الثلاثاء ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

نزوة طائشة

تسمرت (نهال) في الشرفة الباردة، المثلوجة تنتظر زوجها على أحر من اللظى، تساؤلات محمومة، معتمة تطرق رأسها المتعب بآلاف المطارق، تلهب دماغها بجنون عبثي، وتجلد جسدها بألف جلدة، تتأوه محترقة بجراحاتها الغائرة كالأخاديد، والتي تنزف وديانا جارية من الألم، والغثيان، والتوهان، وفي محاولات يائسة مهمشة تود الانسلاخ من عالمها المكفهر الذي يشابه فصل شتائي دامع، تخونها النتائج، وتعود أدراجها منهزمة، منكسرة كطير جريح.

الواقع المر يفرض نفسه فرضا، ويدفعها دفعا مكرها لأن تستكين على شاطئ صدره، وترضى عن قناعة مطلقة بنصيبها.
لقد سكنه هاجس التغيير كما يسكن الجن دواخل الإنس، تعود مؤخرا الولوج إلى بيته في وقت غير محبذ، عادة قبيحة في منتهى القرف اكتسبها من بعض رفقاء السوء، خمر، نرد، وسهرات متواصلة مع اللواتي استوطنهن شيطان الرذيلة، وابتلعهن فم الحرام.

لسعات البرد البالغة القسوة تنفذ عنوة إلى العظم كالمناشير القاطعة، الوضع المزري يتأزم يوما بعد يوم، ويزداد تفاقما كلعنة العصر بسرعة غريبة، مذهلة.
انسحبت(نهال) من مكانها الأليف بصمت حارق مفجوع يفطر القلب، وعيناها قريتان شجيتان عصف بهما زمهرير الخراب. خامرها شعور طاغ لا ريب فيه بأن لا جدوى من الانتظار، لا جدوى أبدا.
الانتظار داء مرعب لاسع، حياتها كلها محطات انتظار. فما أبشعه وهو ينفخ بهمجية فعالة في تلافيف الجسد الممزق سموم القلق، والتوتر، والانفعال!

انحشرت في فراشها كالنعجة المطاردة، شعورها بالخيبة والانكسارأهلك رقادها. كيف لها أن تنعم بليلة هنيئة، شهية وهو هناك يقترف ما يحلو له من المحرمات غير آبه بها، ولا بفلذات كبده؟
تحملق في صفحة الفراغ الهزيل بحيرة ذاهلة، مؤثرة، تغزوها شرارات متوهجة من اليأس العارم فتتكهرب كسنونوة معذبة أدركتها موجات عنيفة من القهر، وبالتالي تدفن محياها بين راحتيها لتفرغ ما في صدرها الجريح من تنهدات، وسخط، وعذاب.

نشيجها الدامي المتقطع يمزق ستار الكون، ويخترق الضباب الكثيف، ويعانق الليل الباكي بتوهان متعجرف، غريب.
تناهت إلى سمعها طرقات على الباب، همست في دخيلتها: إنه هو، إنه هو.
والتمست طريقها نحو الباب بعدما نفضت عن نفسها الغطاء، فتحته وقلبها يرجف كورقة في مهب العاصفة الشنعاء، دلف إلى الداخل مترنحا من شدة السكر.
نطقت بصوت ذبيح: أنسيت نفسك في غمرة هذه الدنيا المشاغبة، اللعوب؟ ماذا جرى لعقلك يا رجل؟

تفوه في فتور: أتركيني وشأني.

رائحة الخمرة المعتقة تفوح من فيه بشكل مزر رهيب.

ـــ ألا تراعي حرمة البيت، وقدسيته؟ يستحيل أن تظل على هذا الوضع الهش، المشين، يستحيل.

انكفأ على السرير دون أن ينزع نعليه، وما هي إلا لحظات حتى أسبل جفنيه، وانغمس في واحات الكرى المشتهاة.

سمعته يغمغم: سعاد، سعاد.

تساؤلات متلاطمة كالموج العاتي تقاذفتها يمنة ويسرة، ضعضعت كيانها من موقعه، وأفقدتها نعمة التركيز.
تمتمت حائرة، مفزوعة: من هي سعاد التي استساغ لسانه طعمها، وتلفظت بها شفتاه؟ وهل صار زوجي أسيرا تكبله أغلال الهوى؟

البارحة فقط اندلعت بينهما معركة حامية الوطيس دفعتها لأن تثور في وجهه ثورة العواصف: انجرفت وراء تيار فاسد مآله الخيبة والضياع.

احمرت عيناه كفهد غاضب، وزمجر كالمعتوه: من تظنين نفسك أيتها اللئيمة حتى تقفي حجرة عثرة في طريقي؟

ردت عليه وكلها ثقة: أنا زوجتك وأم أولادك. أليس لي الحق في التصدي لك عن كل ما يلحق الضرر بنا، ويشوه سمعتنا؟ أنظر إلى نفسك في المرآة وتأمل ذلك الشيب الذي اشتعل في رأسك. أو تظن أنك ما زلت مراهقا تغازل بنات العشرين؟ اتق الله يا رجل، وفكر في أمور أخرى أكثر جدية تكسبك مهابة، ووقارا، و…..

ـــ كفاك تأنيبا لاذعا، أنت تدفعينني بإلحاح شديد لارتكاب ما لا تحمد عقباه، سأقطع لسانك الخبيث إن لم تضعي على فمك كمامة. مفهوم؟

سألته عساها أن ترمم مشاعرها المنهارة: من هي سعاد؟ صارحني بالحقيقة.
نطق متلعثما، مشدوها: سعاد! وهل تعرفينها؟

ـــ إذن شكي كان في محله، سعاد ليست وهما، بل حقيقة ناصعة. أتخونني دون أن تخضع لتأنيب الضمير؟

ـــ أليس من حقي تجديد حياتي؟

انبثق منها صوت مهزوز وهي تتهاوى في قاع الدمار: تجديد حياتك!؟
قال مؤكدا: سأرتبط بمن أحب عما قريب.
خرج وصفق الباب وراءه.

ارتاد مكانه المعتاد، سعاد وأخريات من بنات حواء ينتظرن من يسخو عليهن بالمال الوفير.
لقد أمطرها بمجوهرات نفيسة لم تحلم يوما بها، سكن فاخر يخلب اللب، وسيارة من آخر طراز تدوخ العقول، و….، و….،و….
قال لها ليغمرها بفيض من الحبور: أنا رهن إشارتك أيتها الغالية.
ضحكت باستهتار، وأغرقته في مستنقع التأنيب: لم تعد صالحا، صرت مفلسا يا رجل.
هب من مقعده واقفا كأنما سممته أفعى، ورد عليها بصوت صارم خشن: الآن صرت في نظرك نكرة من النكرات، صرت لا محل لي من الإعراب. ألم أكن وفيا، ومخلصا لك بأتم معنى الكلمة؟

ردت بسخرية فجة: الوفاء! أللوفاء مكان في هذا الزمن الأغبر؟ دعك من هذه الكلمة الجوفاء التي لا تنشئ قصورا، ولا تدر ذهبا خالصا.
ضغط على ذراعها بقوة حتى كاد يكسرها، صرخ والشرر يتطاير من عينيه الجاحظتين: ضربت بمحبتي الخالصة عرض الحائط، سألقنك درسا في الآداب و…..
ما كاد يتمم تهديداته حتى أحس بضربة على كتفه اهتز على إثرها، استدار مفزوعا وإذا بضربة أخرى توجه إلى بطنه.

صرخ الشاب المتعجرف في وجهه: أغرب من هنا، وإذا عدت مجددا سيكون حتفك على يدي. أفهمت؟

اندفع الرجل نحو الباب وهو في حالة يرثى لها.
قال لزوجته والندم يمزقه إربا إربا: لقد ارتكبت خطأ جسيما في حقك، أسأت إليك إساءة بالغة، طعنتك في كرامتك، كنت ظالما، ولم أنتبه للإشارة الحمراء التي ستودي بي إلى الهلاك. سامحيني.

لم تطمئنه بإجابة شافية تضمد بها جرحه، لقد فقدت كامل ثقتها به.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى