الاثنين ١ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

سحر المعطف الأحمر

أحلام رمادية

أحسستُ بنظرات صديقي تخترقني، عندما كنت أتأبط كتبي وأحلامي،وأعتقد أنها كانت أحلاماً رمادية اللون، غير محددة الملمس، أنحدر متجهاً صوب كلية الآداب..أحلم بلمس ذلك المعطف الأحمر في يوم ما، ولو أنّي أحس أن هذا الأمر ضرب من الجنون، حتى في العالم الآخر..لكن يقول لي صوت داخل: ياشيخ إحلم، الاحلام "ببلاش"، سحر ستكون زوجتك تستقبلك بإبتسامة آسرة عندما تعود منهكاً من العمل، تنزع عنك معطفك وتعلقه، وترمقك بنظرة تصل إلى بريدك المضمون بسرعة جنونية. سحر تبدو رائعة الجمال والملبس والملمس أيضا،على الرغم من أنها أعدّت تلك المائدة..

نعم هي دائما كذلك أنيقة.. وأناقتها ليست حالة عارضة أو نزوة، هي طبع يرافقها منذ أن كنا زملاء في كلية الآداب، إذ كنتُ أرتجف عندما تلتقي عيوننا حين أدخل القاعة لأضع كتبي بجانب كتبها، فأضمن بذلك الجلوس إلى جانبها وأمارس لعبتي في الإبحار في الأحلام، حيث كثيرا ماكنتُ ساهماً وقت إنتهاء المحاضرة وخروج الدكتور وبعض الطلبة، ولم أخرج أنا من أحلامي،إلا على صوت سحر وهي تهمس: زميل ممكن أطلع لوسمحت؟؟ فيحمرّ وجهي وأحس بأن دمي يسري بعكس إاتجاهه. كان أحد مصادر سعادتي عندما أضع كتبي وتلمس كتبها، شعور غريب ربما يوازي شعور المنخل اليشكري حيث بعيره هو الآخر يحبّ ناقة من يهوى،حيث قال: "وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري".

 تناهى إلى أنفي عطر سحر الذي يعربد في كل المدرج وودّتُ بأن لاأحد غيري من الطلاب يشمّه، لئلا يستنشق شيئا من أحلامها مع شذاها...كنتُ أفكر؛هل عطّرت ذلك المعطف الجميل ! أم أنها رشته على شعرها المنسدل على كتفيها.. أم تحت ووراء أذنيها؟؟؟ يالها من فكرة مجنونة.. كيف أسمح لنفسي بالتفكير والإقتراب من خط النار؟ ولو سمحتُ لنفسي بالتفكير بأنها عطرت جيدها ونحرها.. واستمررت بالنزول هكذا لاشكّ بأن جيوش المجتمع الأخلاقي ستقف ضدي.. فوقفت عند ذلك الحد، واضعا رجلي على عتبة حقل الألغام، وعيناي تتطلعان إلى الأشجار، متخيلا شكل الكرز وطعمه، ولونه، ودار في خلدي سؤال: هل سأكون حاضرا أثناء قطاف الكرز؟ وفكرتُ هل سأهاجم الكرز في يوم ما، مثل العصافير الشقية؟ التي لاتأبه لوجود أي حراسة!. 

سحر؛ كما هو اسمها، قمة في الانوثة والروعة، حتى بمشيتها متميزة، كمهرة عربية أصلية لم تُعسف.. رقيقة، حتى أنني كنت أقول في نفسي: لابد بأن التراب الذي صُنِعت منه طينتها ناعم جداً منخول بعناية فائقة، لاتشوبه شائبة. تذكرتُ التراب الناعم جداً على جانبي الطريق الترابية في قريتي، وكيف كان يتطاير عندما كنتُ امسكه بيدي، وينساب ماتبقى منه من بين أصابعي مدغدغاً اياها، قلت في نفسي: ربما تكون طينة سحر عُجنت من مثل ذلك التراب وجُبلت بمزيج من الريحان والياسمين، حتى غدت بهذه العذوبة.

كانت سحر حافزاً على الجدّ والمثابرة والدراسة، نعم كان حبي لها "ورماً حميداً" حيث كنتُ من المتميزين في قسم اللغة الإنجليزية، وكان الكثير من الزملاء والزميلات يستعيرون كرّاساتي لنسخها، حيث كانت هي من ضمنهم أحياناً، ولاأكتم سراً بأنها كانت السبب وراء كتابتي للمحاضرات بخط واضح أنيق، كأناقة المعطف المنقط الذي لاأمتلك غيره، وقد مللته لكن ليس من سبيل إلى تغييره حتى يتغير قدري،ولم يخفف عني من وطأة ذلك الشعور إعجاب الزملاء في ذوقي بالنسبة للمعطف، كنت أحشر نفسي داخله في أيام الشتاء الباردة، وأغالب إرتجافي فأبدو كالعصفور الدوري عندما ينفش ريشه ويدسّ رأسه وسطه إتقاء للبرد.لم يكن أحد يعلم عن أحلامي ومطامعي "المعطفية"؛ وهي أن أحصل على ذلك المعطف الأحمر فقط،وكانت هذه أغلى أمنية لي بعد التخرج لكن شريطة أن تكون سحر بداخله،لم أخبر أحداَ بتلك الرغبة الجنونية سوى صديقي الذي يسكن معي، حيث كنا نجترّ مامرّ أمامنا من صُور وماحصل من أحداث في الكلية.كنت دائماَ أقول له : الفرحة بحُلة العيد باهتة، شاحبة، باردة، لامعنى لها، إذا أتت بعد إنقضاء يوم العيد، فيعترض هو على هذا الكلام ويحاول الردّ، ويحتدّ النقاش بيننا، ونتعارك بالكلمات، كل مناّ يحاول إثبات وجهة نظره، ثم نهدأ، وندرك بعدها بأن الأمور ليست بهذا الشكل؛ إما أبيض أو أسود، بل ربما تكون رمادية.

كانت سحر تدرك إعجابي بها وبمعطفها الأحمر، وكنت أراها تنظر إليّ خِلسة، عندما ألتفت نحوها، فترتبك وتغير نظرتها فيتوردّ خدّاها قليلاً، وتنحفر أخادبد في قلبي، ظل يجري فيها ذلك الشعور الدافيْ طيلة سنوات الدراسة الجامعية. كنت طيلة السنوات الأربع أقول: غدا سأصارحها بحبي لها، وأفصح لها عن رغبتي في الزواج منها. يشدّني إلى الوراء إحساس ثقيل غليظ، كلجام الفرس، يقول لي بلسان والدها المحامي، الذي يسكن بشقة أثثت بشكل جيد: هل أنهيت الخدمة العسكرية؟ هل لديك شقة، هنا؛ في حلب؟ هل التحقت بوظيفة، غير وظيفة مدرس تضمن لإبنتي مستوى معاشياً لايقلّ عن مستوانا؟ أما السيارة، ونوعها ولونها، فأي سيارة تؤدي الغرض، لا بأس، لكي أبرهن لك بأنني لست ممن يعقدون الأمور، ويهمهم "ستر بناتهم" فقط.

إنقضت سنوات الدراسة، وذهبنا كل في وجهته، وسافرتُ إلى الدوحة، وانقضى العديد من سنوات العمر يجرّ بعضها بعضاً، نعدّهاً، كما كنـّـا نعدّ "فراقين" عربات القطار الذي يمرّ من قرب منزلنا عندما كنا صغاراً، وانسابت تلك الأحلام ، كما ذرات التراب الناعم من بين أصابعي، وبقي سحر ذلك المعطف الأحمر يبني له عُشأ في علياء الذاكرة. وجاءت حٌلة العيد التي كان ثمنها أيامنا المتتابعة، لكن أين العيد؟؟؟
 

أحلام رمادية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى