرين، يقدرون الحرية حق قدرها، ويحترمون كرامة الإنسان والفروق بين البشر، وقادرين علي درء النزاعات أو علي حلها بوسائل غير عنيفة.

المادة 5:

الالتزام بالعمل

5- إننا نأخذ علي عاتقنا العمل علي تعزيز التسامح واللاعنف عن طريق برامج ومؤسسات تعني بمجالات التربية والعلم والثقافة والاتصال.

المادة 6:
اليوم الدولي للتسامح

6-1 وسعيا إلي إشراك الجمهور، والتشديد علي أخطار عدم التسامح، والعمل التزام ونشاط متجددين لصالح تعزيز نشر التسامح والتعليم في مجال التسامح، نعلن رسميا يوم السادس عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من كل سنة يوما دوليا للتسامح.
تنفيذ إعلان المبادئ بشأن التسامح
إن المؤتمر العام،بالنظر إلي أن المسؤوليات التي يلقيها الميثاق التأسيسي لليونسكو علي عاتق المنظمة فيما يتعلق بمجالات التربية والعلم -بما في ذلك العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية- والثقافة والاتصال، تقتضي منها أن تسترعي انتباه الدول والشعوب إلي المشكلات المتعلقة بجميع جوانب الموضوع الجوهري المتمثل في التسامح واللاتسامح.

وإذ يضع في اعتباره إعلان المبادئ بشأن التسامح، الصادر عن اليونسكو في هذا اليوم السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1995.


1. يحث الدول الأعضاء علي القيام بما يلي:

(أ) الاحتفال باليوم السادس عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من كل سنة كيوم دولي للتسامح وذلك عن طريق تنظيم أنشطة وبرامج خاصة لنشر رسالة التسامح بين مواطنيها، بالتعاون مع المؤسسات التربوية والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية ووسائل الإعلام في كل منطقة.

(ب) إبلاغ المدير العام أي معلومات قد تود أن تشاطرها مع غيرها، بما في ذلك المعلومات التي تسفر عنها بحوث أو مناقشات عامة عن قضايا التسامح والتعددية الثقافية، من أجل زيادة فهمنا للظواهر المرتبطة بعدم التسامح والأيديولوجيات التي تدعو إلي التعصب مثل العنصرية والفاشية ومعادة السامية، ولأنجع الوسائل لتناول هذه القضايا.

2. يدعو المدير العام إلي القيام بما يلي:

(أ) تأمين نشر نص إعلان المبادئ علي أوسع نطاق ممكن، والقيام لهذا الغرض، بنشره واتخاذ الترتيبات اللازمة لتوزيعه ليس باللغات الرسمية للمؤتمر العام فحسب وإنما بأكبر عدد ممكن من اللغات الأخرى. أيضا.

(ب) استحداث آلية ملائمة لتنسيق وتقديم الأنشطة التي يضطلع بها في منظومة الأمم المتحدة وبالتعاون مع المنظمات الشريكة الأخرى تعزيزا للتسامح وللتربية من أجل التسامح.

(ج) إبلاغ إعلان المبادئ إلي الأمين العام للأمم المتحدة ودعوته إلي عرضه علي النحو الملائم علي الدورة الحادية والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة وفقا لأحكام قرارها 49/213.

ماهي غاية تعارف الشعوب؟

الاستراتجية المنشودة هي التعارف من أجل تثبيت ما هو متفق عليه لدى أي من الجماعات والأفراد في العالم، مما تجمع عليه الأديان والفلسفات، على صيغة" ميثاق شرف عالمي" جوهره "القيم الأخلاقية" التي تجمع عليها كل الأديان والجهات السياسية والاجتماعية والثقافية والدولية.....
من ينكر أن جميع الديانات وتلك الجهات إنما تهدف إلى "الأخلاق" مبدئياً؟
ان جميع عقائد الشرق الأقصى تدعو إلى الأخلاق...إلى الخير في مواجهة الشر. وتزخرأدبياتهم بالوصايا الأخلاقية.
وفيما يلي بعض الشواهد:

يقول بوذا:" هذه هي الحياة .. كلها آلام...والطريق الصحيح إلى الحياة الصالحة هي الوصايا الخمس للاستقامة:

1 - لا تقتل كائناً حياً.
2 - لا تسرق، أو تأخذ ما لم يعط لك.
3 - لا تقل كذباً قط.
4 - لا تقم على دنس.
5 - لا تسكر، أو تخدّر نفسك في أي وقت.

إن من يلتزم بها سيدخل النيرفانا (وهي درجة التنوير السامية).
وكان بوذا يحض أتباعه على الحب البيني والحب الإنساني قائلاً: على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالمودة، وأن يزيل الشر بالخير، أن الصراعات تولد المقت للمغلوب والخوف من الانتقام للغالب، من أجل ذلك الحب..عاش الملايين من أتباع بوذا يحبون بعضهم، كما يحبون كل من يتحدث إليهم بعبارة جميلة، تقول:"السلام على جميع الكائنات".

أما ماهافيرا رائد العقيدة الجانتية المنتشرة في اليابان فيقول:"في داخل نفوسكم الخلاص...فليس بالصلاة ولا بالقرابين.... ولا بعبادة الأصنام والأوثان.... يمكن للمرء أن يجد الغفران... أو أن يصل إلى طريق الحياة الصالحة، ولكن بالعمل الطيب، يمكن بلوغ "النيرفانا".

 ويقول كونفوشيوس:"إن أول ما يجب على الناس أن يعرفوه، هو أن أي إنسان لا يستطيع أن يعيش وحده ويصبح سعيداً".
 أما زرادشت فقد أوضح أن العالم تحكمه قوتان: قوة الخير ويمثلها:أهورامزدا، وقوة الشر ويمثلها أهرمان. وأوصى بست خصال:

1 - طهارة الفكر والكلمة والعمل.
2 - النظافة، والبعد عن كل ما هو دنس.
3 - الإحسان بالفعل والقلب.
4 - الرفق بالحيوانات النافعة.
5 - القيام بالأعمال النافعة.
6 - مساعدة الذين لا يتيسر لهم تحصيل التعليم بتعليمهم.

 أما في الأدبيات الموسوية، فقد وردت الوصايا العشرالمنزلة على النبي موسى، وفيها من المبادئ الأخلاقية: "لاتقتل ، لاتزن، لاتسرق، لاتشهد زوراً، لا تشته امرأة،،،" وفي سفر المزامير المنسوبة لداود، حيث جاء في مطلعها: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس، .... فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينضج..." وفي موضع لاحق ورد:"الرب صالح ومستقيم، لذلك يعلـّم الخطاة الطريق* يدرِّب الودعاء طُـرَقَهُ* كل سبل الرب رحمة، وحق لحافظ عهده وشهاداته* " وفي موضع آخر:"من هو الإنسان الذي يهوى الحياة، ويحب كثرة الأيام ليرى خيراً* صن لسانك عن الشر وشفتيك عن الكلم بالغش* حد عن الشر، واصنع الخير* اطلب السلامة، واسع وراءها* ...الشر يميت الشرير، ومبغضو الصديق يعاقبون*. وقد ورد في سفر الجامعة:" ثم رجعت، ورأيت كل المظالم التي تجري تحت الشمس، فهي ذا دموع المظلومين ولا مـُعِزّ لهم، ومن يد ظالميهم قهر، أما هم فلا مـُعِزَّ لهم* فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد* وخير من كليهما الذي لم يولد بعد، الذي لم ير العمل الرديئ الذي عمل تحت الشمس". وورد في الأمثال المنسوبة إلى سليمان:" إذا دخلت الحكمة قلبك، ولذّت المعرفة لنفسك* فالعقل يحفظك، والفهم ينصرك لإنقاذك من الشرير ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب* التاركين سبل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة* الفرحين بفعل السوء المبتهجين بأكاذيب الشر* الذين طرقهم معوجة وهم ملتوون في سبلهم*".
# - أما في الأدبيات المسيحية، فقد كان السيد المسيح يبدي اللطافة والشفقة، وكان محبوباً، ووهبه الله المعجزات ليشفي المرضى، وكان لا يتورع أن يذهب إلى أي مكان فيه مساعدة، كما جاء في انجيل متى9:36، ولوقا19:2-10، ودعوته الحبية هي التالية:"تعالوا إليّ ياجميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (متى11:28-30). وكان مما تميزت به المسيحية ذلك التسامح الذي سبقت الإشارة إليه. والهتاف بالمحبة والسلام مما تعج به الأناجيل المعتبرة.

 أما في الاسلام، فقد وصف الله نبيه محمدا (ص) :"وإنك لعلى خلق عظيم" (سورة القم/4)، وقول هذا النبي:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، كم جميل أن يعبر عن غاية الدين، بل كل الأديان، بأن الغاية هي تكريس الأخلاق، وعن الرسول محمد(ص) أيضاً:" ما شيئ في الميزان أثقل من حسن الخلق"، وقوله:" أحسن الحسن الخلق الحسن". أن أهم قيمة أخلاقية على الصعيدين الفردي والإنساني بإجماع كل الشرائع هي:" الخير" وقد وردت في القرآن الكريم/176/ مرة، أي أكثر المفرددات إطلاقاً بعد لفظ الجلالة، ووردت قيم أخلاقية أخرى، منها على سبيل المثال: لفظ "السلم والسلام" ورد/138/ مرة، وكلمة "الحب"، وردت/38/ مرة، و"المودة/29/ مرة.
# - يقول د. رؤوف عبيد (مسيحي مصري، وكيل كلية الحقوق بجامعة القاهرة) في كتابه: "مفصّل الإنسان روح لا جسد":" إن الدين الحق والأخلاق الحقة، يرتبطان معاً ارتباطاً لا ينفصم، والدين للأخلاق بمثابة الماء للبذرة التي وضعت في الأرض"، (ج3ص180).

# - وفي هذا الصدد يقرر الفيلسوف الاجتماعي جوستاف لوبون:" ومما قلته غير مرة، أن قوة الأمم بأخلاقها لا بذكائها، والذكاء يساعد على البحث في أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها، والأخلاق تعلم الخير ومكافحة ضروب الاعتداء بنجاح"، ويضيف:"وللأخلاق نفوذ ذو سلطان قوي على حياة الأمم، لقد تسرب الانحطاط إلى الكيان الامبراطوري الروماني لأنهم أضاعوا صفاتهم الخلقية من ثبات ونشاط وصلابة واستعداد للتضحية في سبيل مثل عال، ومن احترام وثيق للقوانين، أي أنهم أضاعوا هذه الصفات التي كانت سبب عظمة أجدادهم".

وحول التلازم بين الأخلاق والمعتقدات، يقول غوستاف لوبون:"ولا مراء في أن تاريخ الأمم السياسي والفني والأدبي وليد معتقداتها، بيد أن المعتقدات مع تأثيرها في الأخلاق تتأثر بالأخلاق تأثراً عظيماً، وإذا سألت عن أخلاق أمة ومعتقداتها وجدتها مفاتيح مصيرها، والأخلاق بحكم عدم تباينها بين الشعوب أو عبر الأزمنة أو الأمكنة تجدها عاملاً هاماً في الثبات والاستقرار المؤديين إلى وحدة العالم وسلامه". (عن كتاب/السنن النفسية لتطور الأمم/ ترجمة الأستاذ عادل زعيتر1975 ص16).

 وقد أفاض الأدباء والشعراء في مدح الأخلاق، نذكر على سبيل الاستذكار:
  وإنما الأمـم الأخلاق ما بقيـت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبــوا
  صلاح أمرك للأخلاق مرجعـه فقوِّمِ النفس بالأخلاق تســتقمِ
  إنـا طرقـنا الحيـاة كل باب فوجدنا الأخلاق بابَ النــجاةِ
أقول: "إني استعرضت تواريخ الأمم، وأسباب سقوطها - الإغريق، الرومان، البيزنطيين، وغيرهم - فوجدت أن أبسباب انهيار تلك الامبراطوريات هو انحدار أخلاق قادتها ثم تسرب الفساد إلى مجتمعاتها"، وقد وجدت مثل هذا المعنى يتردّد في "قصة الحضارة" مؤلفها /ول ديورانت/.

ما هو الحل؟

إن القاسم المشترك بين شعوب الأرض هو القيم الأخلاقية، فلنتجاوز، بمناسبة الحوار الخلافات العقائدية، دون أن نتعرض لها، لأن الحوار على أساسها لاطائل له، ولا يمكن للببغاوات أن يتفقوا، " قل كلٌ يعمل على شاكلته" (سورة الإسراء/84)، إن المؤلف بين الناس هو "الإلـــه" مهما اختلفت أسماؤه و رموزه، وأينما كان، وأياً كان الاسم أو الشكل. "ولكن الله ألّف بينهم" (سورة الأنفال/63) والكل يهدفون إلى " الخيرأو النفع العام الإنساني" وهو غاية الأخلاق، ويبقى التآلف والتحاور السبيل إلى التعارف، تعارف الشعوب.

ما هو الأسلوب؟

الأسلوب يكون مبدئياً بدعوة النخب الفكرية من جميع الاتجاهات والتيارات في شعوب الأرض، إلى اجتماع بعيداً عن المؤثرات السياسية أوالدينية أو القومية أو أي تعصب أو فكرة ثابتة مما لا يتفق مع المنطلقات الثلاث التي سبق أن ذكرناها، (مبدأ المرجعية الإنسانية، وميزة الاعتراف بالآخر، وفضيلة التسامح)، وعلى هذا الاجتماع أن يقرر كيفة المتابعة باختيار المشاركين المناسبين، وكافة الإجراءات التنظيمية والتنفيذية من أجل المهمة تحت عنوان " تعارف الشعوب" وصولاً ألى ما هو متفق عليه لدى الجميع بشكل مطلق، كما سبق البيان.

ويستلزم هذا الاقتراح مبادرة جهة ثقافية أو شخصية فكرية قادرة على الأداء، بشرط واحد فقط وهو الالتزام بالمنطلقات الثلاث.

وأرى أن يبادر من يجد في نفسه الملاءة والاجتهاد في هذا الشأن الإنساني، ممن يتمتع بالمواصفات التي سبق ذكرها، فيحقق عملياً الدعوة للمفكرين من جميع الشعوب للتنادي من أجل التدارس والمتابعة بروح رياضية - كما يقال - منفتحة، حرة، وبأسلوب ديمقراطي، ولولا كاهل السن لبادرت، ،وإذا كان لدى الشيوخ الحكمة، فإن لدى الشباب الهمة.

إن آخر ما أود أن أختم به هذه الدراسة هو الحديث الشريف، الذي يعتبر النبراس في ما هدفت إليه، وهو:

"الخلق كلهم عيال الله
وأحبهم إلى الله
أنفعهم لعياله"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى