الأربعاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم عادل الأسطة

صورة اليهود في أدب الياس خوري

أولاً: " مملكة الغرباء ":

ولد الياس خوري في بيروت عام 1948، عام النكبة، ونتج تضامنه مع القضية الفلسطينية عن هزيمة 1967، وغدا إثرها فدائياً وذهب إلى الأردن ليلتحق بقواعد المقاومة هناك، ولم ينتم الياس إلى حزب سياسي يساري، كما أنه ليس من عائلة يسارية. إنه ابن عائلة عادية، ولهذا فقد اتجه إلى المقاومة وإلى أكثر محل يتسع لكل الأفكار فيها، وهكذا انتمى إلى منظمة فتح التي كانت تتسع للفرد سواء أكان قومياً أم إسلامياً أم يسارياً. وكان هو جزءاً من مجموعة يسارية في فتح، وإن لم يكن يسارياً تماماً. وتربى تربية مسيحية عميقة، وأدرك ما يعنيه الظلم، وربط الشعب الفلسطيني بالمسيح وعذاباته، ولكن ما أثر فيه أكثر، كما يظن، هو مناخ الحركة الثورية اليسارية التي اجتاحت العالم في الستينيات.
وقد كتب الياس العديد من الروايات والقصص القصيرة، وحاز على جائزة دولة فلسطين للرواية، وذلك عن روايته " باب الشمس "(1998)، وربما عرف كاتباً على مستوى عريض من خلال نشر روايته " مملكة الغرباء " الصادرة عام 1993، في سلسلة كتاب في جريدة، وإن كان معروفاً على مستوى عربي من خلال دراساته ورواياته وترجماته وإشرافه على سلسلة ذاكرة الشعوب التي صدرت في بيروت عن دار مؤسسة الأبحاث العربية. وغدا معروفاً لقراء في دول أوروبية، من خلال ترجمة بعض أعماله إلى لغاتها، فقد ترجمت بعض رواياته إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والسويدية. وفوق هذا كله، فقد درّس في جامعتي ( كولومبيا ) و (نيويورك) كما درس في الجامعتين اللبنانية والأمريكية في بيروت.

الياس خوري إذن كاتب لبناني من أسرة عادية، تربي تربية دينية مسيحية عميقة، وتفتح على هزيمة 1967، وكره الظلم، وتأثر بالأفكار الماركسية، وانتظم إلى فصيل فلسطيني هو حركة فتح. ولعل هذا كله يعطي تصوره عن مرايا الذات والآخر في نصوصه، حتى قبل أن يقرأ المرء رواياته نفسها.
سوف أتوقف هنا أمام قصته الطويلة " مملكة الغرباء " لأبرز صورة اليهود كما بدت فيها. ثم سأعود وأكتب عن صورتهم في رواية " باب الشمس ".
إذا بحثنا عن الياس خوري في روايته فسنجده حاضراً حتى دون أن يذكر اسمه، إننا في الرواية نقرأ عن فدائي لبناني يذهب إلى الأردن، يعد أطروحة دكتوراة عن الحكايات الشعبية، يقيم في أمريكا لفترة، ويكتب الرواية، ويلتقي بسلمان رشدي، ويؤرقه - أي الياس - الشكل الروائي، ويذكر اسم روايتين له " الجبل الصغير " (ص22) و " وجوه بيضاء " (ص28)، وينطق بآراء نقدية في المقابلات التي أجريت معه، قريبة من آرائه النقدية في الرواية. من ذلك مثلاً ما قاله، في المقابلة التي أجراها معه سامر أبو هواش، عن اختلاف أدبه عن أدب مارون عبود، وما ورد في " مملكة الغرباء "، وهو:

" لماذا لم تُروَ هذه الحكايات أو ما يشبهها من قبل؟ لماذا لا نجد في كل نصوص مارون عبود حكاية تشبه حكايات الدكتور لطفي بركات؟ والحكاية لم أؤلفها أنا، مثل رشدي الذي لم يؤلف حكاية الملاءة، ومثل نجيب محفوظ الذي لم يؤلف حكاية السيد أحمد عد الجواد. الحكاية موجودة، روتها مريم أو رويتها أنا، لا فرق ( ص 103 ).

كيف سيتصور الياس خوري شخصياً، إذن، اليهودي؟ وكيف سيكتب عنه؟ هل ستختلف صورة اليهودي في نظره عن صورة اليهودي لدى مثقف لبناني، مسيحي التربية، مُنفتح على الأفكار الماركسية، عاش في الغرب والتقى هناك، في الجامعة أو في المراكز الثقافية، اليهود، وكان التقى بمثففين فلسطينيين يساريين وعمل معهم وتأثر بهم تأثراً كبيراً. هل سيختلف تصوره لليهود عن تصور محمود درويش مثلاً؟ يتطابق، كما لاحظنا، الراوي الرئيس في الرواية مع الياس خوري، ولعلنا حين نقرأ رأي الراوي في اليهود، نقرأ رأي الكاتب نفسه. لا فرق.

يلتقي الراوي، وهو في أمريكا، بطالب إسرائيلي هو ( إميل آزاييف ) يعيش في نيويورك، ويريان معاً فيلماً قصيراً أخرجه أحد أصدقاء إميل عن " كندا بارك " في القدس - أي عن القرى الثلاث، عمواس وبيت نوبا ويالو، التي دمرها الإسرائيليون فور احتلالهم الضفة الغربية عام 1967، وحولوها إلى " كندا بارك "، من أجل توسيع مدينة القدس ". (ص28).

وغالباً ما ينعت الراوي إميل بأنه صديقه. وغالباً ما تجمع بينهما الحكايات حيث يصغي كل واحد منهما إلى حكاية الآخر. هنا نقرأ عن اليهودي الأوروبي الذي هرب والده من بولونيا إلى فلسطين لينجو من مذابح الإبادة.
كان إلبير والد إميل يسير في أحد شوارع صوفيا، وكان أخوه في سيارة الاعتقال، ولما رأى المعتقل أخاه في الشارع أخذ يصرخ، دون أن يدري إلبير سبب صراخ أخيه:

" هل كان أخي يريد قتلي، أم كان خائفاً، والخوف يستطيع أن يجعل الإنسان يفعل كل شيء؟ "(ص 31 ) أم أنه أراد أن يحذر أخاه.
ولم يكن إلبير يرغب في البقاء في فلسطين التي وصل إليها عن طريق الوكالة اليهودية. أراد الذهاب إلى سويسرا، ولكنه وصل إلى تل أبيب، وهناك التقى زوجته، وهي فتاة روسية الأصل ولدت في فلسطين، وبقي معها.

وخلافاً لوالده، يهاجر إميل إلى نيويورك، وذلك عندما رأى العدالة المستحيلة في إسرائيل. خدم في الجيش خلال حرب 1973، ثم انتقل للعمل في قطاع غزة. وهناك قرر الهجرة إلى أمريكا. في غزة رأى الكهل يمشي جاثياً على ركبتيه ويديه ويتراجع إلى الخلف خوف أن تطلق النار على ظهره:

" الهجرة كانت بسبب غزة. هناك أمام مخيم " الشاطئ " تَمَّ تجميع كل الذكور، من عمر 14 سـنة حتى 70 سـنة. بعد أن وقف سـت سـاعات تحت شـمـس آب الحارقة، مع المئات من الرجال، طلب الرجل الكهل الذهاب إلى الخلاء كي يقضي حاجته. أذن له إميل الذي كان مجنداً في العشـرين من عمره، خرج الرجل من الصف، وبدأ يمشـي بتلك الطريقة المخيفة، جثا على ركبتيه، يداه على الأرض، وتحرك إلى الوراء، مخافة أن يطلقوا عليه النار في ظهره ".(ص 114).

وتذكر حكاية إميل قارئ الأدب العربي بقصيدة محمود درويش " جندي يحلم بالزنابق البيضاء " (1967). يرغب الجندي في الرحيل لأنه لا يرغب في مواصلة القتل. لقد جاء لكي يحيا مطالع الشموس لا مغربها. إنه يريد أن يشرب قهوة أمه، ويعود آمناً في المساء. وتذكر حكاية هجرته وسببها، تذكر المرء بما أقدمت عليه المحامية الإسرائيلية المشهورة(فيلتسيا لانجر). قالت إنها هاجرت من إسرائيل، لأنها لم تستطع مواصلة عملها وتحقيق العدالة في بلادها.

( إميل آزاييف ) ووالده ( إلبير )، إذن، نموذجان موجودان في الواقع، وموجودان في النصـوص الأدبيـة. يذكر ما حدث مع ( إلبير )، يذكر المرء بما حدث مع ( ايفرات كوشن ) و ( ميريام ) في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا "(1969). يأتي هذان إلى فلسطين عن طريق الوكالة اليهودية، ويفاجآن بأنها ليست أرضاً بلا شعب، ولكنهما حين يحصلان على المنزل وعلى ابن يتبنيانه، يبقيان في فلسطين، ولا يتركانها.

اليهودي العربي الحاضر في الرواية هو وديع السخن. ووديع هذا يهودي لبناني أباً عن جد. يتكلم العربية، واسمه اسم عربي، وهو غير معزول عن عرب لبنان. إنه مضارب تجاري، وله شركة يتقاسمها مع اسكندر نفاع المسيحي اللبناني. وتتزوج ابنته راحيل من مسلم وتبقى في لبنان ولا تغادرها إلا حين تشتعل الحرب الأهلية. هنا تقرر الذهاب إلى باريس لتلتحق بابنتها أندريه هناك.

ولا يغادر وديع السخن لبنان إلى فلسطين/إسرائيل لأنه لا يريد أن يغدو إسرائيلياً، تماماً كما أنه لا يغادر لبنان لأنه يشعر أنها ليست وطنه وأن وطنه هو الدولة الجديدة. ولا يغادرها أيضاً بسبب مشكلة مع ابن شريكه الذي تحول إلى شريكه وصديقه ومثل ابنه وأعز، كما كان يقول:
" مشكلته كانت ابنه موسى. موسى كان يبحث عن البداية، بداية الحياة وبداية الحرية. الحرية الشخصية، الحرية مع النساء، الحرية من بيروت، الحرية من التقاليد اليهودية الصارمة التي كانت سائدة في البيت، والحرية من الأب. وكان الوالد يوافق ابنه على ضرورة " العودة " وعلى كل شيء، ولكنه لم يكن يريد أن يذهب لأنه لم يكن يستطيع. كان كما قال له ابنه مرة ينتظر الموت ولا شيء آخر . " (109)

ويغادر وديع لبنان عام 1959 إلى فلسطين، ولكنه غادرها حين غادرها ابنه، وحين غادرتها زوجته، صار بيته فارغاً، ولم يعد يطيق الحياة، فباع كل شيء ورحل، ولم يترك في بيروت سوى ابنته راحيل المتزوجة من مسلم. ويموت وديع السخن في تل أبيب، يموت بعد وصوله بثلاث سنوات:
" لم يحتمل أن يصبح لا شيء، مجرد إنسان متقاعد "(ص108).

وربما يسترجع المرء، وهو يقرأ قصة وديع السخن هنا، أعمالاً أدبية عربية وفلسطينية عديدة تحدث كتابها فيها عن اليهود العرب الذين هاجروا إلى فلسطين/إسرائيل. ولعل النموذج الأقرب هو ثلاثية نبيل خوري المعروفة باسم ثلاثية فلسطين " حارة النصارى "(1969) و " الرحيل "(1974) و " القناع "(1974). وفي الجزء الأخير نعثر علـى اليهودي اللبناني(راؤول) الذي ترك بيروت بعد العدوان الثلاثي على مصر، مهاجراً إلى إسرائيل. " تركت لبنان لأنني يهودي، واخترت إسرائيل لأنها وطن اليهود " " بعد حرب السويس شعرت فجأة بأنني غريب في لبنان، مرفوض، لقد رفضني مجتمعكم ... أصبحت وحيداً ... ".

ويخلص أحمد أبو مطر في كتابه " الرواية في الأدب الفلسطيني " ( بيروت، 1980 )، وهو يعالج الرواية إلى أن الحوار بين كمال الفلسطيني وراؤول اليهودي يكشف الأسباب التالية للهجرة:

أ- لم يتعرض راؤول لأي اضطهاد في لبنان. بل بالعكس، إذ كان الشخصية المحببة لكل رواد الإكسلسيور. ووالداه ما يزالان يعيشان في بيروت.
ب- إن هجرته إلى إسرائيل كانت نتيجة وقوعه تحت تأثير الدعاية الصهيونية القائلة بأن " إسرائيل " وطن لليهود من كل أنحاء العالم.
ج- إن وجوده في إسرائيل، غيّر كثيراً من آرائه، وجعله مقتنعاً بمفاهيم لا يختلف اثنان على خطئها، في حين يراها هو عين المنطق والصواب "(366).

طبعاً ثمة اختلاف بين هجرة وهجرة، ولكن اليهودي اللبناني، من الجيل الجديد، يغادر لبنان إلى إسرائيل.
في رواية " مملكة الغرباء " يميز الياس خوري بين اليهودي والإسرائيلي. حين يكتب عن وديع السخن يكتب عن لبناني يهودي الديانة، وحين يكتب عن يهود أوروبا يكتب عن يهودي بولوني، على سبيل المثال، ولكنه حين يكتب عمن ولدوا في إسرائيل يكتب عن إسرائيلي:
" لست أدري لماذا تذكرت وديع السخن حين التقيت إميل أزاييف. كان إميل هو أول رجل إسرائيلي التقيته في حياتي ".( ص 27 ).
ومرة أخرى إذا وحدنا بين الياس خوري وأنا السارد في هذه الرواية، لا بد لنا من وقفة أمام هذين السطرين. وكان ذلك في عام 1981.
" نيويورك 1981.

الحرب الأهلية في لبنان تحولت إلى وجوه بيضاء، وأنا في نيويورك أعد بحثاً أكاديمياً عن الحكايات الشعبية الفلسطينية، وأبحث عن شخصية جرجي الراهب.

في مكتبة جامعة كولومبيا، التقيت إميل. كان أسمر، كثّ اللحية، يتكلم الأمريكية بلهجة شرقية .... "(ص28).

والسؤال الذي نثيره هو هل يقصر الياس خوري لفظة إسرائيلي على يهود دولة إسرائيل؟ وماذا عن العرب المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون في الدولة ويحملون جنسيتها؟

كان الياس خوري، حسب ما أعرف، قبل أن يقابل ( إميل ايزاييف ) قد التقى إميل حبيبي، وحاوره هو ومحمود درويش، ونشرا المقابلة في مجلة الكرمل، في العام نفسه، فكيف نظر الياس خوري إلى إميل حبيبي الذي استلم، فيما بعد، جائزة الدولة الإسرائيلية؟ وربما تعيدنا عبارة الراوي " كان إميل ( ايزاييف ) هو أول رجل إسرائيلي التقيته في حياتي " ربما تعيدنا إلى سؤال الهوية.

اليهودي غريب من الغرباء في مملكة الغرباء:
السؤال الذي يثيره المرء، وهو يبحث عن صورة اليهودي في رواية " مملكة الغرباء " هو: هل ثمة ملامح خاصة لليهود في الرواية، أم أنهم بشر مثل بقية البشر، وغرباء مثل غرباء كثيرين في هذا العالم الذي هو مملكة للغرباء؟

عنوان الرواية هو " مملكة الغرباء "، ولا تجري أحداث الرواية في لبنان وحسب، حتى نقول إن لبنان فقط هي مملكة الغرباء. إلبير ايزاييف كان غريباً في بولونيا، ووديع السخن، حين هاجر إلى إسرائيل، غدا فيها غريباً. العالم كله إذن هو مملكة الغرباء، والغرباء ليسوا اليهود فقط، وحين نبحث، في الرواية، عن الحكايات الرئيسة وشخوصها سنجد أنهم جميعاً غرباء، واليهود جزء من الشخوص، ولنلحظ:

 وداد الشركسية كانت فتاة لا تتجاوز الثالثة عشرة حين اشتراها اسكندر نفاع عام 1920 من التجار وقطاع الطرق، جيء بها من بلادها، وظلت في لبنان وماتت مجنونة.
 فيصل الفلسطيني يقيم في مخيمات لبنان، ويحلم بالرجوع إلى فلسطين، شاهد مجازر صبرا وشاتيلا، وكان يبحث عن طريقة للذهاب إلى فلسطين، وجاءته هذه عام 1987 على شكل طلقة في الرأس، وقبر في جامع.
 جرجي الراهب غادر قريته وهو في الثامنة عشرة ليصبح راهباً في جمعية القبر المقدس، بدل أن يرتقي في المراتب الروحية ويصبح مطراناً، كما كان يحلم، عاش كئيباً ووحيداً ومضطهـداً. " إدارة الدير أكثرية رهبانه كانوا من اليونانيين الذين يكرهون العرب " (ص67).
وهؤلاء، وغيرهم، كما نلحظ، لا تختلف حكايتهم عن حكاية اليهود. بل إن خوري يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. فالمسيح هو الغريب الوحيد، ويراه السارد اليوم - أي في سنة 1991 - في نهاية القرن المتوحش الذي بدأ بمذبحة وانتهى بجريمة، يراه وحده بيننا ومصلوباً ويمشي على وجه الماء:

" إنه الغريب الوحيد.

غريـب فـي مملكة الغرباء التي حاول تأسـيسـها، هكذا كانت تعتقد الشركسية البيضاء "(ص38).
المسيح غريب بين قومه، بين اليهود، ومثل غربته كانت غربة وديع السخن الذي مات في تل أبيب بين اليهود.
غير أن الياس خوري قارئ للثقافة العربية أيضاً، ومن هنا نجد سارده يذكر البيتين المهمين:

أجارتنا إن المزار قريب

وإني مقيم ما أقام عسـيب

أجارتنا إنا غريبان هاهنا

وكل غريب للغريب نسيب

ومن قرأ أبا حيان التوحيدي يتذكر النص الذي كتبه عن الغربة، يتذكره وهو يقرأ " مملكة الغرباء " تذكرا جيداً. وربما يتذكر المرء، وهو يقرأ التوحيدي والياس خوري، جدارية محمود درويش. أهي غربة المثقف في هذا العالم؟ ولكن الغرباء في الرواية ليسوا من المثقفين.

هذه هي نظرة الياس خوري للإنسان، ولليهود، في هذه الرواية التي هي ليست الرواية الوحيدة التي يأتي فيها على الكتابة عن اليهود، فقد عاد وكتب عنهم في روايته " باب الشمس ". وهذا ما سنلاحظه.

ثانياً: في رواية " باب الشمس ":

مصادر الكتابة:

إذا كان الياس خوري في " مملكة الغرباء " كتب عن يهودي التقاه في أمريكا، وكتب عن يهود لبنان الذين هاجر قسم منهم إلى إســرائيل، وقسم آخر إلى باريس، فإنه في " باب الشمـس "(1998) يكتب عن يهود لبنانيين وعراقيين وألمان ويمنيين. ومصادر الكتابة عن اليهود هنا ليس التجربة المعيشة وحسب، بل ما يقوله اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، وما يقوله المؤلفون الإسرائيليون. هنا ثمة انفتاح على مصادر أخرى غير تلك التي لاحظناها في " مملكة الغرباء "(1993). ويفصح الكاتب عنها في الصفحة الأخيرة من الرواية، إذ يشير إلى ثلاثة هي:

أولاً : سكان مخيمات برج البراجنة وشاتيلا ومار الياس وعين الحلوة.

ثانياً : شـخوص يحددهم بالاسم، وهم سعيد صالح عبد الهادي وسامية عيسى وآمنة جبريل وعرب لطفي وافتكار النابلسي وعبد سرحان وجاكلين جريصاتي.

ثالثاً: نصوص لكتاب عرب ويهود، ومن الآخيرين ( آمنون كابليوك ) و ( بن غوريون ) في مذكراته، و( توم سـيغف ) و ( بني موريس ). ويرد اسم الأول وكتابه " الدماغ الحديدي " في النص الروائي.

ولا يكون الياس خوري نفسه حاضراً في روايته هذه، فهو ليس الراوي ولا المروي عليه الذي كان مصدر روايات عديدة قصها على الراوي قبل أن يغدو راوياً، ويتحول إلى مروي عليه، تماماً كما تحول المروي عليه إلى راوٍ. كان يونس هو الذي يروي على د. خليل، ولما مرض يونس، وعني به د. خليل في المستشفى، أخذ يروي عليه رواياته التي رواها له من قبل. ولكن هناك من كان يروي حكايته وتجربته التي أعاد د. خليل روايتها. وقارئ أعمال الكاتب كلها، يدرك أن الياس خوري الذي كتب الرواية، كان - بوعي أو دون وعي - يتسلل إليها وإلى عقل شخوصه ليبث بعض آرائه ومفاهيمه وقناعاته، حتى ليمكن القول إن بعض الشخوص في نظرتهم لليهودي وللفلسطيني كانوا ينطقون بما ينطق به الكاتب نفسه، وإن كانوا مثقفين نوعاً ما. وما يعزز ذلك أن روايات الكاتب لا تحفل بتناص خارجي وحسب، بل ثمة تناص داخلي واضح فيها على غير صعيد، بل وثمة أفكار وآراء يكررها الراوي الذي يبدو مختلفاً من رواية إلى أخرى. إن راوي " مملكة الغرباء " لبناني مثقف، إنه دارس. وراوي " باب الشمس " طبيب مثقف وهو فلسطيني، وراوي " يالو " مسيحي لبناني، يقاتل في صفوف الكتائب. ومع ذلك تؤرق الثلاثة فكرة القص وسرد الحكاية وأهمية ذلك. ثمة آراء وأفكار يقرؤها المرء في الروايات الثلاثة تقول إن مصدرها واحد هو الياس خوري.
ما يهمنا هنا على أية حال هو صورة اليهود في الرواية؟ من هم اليهود الذين كتب عنهم، وهل اختلفت الكتابة عنهم عنها في الرواية السابقة؟ بل وهل اختلفت الكتابة عنهم عنها في الأدب العربي؟

اليهودي مجرداً من ملامحه:

تطالعنا، في الرواية، في صفحات عديدة، فقرات عديدة يصف راويها ما فعله اليهود بأهل فلسطين عام 1948، وما بعدها. وغالباً ما يبدو اليهودي هنا قاسياً فظاً بلا رحمة. إنه يقتل الفلسطينيين أفراداً وجماعات. إنه هنا الجندي أو الضابط في فترة بناء الدولة الإسرائيلية. ولكننا لا نعدم، هنا أو هناك، إشارات إلى محامية إسرائيلية تدافع عن فلسطيني ما. يمكن اقتباس الفقرة التالية لملاحظة ذلك:

" تقدم ضابط شاب من يوسف وصفعه على وجهه، ثم سحب مسدسه، وأطلق النار على رأسه، فانفجر دماغه وتناثر على الأرض، ولم يتحرك أحد منا، حتى زوجته بقيت راكعة ولم تتحرك. ثم اختار الجنود حوالي أربعين شاباً وساقوهم أمامهم، وحين اختفوا عن الأنظار سمعنا إطلاق نار. قتلوا الشباب، ثم ساقونا كالغنم إلى الجهة الغربية من القرية، وأمرونا بمغادرتها، وبدأوا بإطلاق النار فوق رؤوسنا.

ركضنا في اتجاه وادي الكرار، حيث تجمعنا في أسفله، قبل أن نسير في اتجاه قرية شعب (ص176).
هذه الكتابة عن اليهود تتكرر في الصفحات 195/196/214/227/234، وفي صفحات أخرى، وقد وردت في روايات عربية وفلسطينية كثيرة، حتى ليمكن القول: إنه ما من كاتب روائي عربي كتب عن الصراع العربي / الإسرائيلي إلاّ وأبرزها في كتابته. والشيء نفسه يمكن قوله عن النموذج الاستثنائي - أي المحامي اليهودي الذي يدافع عن العرب. لقد كتب كثيرون عن ( فيلتسيا لانغر ) و ( ليئه تسيمل ) وهما محاميتان دافعتا عن الفلسطنيين.

اليهودي محدد الصفات والملامح:

يحضر اليهود في الرواية، أيضاً بأسمائهم، وينتمي هؤلاء إلى غير مكان. ترد أسماء أصلان درزية وسعيد لاوي وسيمون أصلان درزية، وهم من لبنان، ومثلهم الحاخام يعقوب ألفية، وايللا دويك. ويرد اسم سليم نيسان، وهو حلبي الأصل، كما يرد اسم سارة ريمسكي، وهي مهاجرة من ألمانيا.
ايللا دويك هي أول نموذج يطالعنا، وهي يهودية لبنانية تركت بيروت وأقامت في بيت أم حسن في الكويكات، وأم حسن لاجئة فلسطينية تقيم في بيروت. تزور هذه قريتها، وهناك تلتقي ايللا. كلتا المرأتين تندب حظها وما آل إليه مصيرها. وتتعاطف اليهودية اللبنانية مع الفلسطينية اللاجئة وتسمح لها بأن تأخذ إبريق الفخار الذي يخصها. ويذكر مشهد العودة فاللقاء، بمشهد عودة سعيد . س إلى حيفا في رواية كنفاني " عائد إلى حيفا ".

ايللا دويك يهودية لبنانية من بيروت من وادي أبو جميل حي اليهود،هجّروها إلى فلسطين وهي ابنة اثنتي عشرة سنة، وما زالت تحن إلى هناك، وتريد العودة والعيش في بيروت. وحين تبصر دموع أم حسن التي تريد، بدورها، العودة إلى بيتها، رافضة إقامتها في بيروت، تخاطبها:
" أنا يلّلي بدي أبكي، قومي روحي، قومي يا أختي روحي، ردّي لي بيروت، وخدي كل هالأرض المقطوعة " (ص 109).

لم تشعر ايللا في إسرائيل بالاندماج. كانت في بداية وجودها تشعر بالغربة، وكانت تحاول أن تصبح جزءاً من هؤلاء الذين لا تعرفهم - أي من اليهود الغربيين. ومن حيث هي يهودية شرقية، لبنانية بالتحديد، كانت تعاني مما عانى منه اليهود العرب الذي هجروا إلى إسرائيل. وقد وصف السارد معاناتهم، وهنا يمكن القول إن هذا الوصف لا يشذ عما ورد في روايات كتبها يهود شرقيون عن المعبروت، ومن هؤلاء سامي ميخائيل و شمعون بلاص. نقرأ المقطع التالي عن حياة اليهود الشرقيين في المعبروت:

" أخبرتها كيف عاشت في " المعبروت " حيث كانوا يرشون اليهود الشرقيين بالمبيدات كأنهم حيوانات، قبل إدخالهم البراكات الحجرية، وأنها بكت حين أجبروها على خلع ثيابها. اقتربت منها تلك المرأة الشقراء، وهي تحمل آلة الرش الأسطوانية الطويلة، ورشتها بلا رحمة في كل أنحاء جسمها. وأن والدها الخمسيني صار يعوي حين أمروه بخلع طربوشه … "(112).

ولم تخل أعمال فلسطينية كثيرة من تصوير معاناة اليهود العرب في دولة إسرائيل. وأشير هنا إلى قصة غريب عسقلاني " الجوع "، ولعلها من أبرز الأمثلة على ذلك.

اليهود اللبنانيون الآخرون الذين يأتي الراوي على ذكرهم هما أصلان درزية وسعيد لاوي، والحاخام يعقوب ألفية. كان أصلان وسعيد يملكان في بيروت معمل تنك يعمل فيه حوالي عشرين عربياً معظمهم من المسيحيين اللبنانيين. يحب أصلان العمال ويعاشرهم حتى إنه دعا والد الراوي إلى بيته في وادي أبو جميل. ويختلف عنه سعيد الذي يلبس الثياب الفرنجية، فقد كان متشدداً مع العمال، يحسم لهم من أجورهم إذا تأخر أحدهم عن العمل دقائق معدودة. وأما الحاخام يعقوب فبدا شاذاً. لقد ارتبط بعلاقة شاذة مع سبعة شبان وأغرم بيوناني كان يستبقيه الليل في فراشه، رغم معارضة زوجته التي ترفض الخطيئة، وهذه لم تعد تقوى على البقاء في بيروت، ولكنها أيضاً لا تملك الشجاعة على الهجرة إلى أرض إسرائيل، إذ ماذا ستقول لليهود هناك عن زوجها الذي قتل في سرير الزنا واللواط.
وكما استقبلت ايللا دويك أم حسن، يستقبل يهود لبنان الذين هاجروا إلى إسرائيل، يستقبلون اللبنانيين حين يزورون إسرائيل. يزور بعض هؤلاء إسرائيل، وهناك يلتقون بآل درزية الذين هاجروا عام 1958، ويستقبلهم سيمون أصلان درزية استقبالاً حسناً.

ولا يختلف سليم نيسان بائع الأقمشة اليهودي الحلبي، في علاقته مع العرب عن أصلان درزية. كان سليم يبيع ولا يقبض، ويسجل الدين في دفتر، وأحياناً يأخذ بضاعة مقابل بضاعة. وطلب، عام 1948، من أهل فلسطين ألا يغادروها. كان يقول: " يا مسلم خليك، يللي بيصير عليك بيصير علينا ". وتفصح الفقرة التالية عن وجود علاقة طيبة بين اليهود العرب وبقية العرب:

" وكان ذا شخصية محببة إلى الجميع. يدخل بيوت الناس، يأكل من طعامهم، يمازح النساء بسنواته الستين التي كانت تجعله أشبه بالعجوز الذي لا يخيف أحداً. يضحك ويخبر النكات والنساء حوله يتضاحكن، ويخترن الأقمشة ".(ص 370)

ويتذكر المرء وهو يقرأ عن سليم في علاقته مع العرب، يتذكر أم سارة في رواية أفنان القاسم " الباشا "، فهذه كانت فلسطينية وعلى علاقة ودية مع بقية سكان القرية.

ويقرأ المرء في الرواية عن اليهود القادمين من اليمن، ولكنه لا يجد نموذجاً مجسداً يمكن أن يتوقف أمامه. وهنا يمكن الإتيان على النماذج اليهودية غير العربية.

أشير ابتداء إلى كاترين الفرنسية، وهذه ممثلة فرنسية جاءت إلى لبنان، وقد زارت إسرائيل وهي في الثالثة عشرة، وعاشت هناك في كيبوتس في الشمال، ثلاثة أشهر. ذهبت إلى إسرائيل تعاطفاً مع اليهود بسبب ( الهولوكست )، وكانت ترى أن الجميع مسؤولون عن ذبح اليهود. وكاترين هذه هي ابنة لامرأة كاثوليكية، وأمها ابنة لامرأة يهودية اعتنقت المسيحية خوفاً من الذبح بسبب يهوديتها. وحين ترى اليهود يقتلون الفلسطينيين تستغرب، وعندما تقرأ كتاب ( أمنون كابليوك ) " الدماغ الحديدي " تتوقف أمام فقرة يشير فيها المؤلف إلى أن تسع نساء يهوديات قتلن في مذابح شاتيلا. هؤلاء كن متزوجات من فلسطينيين قبل عام 1948، وهاجروا عام النكبة مع أزواجهن. وتتوصل كاترين هذه إلى أن اليهود حين يقتلون الفلسطينيين يقتلون أنفسهم. وتقرر أن تقول هذا لليهود.

ولعل النموذج اليهودي المهم هو ( سارة ريمسكي ). وهذه فتاة يهودية ألمانية، هاجرت إلى فلسطين مع أهلها، قبل عام 1948 وعاشت في القدس صعوبات المهاجرين الألمان الذين كانوا عاجزين عن التأقلم مع ( اليشوف ) اليهودي وقيمه ولغته. ودرست سارة الأدب في الجامعة، وتعرفت، في أثناء ذهابها وإيابها، بشاب فلسطيني يقيم في القدس، ويعمل في دكان والده التاجر. ولما أحبا بعضهما، وكانت هناك عوائق أمام الزواج، اضطرا، بعد أن تزوجا، إلى الذهاب إلى غزة ليقيما فيها وليعملا في بيارات البرتقال، وسرعان ما تأقلمت سارة مع وضعها الجديد، بل واعتنقت الإسلام، غير آبهة بمحاولات أهلها قتلها. وتخلف سارة أولاداً وتربيهم تربية إسلامية، ولا تبوح لهم بسرها إلا مع اقتراب حرب 1967 وحدوثها، ومع ذلك:
" قالت الأم إنها فلسطينية وهذا خيارها. ولكن يجب أن تعرفوا " تخاطب أبناءها " فاليهود يحتلون غزة اليوم، ولن يخرجوا منها ".(ص 431). قالت هذا بعد أن باحت لهم بالسر: " أنا لست عربية ولا مسلمة، أنا يهودية "(ص 430).

أحد أبنائها، وهو جمال – وأطلق عليه جمال الليبي – مقاتل مع الثورة. قاتل في حرب بيروت 1982 وأصيب. وكان جمال درس الهندسة في القاهرة، وتحول مع حركة القوميين العرب إلى ما سمي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحد أبنائها، وهو جمال، يزور بيت خاله اليهودي ويتحاور معه، ولكن خاله لا يرحب به ترحيباً حاراً، خلافاً لابنته ليا التي تصادقه وتذهب معه إلى تل أبيب.

ويبدو والد ليا متعالياً على العرب، فحين يخبره جمال أنه يدرس الهندسة في مصر يسأله:
" وهل يعرفون تعليم الهندسة هناك "(ص 434).

بل ويطرح أطروحات صهيونية فيسأل جمالاً: لماذا لا يندمج الفلسطينيون مع العرب. ويبدي جمال رأيه في أمه. يسجن بسبب مقاومته الاحتلال وتزوره أمه وهو في السجن ويقول عنها ما يلي:

" أنت لا تعرف أمي، والله لم يكن بإمكان أحد أن يعرف أنها إسرائيلية أو يهودية. كانت فلسطينية أكثر منا جميعاً، أبي ظل يتحدث بلهجته المقدسية، أما هي فصارت غزاوية، تحب الفلفل وتأكل السلطة دون زيت الزيتون … " (ص 437).

اليهودية الألمانية لا تندمج مع اليهود، ولكنها حين أحبت عربياً تخلت عن أهلها وأحبته، بل وعاشت معه في غزة. ولكنها تظل تحن إلى برلين. وحين مرضت لم ترد العلاج، حين أراد زوجها أن يعالجها. قالت: لا يوجد علاج، أريد أن أدفن هناك "(ص 438)، ويأخذها زوجها الفلسطيني إلى برلين فتستعيد لأيامٍ صحتها، وتبدو كما لو أنها طفلة، ولكنها تموت بعد ثلاثة أيام.

وقارئ الروايات العربية – ومن ضمنها الفلسطينية – يقرأ عن نماذج يهودية على هذه الشاكلة. وربما يتذكر المرء رواية ناصر الدين النشاشيبي " حبات البرتقال "(1964)، إذ تحب فيها مريم الشاب الفلسطيني سابا، وترفض الهجرة إلى فلسطين إطاعة لأوامر الوكالة اليهودية، ولا تفعل ذلك إلا حين يُسفرّ سابا إلى فلسطين. حينئذ تضطر أن تطيع أوامر الوكالة اليهودية لكي تسافر إلى فلسطين بحثاً عن سابا. بل وربما يتذكر المرء رواية يحيى يخلف " نهر يستحم في البحيرة "(1997)، وكما نلاحظ فقد كتبت في فترة قريبة من فترة كتابة " باب الشمس "(1998). في رواية يخلف نقرأ عن ( بيرتا ) اليهودية التي أحبت فارس الفارس، قبل عام 1948، وعاشت معه، بل وحين حدثت النكبة واضطر للهجرة هاجرت معه لتعيش في مخيم عين الحلوة. ولم تعد إلى فلسطين/إسرائيل إلا حين هجرتها المباحث اللبنانية التي ظنت أنها جاسوسة إسرائيلية، فأعادتها من ثم إلى رجال الصليب الأحمر، ليسلمها بدوره إلى السلطات الإسرائيلية.

أقوال دالة، ونعوت شائعة:

أولاً: اليهود بدأوا يصيرون مثل العرب

يبدي د. خليل، وهو في المشفى، رأيا في اليهود، يتمثل في الفقرة التالية:

" ما أصغر عقل اليهود، ما هذا الشعار السخيف الذي يرفعونه، القدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل. كل واحد يتكلم عن الأبد يخرج من التاريخ …… والآن يأتون ويقولون إن القدس عاصمة أبدية، شو هالحكي(...) ، كلام تافه، وهذا يعني أنهم بدأوايصيرون مثلنا، أي قابلين للهزائم.(ص 128)
ود. خليل مقاتل، غدا ممرضاً، ودرس في الصين، وتثقف وغدت له أيديولوجية ما. وكلامه يردده كثيرون من المثقفين الذين ما عادوا يؤمنون بمقولات كانوا هم أنفسهم يكررونها، وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان الاشتراكيون فيه يتحدثون عن حتمية تاريخية، وعن انتصار مؤكد للطبقة العاملة.

ثانياً: اليهود يعمرون الأرض:

يزور اللبناني نصري فلسطين ليتدرب هناك مع القوات الإسرائيلية، ويعود، من ثم، إلى لبنان ليقاتل الفلسطينيين، ويعجب هذا بما رآه هناك، ويخاطب أحد الفلسطينيين بالعبارات التالية:
" أنا أعرفها، والله بلادكم جميلة، تشبه لبنان كثيراً. لكن اليهود رتبوها ونظموها. ترتيب مذهل، حدائق وماء وبرك سباحة كأنك في أوروبا ". (ص 269)
ويرى هذا اللبناني أن اليهود يحبون الأشجار، وبخاصة أشجار الصنوبر والنخيل، ولكنهم لا يحبون أشجار الزيتون. وتتكرر هذه العبارة، في الرواية، ثانية (ص 507).

ويذكرنا رأي اللبناني نصري بما ورد في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا "(1969). يزور سعيد. س. وزوجته صفية حيفا، بعد هزيمة 1967، وفي أثناء زيارتهما وحوارهما يأتيان على ما يقول الفلسطينيون عما فعله اليهود بفلسطين، وإعجاب بعض الفلسطينيين بإنجازات اليهود. وهنا أيضاً ثمة إقرار بما يقوله الإسرائيليون وما كتبوه في نصوصهم الروائية، وبخاصة رواية ( هرزل ) " أرض قديمة جديدة "(1903).

ثالثاً: اليهود يغدون أخلاقيين:
من ضمن الحكايات الرئيسة في الرواية حكاية نهيلة وزوجها يونس. وكان هذان متزوجين، كانت المرأة تقيم في فلسطين ويونس يقيم في لبنان، وكان يتسلل إلى قريته ويعاشر زوجته، وكانت تحبل منه وتلد، وكان الإسرائيليون يستغربون من ولادتها المتكررة، وحين كانت تذهب لتسجل الأولاد كان اليهود يسألون عن الأب، ولكي لا تخبرهم عن زوجها الفدائي المناضل، اضطرت أن تعترف بأنها شرموطة، ولهذا تلد. وهنا يخاطبها الضابط قائلاً:
" وعمك الشيخ المحترم، كيف يقبل أن تعيش تحت سقف بيته امرأة عاطلة "(ص 289).

وهنا تخاطبهم ضاحكة:

" مُخجل! سرقتم البلاد وطردتم أهلها، وتأتون لتعطوني دروساً في الأخلاق. يا سيدي نحن أحرار، ولا يحق لأحد أن يسألني عن حياتي الجنسية "(ص 289).
وهنا يبرز رأي د. خليل في سلوك نهيلة: " امرأة لبست العار، كي تحمي حياتك، وتغطيك بشرف الحب " - أي كي تحمي زوجها يونس "(ص 290) ما تقوله نهيلة لفظاً، تمارسه نهال في رواية ممدوح عدوان " أعدائي "(2000) فعلاً. إنها تضحي بجسدها لفضح مؤامرات اليهود.

رابعاً: المقارنة بين يهود ويهود:

يخاطب الراوي [ د. خليل ] المروي عليه [ يونس ] عن موقف أهل فلسطين من قتل اليهود على يد النازيين، إبان الحرب العالمية الثانية. هنا نلمح من الأقوال أن أهل فلسطين لم يكونوا يعون ما يجري في أوروبا، وهنا نلحظ تعاطفاً مع اليهود الذين ماتوا. ويغدو اليهود الذين قتلهم الوحش النازي يشبهون الفلسطينيين، ولكن اليهود في إسرائيل لا يشبهون أولئك الذين ماتوا في معسكرات التعذيب. ثمة تبادل أدوار، وثمة تذكر لسطر محمود درويش الشعري: ضحية قتلت ضحيتها، وصارت لي هويتها.
يخاطب الراوي المروي عليه قائلاً:
" ولكن قل لي، ألم تروا في وجوه هؤلاء الذين سـيقوا إلى الذبح شيئاً يشبه وجوهكم " (ص 291).
ويتابع:

" أنا لا أريد أن أعظ الآن، رغم أنني أعظ، فالمستوطنون الذين أسسوا " الكوبانيات " والمستعمرات، والذين يؤسسونها اليوم في القدس والضفة الغربية وغزة، لا يشبهون أولئك الذين ماتوا. المستوطنون كانوا جنوداً قادرين على قتلنا، كما قتلونا بالفعل، وكما سيقتلون أنفسهم أيضاً.
أما الذين ماتوا، فيشبهون نهيلة وأم حسن "(ص 291).

ونهيلة وأم حسن عانتا الكثير الكثير جراء قيام دولة إسرائيل. إنهما الضحية الجديدة للجلاد الجديد الذين كان أهله ضحية.
وتتكرر، في الرواية، إشارات إلى عذاب اليهود الذين غدوا مضرب مثل حين يتحدث عن معذبين جدد، ويغدو أهل فلسطين يهود اليهود:
" نحن يهود اليهود، والآن سوف نرى ماذا سيفعل اليهود بيهودهم "(ص 372) - أي اليهود بالفلسطينيين. ومن قرأ مظفر النواب قرأ هذه الفكرة. يقول مظفر:

" سنصبح نحن يهود التاريخ، ونعوي في الصحراء بلا مأوى ". ولن يكون مصير الجلاد الجديد مختلفاً عن مصير جلادين سابقين. يرد في الرواية المقطع التالي:

" قلت للمحقق إنهم مثل قلعة صليبية معزولة مصيرها الذوبان. قلت له إننا دفعنا كل الثمن وتحطمنا. أوصلتمونا إلى القاع، وبعد القاع لا شيء، ستنحدرون معنا، وسنأخذكم إلى قاعنا، وستذوقون طعم النار التي تحرقنا "(ص 399).
وما يرد على لسان نهيلة الفلسطينية الباقية، يقوله فلسطينون كثيرون. لم يبق لنا ما سنخسره. ويتذكر بعض الكتاب الفلسطينيين ما آل إليه مصير شمشون في غزة قبل آلاف الأعوام، وأبرز هؤلاء الشاعر معين بسيسو في مسرحيته " شمشون ودليلة ". لكأن المحقق شمشون ونهيلة دليلة.

خامساً: اليهود منغلقون:

على الرغم من أن الرواية تشير إلى يهوديات عشن مع العرب، ومع يهود عرب لم يكونوا منغلقين، مثل أصلان درزية وابنه سيمون، إلا أن ما يرد على لسان نهيلة، وهي تتحدث عن واقع العرب تحت الحكم الإسرائيلي، يشير إلى أن اليهود منغلقون.
وهذا الوصف لهم ورد في أعمال أدبية فلسطينية، مثل قصة سميح القاسم " الصورة الأخيرة في الألبوم ". لكن تلك الأعمال لم تكن تخلو أيضاً من ذكر نماذج يهودية ترفض الانغلاق.
يرد على لسان نهيلة الفقرة التالية:

" هم لا يريدوننا أن ننسى لغتنا وديننا، لأنهم لا يريدوننا أن نصير مثلهم "(ص 406).
ويرد أيضاً:
" قلت لك إنها مشكلتهم، أي مشكلة اليهود، فنحن لا نستطيع التخلي عن لغتنا لأنهم لا يريدون ذلك. يريدون لنا أن نبقى عرباً، وأن لا نندمج. لا تخف. إنهم مجتمع طائفي مغلق، حتى لو أردنا فلن يسمحوا لنا بذلك "(ص 407).

وربما يغني إصرار اليهود، في الفترة الأخيرة، على ضرورة أن تكون إسرائيل دولة لليهود، ربما يغني عن أي تعليق.

هذه هي الكتابة عن اليهود في الرواية التي هي رواية فلسطين، على الرغم من أن كاتبها هو إلياس خوري اللبناني المولد. ولعلها تبدو صورة غير مبالغ فيها، ولعل الكاتب لم يكرر الصفات التقليدية المنقولة عن اليهود. لم يكتب عن يهودي يحب المال يشبه ( شايلوك )، ولم يرسم صورة واحدة لليهودي: الجندي القاتل. لقد كتب عن هذا، ولكنه كتب أيضاً عن يهود ضحايا، عانوا ما يعاني منه الفلسطيني. وهو، يكتب، يقر بأنه جمع حكايات أهل فلسطين، وبالتالي فإن مصدر الصورة كما لاحظنا متعدد.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى