الأحد ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
في حوار أدبي مع الروائي سعيد العلام:
بقلم عبد الله المتقي

الأسطورة تحررك من كل المتاهات

المأساة التي تقدمها الرواية تعكس مآسي الإنسانية جمعاء منذ الأزلية البيضاء...
جاء الرواية وفي جبته الكثير من الدهشة والتوقعات والانتكاسات والاساطير، الكثير من الرؤى والأحداث الدرامية، انه الروائي المغربي سعيد العلام، وإنها مدائن نون، التي تلقاها المشهد الروائي المغربي بانطباعات تحمل أشكالا من الدهشة في انتظار العاصفة واكتمال الملحمة، حول هذا العمل الروائي الذي يختزل الوجود البشري ويستحضر اساطير العالم، كان لنا هذا الحوار:

 رواية «مدائن نون» يطغى عليها الخطاب الفلسفي، هل هذا اختيار معرفي؟
 فعلا، من يقرأ «مدائن نون» يكتشف دون عناء ولا ذكاء معرفي أن مضمونها ينزع نحو الخطاب الفلسفي، وازعم انه رهان خاص للكتابة ليس فقط لهذا العمل، بل لكل ما سيأتي من أعمال، وذلك لعدة اعتبارات، أولا وقناعة مني أن العمل الروائي الناجح هو من يستطيع أن يجسد ويعكس الرهان الإنساني عامة، فالخطاب الفلسفي هو من يعطي عمقا للمضمون؛ وثانيا وهذا ليس جديدا، لأن الفلسفة المعاصرة وربما قبل ذلك، ككتابات «شيلر» و«جوته» وتجربة «نيتشه» الرائعة «هكذا تكلم زراديشت»، فضلا عن كتابات «سارتر» «كامي» وغيرهم لم يختاروا الكتابة الإبداعية، سواء كانت عملا روائيا أو مسرحيا، عبثا بل كانت رغبة في أن تخرج فلسفتهم من عالم الأفكار والصرامة والتعقيد الفكري، ليعطوا لشخصياتهم بعدا وجوديا ممكنا، تتفاعل وفق سياقات ذهنية تعطي لأفكارهم معنى «المعيش» كما تصوره الفلسفة الألمانية؛ كما أن نزوعي نحو الخطاب الفلسفي يعتبر هروبا إلى الأمام من عالم التعقيد والتجريد الفكري. الأكيد أني سأمارس البوح والقول الفلسفي بشكل متعالي من جهة عن الواقع، ومن جهة أخرى أصبو إلى جعل أفكاري تمشي بين الناس، وليست ملائكة.

 هل هذا يعني أن نزوعك نحو الأسطورة تعالي عن الواقع؟
 بالفعل، لأن الأسطورة تمنحك عمقا أكثر لأن الواقع فقير، والخيال يجعلك أكثر قدرة على خلق الفعل والتحكم في شخصياتك، والخيط الناظم للأحداث؛ فالواقع يفرض سلطته على الكاتب كما المتلقي والقارئ. إن الأسطورة تحررك من كل المتاهات السياسية والاجتماعية والنفسية التي تؤطرك في سياقات قد تقذف بك نحو صراعات صفوف مجانية. يبدو لي أن اختيار التعالي على الواقع هو قدرة على استيعابه والتحكم فيه أكثر من التماهي مع معطياته السالبة للحرية، ولا أظن أن الأسطورة لا تعبر عن الواقع، وليست هروبا عن معانيه، بل بإسقاطات بسيطة تجد نفسك داخله ومنخرطا في كل دلالاته.

 هل يمكن أن أزعم أن أسطورة «تراما» و «ريما» إحالة لأسطورة الخلق؟
 قد يبدو ذلك إسقاطا تعسفيا، لكن لا مناص من القول أن أي إحالة للبدايات الأزلية للحضارة لا بد أن تلتقي بالضرورة مع فكرة الخلق. ولم يكن بالحسبان في أية لحظة أن أحيل لقصة آدم ولكن السياق الدرامي للسرد الروائي يعطي الانطباع بالتماثلات الممكنة، لذا أنا أستعيض عن المماثلة لأنها قد تسقطنا في متاهات مماثلات أخرى. كما أنها ستحيد عن السياق العام للأسطورة عموما.

 ماذا تسمي حضور شخصية «رانار» في أحداث الرواية، أليس إحالة لسلطة الشيطان؟
 بل هو إحالة لقوة الشر الكامنة في الإرادة، والقابعة في مكنونات النفس البشرية، كما قد تحيل إلى سلطة المعرفة عموما، خصوصا حينما تصبح مصائر الناس والبشرية جمعاء مرتبطة بأحكام الحقيقة؛ حيث المسافة رفيعة بين الحقيقة والوهم. فمجال سيكولوجيا المعرفة قد تنتج في الغالب أوهاما بالنزوع نحو سلطة الاعتقاد. إن رمزية "رانار" أبعد من سلطة الغواية التي تختزل كل شئ في سلطة الرغبة المرتبطة بالغواية ؛ لذا فإنني أركز على الحمولة الدلالية لسلطة المعرفة أكثر من سلطة الرغبة.

 أليست مأساة «التراميين» أشبه بمأساة الإنسان؟
 بإسقاط بسيط ودون عناء قد نكتشف ذلك؛ وهنا يمكن أن أزعم أن المأساة التي تقدمها الرواية تعكس مآسي الإنسانية جمعاء منذ الأزلية البيضاء...

 أود أن أطرح سؤالا مرتبطا بنفس السياق، هل هذا الكلام يعني أن مأساتك تأريخ للزمن الإنساني؟ وهل تطرح كرونولوجيا الأحداث نوع من التـأريخ الحضاري؟
 بهذا المعنى ممكن، وقد أضيف أن هناك ضمنيا تحديد لمفهوم التاريخ، وفلسفة للتاريخ؛ فالأحداث فعلا تنسج سياقا كرونولوجي نفسي وليس زمني، فالزمن النفسي يتيح إمكانية استعادة نفس المضامين التاريخية حتى ولو اختلف الزمان والشخصيات. وهذا يعني أن التاريخ يعيد نفسه بشكل مختلف؛ وهو قول يعطي معنى لما أسميه بالزمن النفسي، والإنسان يبدو من الناحية السايكولوجية يتكرر باستمرار، لأنه بكل بساطة يحمل نفس المعاني الأنطولوجية. لذا قد يبدو للقارئ أن ما قد يكون أسطورة فإنه معاني نفسية قد يجد فيها ذاته تتماهى مع إحدى شخصيات الرواية، ومن ثم قد نسقط دواتنا على الأحداث فنجد أنفسنا متحركين بإرادة فعل تعكس هذا الموقف أو داك. بالتأكيد لا أقوم بتأريخ أحداث ما ولكنني أعيد بناء مجال النفس البشرية التي تتكرر في كل زمان ومكان.

 إن ما قد أثارني بقوة هو مفهوم الموت، فهل هو تصور أيضا فلسفي شخصي لمفهوم الموت؟
 سؤال جيد، بالفعل من يقرأ الرواية سيقف باستمرار وقفة تأمل لكل لحظات الموت ومشاهده ضمن سياق الأحداث الدرامية؛ وذلك راجع لقدرة على وصف اللحظات، بكل عناية ودقة، التي يعيشها من يقبل على الموت أو يعيش لحظاته الأخيرة. وما قد أعلن عنه هو رؤية خاصة وجدانية، فحينما تتكرر مقولة " الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم" فإنها تقترن أولا بلحظة حضور هاجس الموت وهالته النفسية، كما أنها تعكس زيف هذا العالم، واكتشاف الإنسان بكل مآسيه وفتوحاته وانتصاراته، حكمته وجهله، ضعفه وقوته، عافيته وسقمه، مع كل الثنائيات الممكنة في الوجود الإنساني، يكتشف أن كل ذلك كان مجرد وهم ينسي الإنسان أن الفناء هو مصيره، لو يدرك ذلك حقا سيفهم أن مبررات الصراع واهية، ولتمنى أن يكون راعيا يرعى الغنم في أقصى نقطة على وجه الأرض من أن يكون ملكا يجلس على عرش من شوك بكل خصومه وحلفائه، وما يجاور ذلك من دسائس وحروب، فتوحات وملاحم، انتصارات وانكسارات. إن وهم الحياة لا يبدده سوى إحساسنا الرهيب بالفناء.

 سنخرج من متاهات المعنى والمضمون لقضايا ذات طابع شكلي، ما هي رهانات الكتابة لديك؟
 صحيح أن أي كاتب ينطلق من مقدمات قد تتحول إلى رهانات للكتابة، وممكن أن أذكر البعض منها؛ أول رهان هو النزوع نحو الأسطورة ( وقد تحدثنا عن ذلك ) باعتبار أن الرواية العربية لا تهتم بالأسطورة كما هو الشأن بالنسبة الرواية العربية، لما في ذلك من صناعة العجائبي والغرائبي، كنوع من التعالي عن الواقع، الذي قد يبدو أنهم حققوا الكثير من ما كان أحلاما بالتاريخ القريب. فضلا عن الأسطورة قد تعطي بعدا كونيا للعمل، ويبدو لي أن هذا الرهان أهم ما يدفعني للكتابة في هذا الاتجاه. كما أن من رهانات الكتابة لدي هو خلق المتعة وللقارئ الحكم على قدرة هذا العمل على استفزازه وتوريطه في القراءة؛ فضلا عن رهان أسلوب السرد الذي يجعل العمل يخرج من نطاق المقروئية للمشاهدة، فهو يصنع الأحداث بشكل تجعل القارئ يستمتع بمشاهدة شخصياته ومشاركتهم حواراتهم مشاعرهم أفكارهم...

 ماذا عن رهان اللغة الروائية؟
 بالطبع هناك رهان، ويبدو لي الأصعب، هو اختيار الكتابة بلغة ذات بعدين؛ أولهما هو أنها تعتمد قاموس كلاسيكي وهي مسألة قصديه من منطلق الابتذال اللغوي الذي بتنا نلحظه خصوصا في أعمال الشباب من منطلق التجديد أو تحث أية مبررات، كما أن الملاحظ للغة سيكتشف أنها ذات إيحاء شاعري تنزع نحو التصوير وتنهل من معين الخيال الوجداني، مما يعطي للشخصيات ألقا نفسيا يجعلها أكثر شفافية ووضوح، ولا يجد عناء في اكتشاف أبعادها بعيدا عن التركيب والتعقيد النفسي.

 ماذا تعني لك «مدائن نون» كعمل إبداعي؟
 تعني لي مغامرة قد تفتح جبهات متعددة للمواجهة، كما تعني لي لحظة تعرف على الذات وإفصاح عن كينونة ذاتية من خلالها أرى العالم وأبني انطباعاتي عنه، أكشفها لكل من سيقرأ أعمالي الاحقة. وأقتسم معاني الوجود الإنساني التي أؤمن بها مع كل الحالمين مثلي بعالم لا تحركه إرادة الجنون التي تقذف به نحو المجهول بأفكار مجنونة تعبر عن بؤس القيم، وانحطاط البشرية ولحظة الصعود نحو الأسفل التي تعلن عنها العولمة وما يجاورها من معاني البؤس.
 كيف ترى نصك الروائي في ضوء تقنيات النص الحديث؟
 هذا سؤال ربما سيجيب عنه القارئ الناقد المفترض، ولا أصنف نفسي ضمن أي مذهب أو اتجاه، لكن ما يمكن أن أؤكد عليه هو أنني لا أنتظر تصنيفا وسأكون حريصا على أن لا أتموقع في خندق معين ولا أدافع عن أي نزوع معرفي، بل أجدني مرتاحا في ما أرغب أن أكونه، هو أن أنفلت من الشكل لأقذف بنفسي في رحاب المعنى والمضمون. فالإبداع بالنسبة لي ليس أسلوبا بقدر ما هو تعبير عن موقف وجودي، وجداني، معرفي.

 ما هي الآراء التي وصلتك إلى الآن، حتى لو كانت شفوية؟
 لحد الآن تلقيت انطباعات جيدة، وأصداء تحمل أشكال من الدهشة، لكنني أنتظر العاصفة بصدر عار رحب، وأتوق إلى الرأي الذي يطهرني من بعض ذنوبي.

 ماذا تكتب الآن؟
 أنا الآن بصدد تنقيح وترتيب ثلاثة نصوص مسرحية، أتمنى أن تجد اليد المبسوطة كل البسط لتنشلها من طي الكتمان، وترسم ملامح البوح المتاح والممكن.

 كلمة أخيرة؟
 أرغب في أن يقرأ هذا العمل بدون خلفيات، وأن يحظى بالقليل من التسامح والكثير من التفهم، كما أتمنى أن يجد طريقا إلى قلوب الناس قبل عقولهم، لأني بكل بساطة أثق في أحكام القلب أكثر من أحكام العقل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى