الأربعاء ١٠ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم زهير الخراز

صبح شتوي

انطلق لا يلوي على شيء.. بوجه بدا ميتا وشمته رقعة كبيرة صفراء.. وشعر أشعت فقد ليونته ولمعانه الأصيل .. عيناه متحجرتان، وقدماه تأبيان الإلتصاق بالطين المبلل بمياه فرت من مجاري مظلمة .. الصبح مازال نائما .. صبح شتوي مشبع برطوبة مخدرة تغري بملازمة الفراش حتى وقت الأصيل .. أنامل ضبابية مثلجة تلسع أنوف البحارة القاصدين قواربهم في صمت مسرف .. كل شيء بدا غريبا وشاذا هذا الصباح فالطيور لم تغادر أوكارها بعد .. والخفاش مازال يهيم بأجنحته الأسطورية في دروب الغسق .. والنساء الصغيرات مازلن يحلمن في جنح الظلام بشباك امتلأت عن آخرها برجال وسيمين وسمك موسى الشهي ..

و سلام هوالآخر حلم وتأمل خطوط كفه الأيمن بشيء من التفاؤل، بعد أن وعده البحر بصيف دائم، ونوارس لا تهاجر، وشباك امتلأت بأسماك بيض وزرق وحمر.. ذلك قبل أن تضمه إليها إمرأة ببطن تحمل عار المدينة الصغيرة .. ونتاج شظايا حلم اختلس من تحت وسادة حارس المدينة الأعمى ..

انطلق لا يلوي على شيء مفزعا كفزاعة عاطلة تلف وجهه تقطيبة خرساء .. يحمل النار والبركان في رأسه الصغير .. ويرحل بعيدا .. ويحرص كل الحرص على أن ينفجر وحيدا هناك حيث تنعدم الحدود وتتلاشى كسراب الصحاري .

طوابير الأزبال منفوشة هنا وهناك تغازل نسيم الفجر .. آلاف القطط تتمسح بالخرائب تموء وتنظر إليه بعيون لا تنام .. وهنا كلب أبيض يلقب بالأجرب، يتمطى على الحضيض .. تغزورأسه الطويل بقع حمراء .. خضراء .. وصفراء فاقعة اللون .

هوكلب كسائر الكلاب.. ينتمي إلى سلالة الكلاب الضالة المتوحشة .. عيناه حمراوان تنصح بالفرار.. فمه جحر للفئران .. تتوزع على حافتيه مسامير ودبابيس ومناشير حادة .. ولعابه سحابة تمطر المدينة بمياه هي بديلة للمطر الغائب .. أما ذليه فمكنسة مثالية أهداها لأهل المدينة كعربون للوفاء ..

أما سلام فهوالصديق ونعم الرفيق لكلب يعشق البحر والصخر .. وانتظار القارب أوالمركب العائد في مساء أصيل.. لذلك ترى الكلب كل مساء فوق تلة عالية يرهف السمع بين صدى الأمواج .. منقبا في الرمال.. متحدثا إلى السرطان، وشاكيا للنورس العجوز عن تأخر مركب سلام .. فأي عشق أسطوري ينتاب هذا الكلب الهرم بحق الإله، حتى يهجر أنثاه وجروه ليجند نفسه في خدمة آل سلام .. يا لشياطين المدينة المهووسة بالصمت الشتوي وجبروت الموج الأخرق !! فقد تجندوا له للمرة المائة بعد الألف قصد محاربة ذلك الكلب التعس انتقاما لسلام ومعشوقته الشبقية، وكذا طفل قدفته موجة من عالم يخلومن الماء واليابس .. لكن سلام لم يكن ليقف مكتوف اليدين .. فيا ما تصدى لهم بالمجذاف .. مدافعا عن كلب حرس المدينة منذ الأزل .. وعن امرأة لا تستحم إلا في ماء البحر .. وعن طفل يجيد لغة البحر والقواقع .

كان غريبا حقا أن ينطلق سلام بمثل هذه السرعة وفي اتجاه لم يألفه من قبل .. لم يكن يحمل شباكا ولا حبالا .. بل كان يرتدي جلبابه الصوفي وينتعل ثرى الأرض وحصاها المؤلم .. فصاح به الكلب الأجرب مستغربا :
سلام ؟ إلى أين ؟ .. لقد اخطأت الطريق .. طريقك من هنا !

لكن سلام حينما نوى الرحيل هذا الصباح فضل الإتجاه إلى عالم تنبت فيه صخور خضراء وزرقاء .. لذلك تراه ينطلق في صمت جنائزي.. يبصبص الكلب .. يحملق فيه بعينين هجرتا النوم منذ أمد طويل .. فيناجيه في تضرع :
سلام .. أنا جائع .. فهل من عظمة بائتة ؟؟
فيقرأ الكلب في عينيه مخططات تعسة تدعمها شقاوة دفينة ..يرى عبر حدقتيه أمواجا معربدة .. فيعلم الكلب أن من لفظته الأمواج في جنح الظلام عاريا كما ولدته أمه فاقدا مركبه وشباكه وحباله فهوأحوج المخلوقات لعظمة بائتة .

يعترض الكلب طريقه متسائلا :
سلام أتكون قد نويت ذلك ؟ .. تكون جبانا لوفعلت ذلك .. ألم تفكر في امرأتك .. ألم تفكر في جروك ، الصغير ؟؟؟

فركل سلام كلبه على بطنه ركلة قوية .. عوى على إثرها عواء شديدا ثم اختفى عن الأبصار .. ويتابع طريقه صامتا مثل مقبرة مهجورة .. لكن الصمت الرهيب أفسح المجال .. فكان ضجيج القلب والرئتين .. وسنين من عمره انطفأت بفعل العفونة السوداء ودخان الكيف .. زلت قدمه وانبطح على الأرض .. تساقطت أشلاء ممزقة من ذاكرته المنشطرة إلى جانبه .. فكان صغيرا .. وكان حديث العهد بعالم المدرسة حينما زلت قدمه وهويغادر بوابتها الكبيرة .. فداسته أقدام الكبار والصغار، وبعد أخذ ورد أقسم ألا يعود إليها ثانية ثم ظل يبكي طوال النهار .. لكنه سرعان ما كفكف دموعه ليغادر منزلهم ويحتضنه البحر، فينظف القوارب والمجادف ليعود في المساء وقد نفحه بحار عجوز ريالا أحمر .. ومن ثم كانت البداية .. وكان عشق بحري أزرق ..

انتفض .. تساقط منه الغبار وتابع طريقه من جديد .. عيناه متحجرتان .. وقدماه تائهتان .. والفئران تفسح له الطريق .. أما النمل فمازال غارقا في نومه اللذيذ .. صوت ينبعث من مكان ما ! .. حشرجة، شخير صغير .. عن طفل ما يبيت ليلته تحت سيارة قديمة .. لكنه لا يبالي بكل ما يدور حوله .. فلهاثه المتعب يطغى على جل الأصوات .

يغادر المدينة موليا وجهه شطر الغرب .. بجوار الساحل الصخري كان يصبووإلى الحافات السحيقة كان يرنو.. كانت المدينة الصغيرة من ورائه تنكمش وتضمحل .. والغبار من ورائه يتكاثف ويتمطى في الفضاء كعملاق ينوي شرا .. يتناهى إلى مسامعه صوت زوجته والولد والكلب يحذره :
لا تفعل يا سلام .. لا تفعل ! ! !

لكن الصخور الناتئة في الهوة السحيقة كانت تغريه بالنزول .. فما كان عليه إلا أن يخطوخطوتين ويهوي بثقله إلى الأسفل .. فهوى المجذاف على الزوجة وهوت الزوجة بثقلها على الولد ..فانطفأت شظايا حلم سرق يوما ما من تحت وسادة حارس المدينة الأعمى ذلك الذي يغلبه النعاس .

وطاف الكلب حول جثة سلام أكثر من سبعين مرة، وكان جائعا، وإثر كل طواف كان يشتهي قطعة لحم من سلام حتى وهي مضرجة بالدم والعرق .. لكنه توقف في طوافه الثمانين .. فنفض عنه الجوع والغدر وحدث جثة سلام قائلا :
ألف لعنة على البطون الفارغة .. تراني أكاد انفق من الجوع لكنني لا أستطيع نبش ولوقطعة صغيرة من جسدك يا عزيزي سلام .
ثم عوى عواء غريبا !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى