الاثنين ١٥ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم رجا سمرين

مُثَقَّفٌ عبقري نادر المثال

نعم ... أقولها وبصدق : إن محمد يوسف مثقف عبقري نادر المثال . آقول ذلك غير متأثر بتلك الصداقة المتينة التي توثقت عُراها بالراحل الكبير ، والتي امتدت منه إلى نجليه الشابين الإعلاميين أحمد وأيمن مَدَّ الله في عمريهما وجعلهما خير خلفٍ لخير سلف.

منذ اللقاء الأول الذي لبَّى فيه محمد يوسف دعوة الهيئة الأدارية للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، فرع الكويت، والذي كنت عضواً دائماً في هيئته الإدارية ، وإلى ان انتقل الى جوار ربه وهو يحرص على المشاركة في كل فعالية من فعاليات ذلك الاتحاد . وما ذلك الا لأنَّ فلسطين وقضِيَّتَها كانتا في مقدمة الأعباء التي حملها على كاهله، ناهيك عن اهتماماته بالقضايا القومية والإنسانية الأُخرى. وفضلاً عن ذلك فقد كان من المثقفين النادرين الذين توصلوا إلى معرفة المعنى الدقيق من المُصطَلَحَيْن المُلْتَبِسَيْن: العولمة، والحداثة اللذين برزا أكثر من غيرهما في العقدين الأخيرين من هذا الزمن الذي لم تر فيه الإنسانية أشد رداءةً وقماءةً منهما، ولا أكثر انحرافاً عن جادة المثل والقيم الإنسانية والسلام العالمي الذي هو هدف البشرية الأول عبر التاريخ.
وأَحْسَبُ أنني مطالب بتدعيم ما أراه في محمد يوسف وتراثه الجم والمتنوع حتى لا يكون قولي فيه قولاً مطلقاً على عواهنه.

عبر أكثر من ثلاثة عقود أعقبت تخرج محمد يوسف من قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس عام 1964 صدر له إحدى عشرة مجموعة شعرية وخمسة مؤلفات نثرية، وترجم ثلاثة كتب وأنتج مَسْرَحيَّتين، هذا بالإضافة إلى أن لمحمد يوسف مجموعتان شعريتان تنتظران الطبع والخروج إلى النور.
وقد تُرْجمت مجموعة من قصائد محمد يوسف إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وصدر عن تجربته الشعرية كتابان، وكتب عنها أربعة عشر ناقداً وشاعراً في مقدمتهم: رجاء النقاش، وفاروق شوشه، والدكتور حسن فتح الباب، وفؤاد حجازي.

وقد حصل محمد يوسف على جائزة الأدباء الشبان في مؤتمر الزقازيق عام 1969 وعلى المركز الثاني عن ديوانه "عزف منفرد أمام مدخل الحديقة" وعلى المركز الأول في مسابقة الثقافة الجماهيرية للشعر عام 1971م.
وقد شارك في مهرجانات عديدة من أهمها مهرجان المربد السنوي في بغداد.

وقد انتسب – رحمه الله – إلى عدد من الاتحادات والروابط منها:
اتحاد الكتاب المصريين، واتحاد الصحافيين العرب، واتحاد الأدباء العرب، والرابطة العالمية للصحفيين.
وإلى جانب عمله التربوي في الكويت كان مديراً لتحرير (مجلة التقدم العلمي).

وقد كان محمد يوسف واحداً من كُتَّاب جيل الستينيّات الذين شهدوا دراما النكسة عام 1967 وعاشوا تداعياتها.
وقد تجذَّرت رؤيته في كتاباته الشعرية والنثرية حول التركيز على إنسانية الإنسان لتمكينه من مواجهة الصراع الجيو-سياسي في غابة الوجود والأقنعة. كما يتميز شعره بالذات بتكريس رؤيته لتمجيد قيم الحرية والحب والخير والجمال والسُّخط على الطغاة والمستغلين، وباللمسة الإنسانية التي لا تخلو منها تجربة واحدة من تجاربه الشعرية.

ومحمد يوسف التربوي يدعونا إلى ضرورة الربط بين التربية الحديثة وبين الخيال العلمي. وانطلاقاً من هذا الطرح فقد أهاب بخبراء التربية إلى تطويع مناهج العلوم المتكاملة التي تشمل الكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات ومناهج اللغات وذلك من أجل توفير أرضية مشتركة توضح القواسم الموجودة في القرية الإلكترونية بين العلم والتكنولوجيا ذات القوانين الصارمة والخيال المتميز بالرحابة والمرونة.
وحرصاً من محمد يوسف على الإنسان الذي يعزل نفسه في القرن الحادي والعشرين اجتماعياً ليتفرغ للكمبيوتر والإنترنت، أو الإنسان المهووس بتطبيقات الهندسة الوراثية، أو المرعوب من الروبوت الذكي فإنه يرى أن هذا الإنسان في أمس الحاجة إلى جهود واجتهادات علماء النفس لإنقاذه من الفوبيا الناجمة عن كل ذلك، حتى لا ينعزل اجتماعياً، ولا ينكمش إبداعياً، ولا يتدهور إنسانياً.

وقد تساءل محمد يوسف على سبيل المثال عن الفوائد التي يمكن أن تجنيها الإنسانية في حال استنساخها لشخصيات مثل شخصية دراكولا أو فرانكشتاين، أو إيفان الرهيب، أو هتلر. وكيف يمكن مواجهة مثل هؤلاء لو أنهم عقدوا اجتماعاً مشتركاً ليقرروا فيه التخلص من "أغبياء العالم" استناداً إلى ما توافر لديهم من الإحصائيات والبيانات؟!

وماهي الجدوى التي يمكن أن تعود على العالم في حالة وجود نسخ من شخصيات مثل مارادونا، ومادونا، ومايكل جاكسون، وإليزابيث تايلور، وكليوباترا، والفيس بريسلي، وأمثالهم من المبدعين؟! وهل يمكن تصور الأضرار التي يمكن أن تلحق بمجالات الفن والكتابة والأدب وغير ذلك من تجليات البوح الإنساني الشفاف في حالة استنساخ مثل هؤلاء؟!

أما فيما يتعلق بالعولمة فقد أدرك محمد يوسف أن العولمة ليست سوى الأمركة، وأن الأمركة هي العولمة. وأن غايتها تنحصر في تحويل الإنسان إلى حيوان منتج ومستهلك في آن واحد، وأن أكبر دعاتها هو: كاهن البؤر الملتهبة الألماني الأمريكي اليهودي الميترنخي البسماركي الشايلوكي "هنري كيسنجر" الذي يَدَّعي كذباً أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار عن طريق القوة، في الوقت الذي نرى فيه أنه قد تمكَّن من تفكيك أمن الكرة الأرضية عن طريق فرط المنظومة الاشتراكية. وأنه استطاع إغواء الأيدولوجيين المرتدين المرتخين من أمثال: ميخائيل غورباتشوف بتفاحة البرجماتية فتحول من داعية للبروسترايكا والجلاسنوت "إعادة الهيكلة والبناء والمفاتحة والانكشاف" إلى لاعب سيرك غير محترم يروِّج للبيتزا عن طريق الإعلان مقابل مائة ألف من الدولارات!
وقد اعتمدت أمريكا كما يقول محمد يوسف في دعوتها للعولمة كما تفهمها على عدد من القيم السامية مثل: الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتعَدُّدية والتنوع وحق الاختلاف وقبول الآخر.

وقد أثبتت الوقائع أن أمريكا كانت أول من انتهك هذه القيم بمجرد إحساسها بتعارض أي منها مع مصالحها. وقد كرّست أمريكا بموقفها البرجماتي هذا بقاء العالم منقسماً إلى قسمين:
شمال غنيّ يلعب بالبيضة، والحجر، وجنوب مُعْدَم لا يملك قوت يومه يعيش رهين محبسين هما: ديكتاتورية الحاكم المحلي ودكتاتورية الحاكم العالمي.

أما موقف محمد يوسف الشاعر من الطغاة وجنرالات الأوسمة الذين لا يفتأون ينعقون كالأغربة التي لا تبشر إلا بالخراب، فإن خير ما يصوره هو قصيدة "استنساخ" التي وجهها إليَّ وألقاها في الحفل الذي أقيم لتكريمي في الثامن والعشرين من أبريل 1989 في الكويت بمناسبة بلوغي السن القانونية التي تقتضي بإنهاء خدمتي في تلك البلاد.

بدأ شاعرنا قصيدته بالحديث عن الوحدة العربية التي كان يحلم بها مع أبناء جيله على الرغم من أن الطريق إليها مزروع بالألغام التي هي بمثابة ذئاب الأمة وخراتيتها وتيوسها.

قالوا نُدّشِّنُ وَحْدَةً في المِشْمِشِ
قُلْتُ اختشوا
قالوا : اختشي
وأدرتُ ظهري
والطريق مُلَغَّمٌ
ذئبٌ، وخرتيتٌ، وتَيْس،
وأنا أذوبُ بنار عِشْقي
رائدي في العشقِ قَيْسُ
ولكنَّه على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من انتشاء الطغاة بدماء العاملين من أجلها يؤمن بحتمية قيامها وتحقيقها وأن هؤلاء الطغاة سائرون حتماً إلى مصيرهم الأطرش:
 
وصرخت يا عَلَمَ العروبة
 
كلُّ ذئبٍ ينتشي
 
بدم العروبة
 
كل خرتيتِ يسير
 
إلى المصير الأطرشِ
 
ثم ينتقل الشاعر بعد ذلك إلى توجيه خطابه إليَّ علماً منه بأنني توأمه في المعاناة وفي المنافي المعتمة والحقد على الطغيان والطغاة:
أأُذيع سراً يا رجا سمرين
يا صوتي المشاكسَ في المنافي المُعْتِمَة
وأقول إن الأنْظِمة
لا تحتفي إلا بجنرالٍ غرابٍ
وتحتفي بالأوسمةْ
أما القضيَّة
فاقرأ عليها الفاتحةْ
والطم بها خَدَّيْكَ
واخصِ البندقيَّةْ
فأنا شظيَّةْ
وكذاك أنت / فهل ستسألني لماذا ؟
الحلو شفتشي؟
لأَّه اختشي

ثم يتساءل محمد يوسف عما إذا كان قد اقترب زمن انتصار الغلابة وعشاق الحرية على الطُّغاة، وبخاصة بعد أن انتفض أطفال فلسطين عليهم وعلى المحتلين.

يا هل ترى
يأتي زمان فيه يرتفع الغلابةْ
والعاشقون ذوو الصبابةْ
وأنا وأنت وكل مَنْ يفدي فلسطين التي
صبرت على الإجهاضِ
وانتفضت وزانت نفسها بحجارةٍ
تعلو على الأنقاض ؟!
أأُذيعُ سراً يا رجا سمرين
لكن " أوعَ تِزْعَلْ "
إنما الأعمال بالنياتِ
هل صدقت نوايا أمَّةٍ كانت تُراهِنُ
ثم ترهنُ حلمها للمشمشِ ؟!

ويمضي الشاعر في تساؤلاته عن السبل التي يمكن أن تقنع طغاة أمته بأن الخيار الصحيح لتحقيق النصر إنما ينحصر في تبنِّي "خيار البندقية" وأن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة:

كيف السبيل إلى " خيار البندقية " ؟!

أنت مثلي فاحفر الصخر المدبب وانبشِ

يا هل ترى في الصخر ماءٌ أو «إشي»؟

وفي ختام القصيدة يؤكد لنا محمد يوسف بحتمية انتصار أطفال الحجارة على المتخاذلين المُسَوِّفين من الحكام الطغاة:

يا عمُّ مهلاً قال حُلمي

الشمس طالعةٌ من الحجر الصدوق

أما تراها ؟ فاختشي

أومأْتُ : يا حجراً صدقت

غداً تشجُّ رؤوسَ أهل المشمش

وبعد،فقد أدرك الإعلاميون العاملون في إذاعة الكويت تلك التوأمة في
الاتجاهات التي كانت تجمع بيني وبين محمد يوسف فاستضافونا معاً في برامجهم الأدبية التي يقدمونها في الإذاعة عَدَّة مرات، أذكر منها حلقة أدارها المذيع فهد حمود، وكانت عن مفهوم الحداثة، وحلقتين عن أدب المقاومة من تقديم الدكتور نادر القِنَّةْ.

والله ولي التوفيق، والمجد والخلود للراحل الكبير الصديق محمد يوسف.

المراجع :

 أرتيكاريا العسكريتاريا (ص42-ص144).
 كمنجة التوت (ص153-ص176).
 التربية الحديثة و الخيال العلمي (ص39-ص85).
 بيني وبين الشعراء (ص48).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى