الاثنين ١ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم ثامر إبراهيم المصاروة

(حيفا) في شعر عبد الله منصور

فالشاعر قال في حبِّه «لحيفا»، ما لم يقله قيس في ليلى، فجاءت في شعره نبضًا يمور ألمًا ووجدانًا، فوصف تلك المرأة وما تحتويه من هموم وآلام، كما يجب علينا تخليصها منها مهما كان الثمن، فيقول :

لحيفا نطرّزُ خارطةً من شظايا
وزوبعةً من شجرْ
ونصطفُ في دبكةٍ للشهيد الأخير
فحيفا مخبأَةٌ في زوايا المرايا
حقول شعير
ونرجسة من حجر
وحيفا كشمسٍ معلقةٍ فوق صدر الصَّبايا

وتظهر «حيفا» برمز المرأة المتحدية الرافضة للاستسلام المفروض عليها، فـيقول :

سلامٌ عليك
توضأ بعشب الحقول
وخبئ سلاحَكَ في مقلتيك
فما زال سَيفُك يَعْربيًّا
وما زلتَ تعشقُ ظهرَ الخيولْ

فتصبح المرأة (حيفا) عند الشاعر قريبه منه في قربها وبعدها، ويدل ذلك على الحب الذي يكنّه لها، فهي في قلبه، وإن كانت بعيدة مكانيًا، فيقول:

لماذا أحنُّ إليكِ، وأنتِ قريبة؟
لماذا أحنُّ إليكِ وأَنتِ بعيدة؟
وقد صرتِ احتياجي
وكلَّ اكتمالي
وصرتِ الحبيبة

فالشاعر يقدم لنا صورة العاشق الولهان، الذي اكتوى بالحب والغربة، فهو دائم الاحتراق والاشتعال، فيسقط كل ذلك الحزن على محبوبته (حيفا)، حيث إنه دائم الأسئلة التي لم يجد لها جوابًا، ويدل ذلك على الضياع الذي يعيشه الشاعر مع محبوبته، فهو مُثقل بالهموم والأحزان والمآسي، فيقول :

وقفتُ حزينًا
وعيني تُسافرُ صَوْبَ الشمالْ.
أُنادي بملءِ اشتياقي
وكُلِّي ابتهالْ
وأسألُ عنكِ رفوفَ الحمامِ
هموم السَّهارى،
وطولَ الليالْ

ومن شدّة حب الشاعر «لحيفا»، اختلطت صورتها بصورة أمه، وكلامها يؤرِّق الشاعر ويبعثان له الحزن والاشتعال، يقول:

أَحيفا بَدَت؟...
أَمْ مناديل أُمِّي ملوّحة كالبيارق؟
أَحيفا نأَت؟
أَم حروفي التي أخذتْ شكلَ مَرْحلتي؟

فكلمات الشاعر جاءت مفعمة بالحزن والأسى والغربة في حديثه عن حيفا؛ لأنه يعكس مرارة الواقع، فكانت حروفه قنابل تشتعل في النص الشعري، الذي أخذ يصور مأساة الواقع الذي يعيشه، فيقول:

وهذي البنادقْ.
مُصوَّبةَ نحو قلبي
وقلبي مليءٌ بحيفا وأمي.
وإن كانتا قادتاني لكلِّ المشانق

وسبب ارتباط تعبير الشاعر عن وطنه، ومسكنه الذي عاش فيه «المنسي/ قضاء حيفا» بوضوح وقوة، ارتباطه الوثيق بالقضية الفلسطينية، وبجهاد الشعب الفلسطيني المناضل لاسترداد حقه المسلوب، وإيصال صوته إلى العالم أجمع.

فعبدالله منصور كان يجاري الواقع ويستلهم الأحداث، ولكن بعيدًا عن التقريرية المباشرة والمملة، وإنما كانت تأتي بعواطف قوية، وشعرية عالية مرتبطة أحيانًا بالسخرية والتهكم من الواقع المرير.

ويبرُز في شعره البعد الوطني، من خلال حديثه عن حبِّه له، فخصص جزءًا كبيرًا من شعره، للحديث عن حب الوطن وافتدائه بروحه، فيقول:

من أجْلِكَ يا وَطني أشربُ ماءَ البحرِ
وَأتركُ زَورقَ أحلامي مشلولاً فوق رمالٍ
تَشتاقُ ِلقطْرةِ ماء
من أجْلِكَ أركبُ ظَهرَ الرّيحِ وأمضي بارودًا
غَضَبًا ودماء

فالشاعر من خلال الأبيات السابقة، يتمتع بالحب الكبير، للحياة والجمال، والوطن هو جزء من هذا الحب العام، كما أنه يتحول عنده إلى جنة يصف كل ما فيها، فيقول:

لكِ الأُقحوان وهذا المدى،
والكلامُ المُضمَّخ بالخزامى
لكِ الريّاحُ حقلاً
من الشَّجرِ المستحيل
لكِ الأُغنياتُ وقطُر النَّدى
والمساءُ البعيدُ
لكِ البوحُ في آخر اللَّيل

والوطن عند الشاعر جنّة متوهجة بالعنفوان، تمنح الشاعر ما يحتاجه من الطمأنينة، وهذا ما جعل دائرة الوطن تتسع؛ لتشمل آمال الشاعر الجامحة إلى الانعتاق من قيد الواقع؛ ولهذا جاء خطابه مباشرة موجهًا للوطن.

فالشاعر من خلال المقطوعة السابقة، يلجأ لمحاورة عناصر الطبيعة في قالب فني رومانسي؛ من أجل أن يُبرز جمال عناصره الطبيعية كلها، كما نلحظ مصاحبات لفظية التي أصبغها الشاعر على الوطن الجميل؛ لجعل الطبيعة أكثر دموية، ومنها: الأقحوان، المدى، الكلام مضمَّخ، الشجر مستحيل، المساء بعيد، وهذه تُنبئ بدورها عن ذات الشاعر الذي يرى في الوطن كل هذا الجمال.

كما يؤكد الشاعر أن علاقته بالوطن علاقة حب وانتماء، علاقة تتكامل فيها الحياة، والحياة لا تكون إلا عن طريق الثوار، فهو يُشير إلى روح المقاومة، فيقول:

أعَزُّ عليَّ من روحي أَيا وطني ...
وَيا وطني يُحبُّكَ إخوتي الثُّوار
مُحطّمةٌ حدودُ الشوكِ
نَقطَعُها .. ندوسُ خطوطَها...

ويبيّن الشاعر أن الوطنية الحقّة لا تكون بالالتفاف حول الجرائد وما جاء بها، أو حول الشعارات الزائفة، بل بالإخلاص للوطن، والتضحية من أجلهِ، يقول:

غوصي بخاصرتي كسكينٍ
فأَخبارُ الجرائدِ كلّها عفن ودودْ .
غوصي بخاصرتي كسكينٍ ،
فهذا وقتُ موتي يا سماسرةَ الحدودْ

وقد جاء شعر عبدالله منصور في حبِّه للوطن (حيفا)، والتزامه بالتعبير عن قضاياه، مفعمًا بالعاطفة على شكل نبضات شعورية متدفقة مليئة بالألم والحزن والجراح، وإسقاط كل ما يشعر به تجاه الوطن ـ بدائرته الواسعة ـ وبهذا تتحد ذات الشاعر مع الآخر، فيقول :

لحيفا نطرّزُ خارطةً من شظايا
وزوبعةً من شجرْ
ونصطفُ في دبكةٍ للشهيد الأخير
فحيفا مخبأَةٌ في زوايا المرايا
حقول شعيرْ
ونرجسة من حجرْ
وحيفا كشمسٍ معلقةٍ فوق صدر الصَّبايا

وحب الشاعر لحيفا بحدِّ ذاتها، أصبح سمةً بارزةً في شعره، فجاءت ألفاظه مليئة بالشعور المتدفق من نبضه، فيقول :

أُحبكِ قُلتُها دومًا لقنديلٍ يرى أرقي
أُحبكِ قُلتها للريحِ للأطفال للمطرِ
أُحبكِ ...ها أُرددِّها من المنفى
أُحبُّ حبيبتي حيفا

ويلجأ أحيانًا إلى الرمز من أجل البحث عن وطنه، ذلك الوطن الراسي في وجدانه، فيبقى حائرًا لا يعرف ماذا يعمل، يقول:

وسألتُ الأسماكَ عن البحر المفقودْ
لم تُجب الأسماك
وسألتُ الأسلاكَ عن الدربِ المسدود
لم تُجب الأسلاك

فنلاحظ أنّه يسأل الأسلاك الشائكة التي تحول بينه وبين وطنه، التي صارت سدًّا يمنعه من عبور الطريق المؤدي إلى هذا الوطن، ونلحظ خيبة الأمل عنده، فلم يستطع الحصول على أجوبةٍ لأسئلتهِ، وأشد ما يكون تأثرًا عندما يتحدث عن الخراب والدمار الذي لحق به، ويرمز لذلك باللون الأسود، فيقول:

فما أضيق الأرض
حين أُراقص ظِلِّي
وأُغمِضُ عيني على وطنٍ
عامرٍ بالخراب
فمن أين لي كل هذا السَّواد؟

كما يصف الشاعر وطنه أنه جريح لما تعرض له من نكبات وحروب، ونلحظ أنّ ذات الشاعر اختلطت بالوطن، فأصبح يتكلم عن ذاتية نابعة من قلبه، فلا يتحدث عن الوطن بضمير الغائب بل بضمير الأنا، ويدل ذلك على أن معاناة الشاعر كانت من معاناة وطنهِ، فيقول :

وحياةِ دمعتكِ الحزينةِ يا حزينة.
لم أنسَ يومًا جُرحَ أيامي ولا ليلَ الحكايا.
واخترتُ ذكرى هِجرة العصفورِ ضيقًا في
شراييني، تُذكَّرُني بتهشيم المرايا
ألمي وذاك السرُّ قد سكنا دمي ...
وأنا وأنتِ أيا رفيقةَ جُرحي المجروح قد كُنَّا ضحايا

وتتعمق معاناة الشاعر عندما يتحدث عن وفاة أخيه وأبيه، وليس هناك منجد ومدافع عن ذلك الوطن، فأصبحت السيوف هزيلة، والفرسان مهشمي الأصابع، فيقول:

فالحصانُ العازبُ النّظراتْ
يصولُ، يجولُ، يصهلُ في مياديني
بلا سَرجٍ
وفارسُهُ مهشمةٌ أصابعهُ ...
هزيل السِّيف والضّربات
يموتُ أَبي ...
يموتُ أخي ...

فالشاعر يريد أن يوصلنا إلى أنه أحيانًا يُصاب باليأس والنكوص على نفسهِ، ولكنّه لا يلبث أن ينهض من جديد.

وتتعمق تجربة الشاعر أكثر عندما يشعر بالضياع والوحدة، ويبدأ بسرد قصة ذلك الوطن الجريح والممزق، فيقول:

هنالِكَ حيثُ نفتحُ كلّ ليلٍ جرحنا الدَّامي
فنغدو عندَها قلبًا عظيمًا جامع الخفقات
مُعلّقةٌ قناديل الضَّياعِ على رموشِ الجرحِ
والكلماتْ

ويمكن القول إن الخطاب الشعري للوطن يصبح عند الشاعر أكثر دموية، فيقول:

هل أكفكفُ أسئلتي يا دمي؟
أم تُراني انتهيت
مثل أغنيةٍ
تنتمي كلما تنتمي
لقتيلٍ بلا فرحةٍ أو وطن

إن التدفق في خصوبة خطاب الوطن عند عبدالله منصور، جعل ذلك مرتبطًا بالوجدان وليس على سبيل السرد والتقريرية المباشرة التي تخلو من العاطفة والذات، فهو يبرز صورة الوطن كشيءٍ غائبٍ فيه، فيقول:

فاكتب الآن ما شئتَ
عن وطنٍ غائبٍ في الضلوعِ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى