الأربعاء ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم تيسير الناشف

التنشئة الديمقراطية وأداء الدور الإيجابي والإبداع

أظن أان من الصحيح القول أن استقلال الفرد وحريته الفكرية وشعوره بالكرامة وقدرته على الابتكار ينبغي ان تكون من القيم الرفيعة التي تسود المجتمع البشري. ومن شأن التنشئة السليمة ان تسهم اسهاما كبيرا في النهوض بهذه القيم وبما يماثلها. للتنشئة طرق. تنشئ طريقة من طرق التنشئة، هي طريقة التنشئة الديمقراطية، على اكتساب الحس بالكرامة الانسانية وعلى ممارسة الحرية الفكرية والابتكار. وتعيق طريقة اخرى في التنشئة، هي الطريقة الاستبدادية، نشوء هذه الصفات وصفات اخرى مماثلة او تؤخره وتضعفه. للطريقة الاولى جوانب سليمة كثيرة. من شأن الطريقة الاولى ان تنشئ فردا ناقدا ومناقشا ومجادلا ومحاورا ومقلبا للامور ودارسا لها. هذه الطريقة تؤهل المرء لان يكون اكثر توازنا وموضوعية ورشدا في نظرته. ولهذه الصفات تجلياتها. ومن هذه التجليات ان المرء يوجد في فكره هامشا لاحتمال الخطأ ولاحتمال صواب آراء الآخرين، وهو اكثر استعدادا للاصغاء الى اقوال الآخرين. وتتجلى هذه الصفات ايضا في انه لا يعتبر من يخالفه الرأي خصما له وفي انه لا يعاقب من خالفه الرأي، وفي انه لا يعتقد انه يحتكر المعرفة، وفي انه يعتقد ان المرجعية الاجتماعية المشتركة اعمق وابعد من مجرد التماثل في الرأي، اي انه يمكن ان تكون هذه المرجعية قائمة رغم اختلاف الرأي.

وطريقة التنشئة هذه تؤهل المرء المنشأ عليها ايضا لان يكون اشد حساسية حيال افكار الآخرين وشعورهم، ولان يكون اكثر انضباطا في اصدار احكامه وفي تقييماته. وتؤهل المرء لان يكون له قدر اكبر من فصل ذاته عن الموضوع. وبطريقة التنشئة هذه يزداد اقرار الناس باهمية الجهد الشخصي في اكتساب المكانة الاجتماعية وفي اكتساب الثروة المادية وفي اداء الوظائف الرسمية وغير الرسمية في شتى المجالات، ويقل اهتمام الناس بالعادات والتقاليد بوصفها المصدر الوحيد لتلك المكانة وعاملا وحيدا في تكوين الثروة واداء تلك الوظائف.

ومن شأن التنشئة على الطريقة الاستبدادية ان تنشئ شخصا مجاملا قابلا لما يسمعه ومصدقا له ومستسلما وراضخا. تؤدي هذه الطريقة بالشخص الذي ينشأ عليها الى الاعتقاد بانه ينبغي للطلاب ان يقبلوا ما يقوله المعلم قبولا سريعا وتاما دون مناقشة وان يعتبروا ما يقوله المعلم حقيقة اكيدة لا يرقى اليها الشك وبانه يمكن للمعلم ان يضرب الطلاب وان يهينهم دون مساءلة وبافلات من العقاب وبانه تجب طاعة المسنين ليس لصحة ما ينطقون به ولكن اجلالا لمركزهم النابع من تقدم سنهم. ووفقا للجو الذي تولده هذه التنشئة لا تتاح للناس، وخصوصا للشباب، ان يعربوا عن افكارهم ومواقفهم ولا تتاح لهم ان يحققوا امكانهم وان يحققوا شخصياتهم.

ووفقا لثقافة التنشئة الاستبدادية تعتبر المناقشة والجرأة الفكرية في الاعراب عن الرأي والموقف وقاحة وسوء تنشئة. في هذه الثقافة تمجد السمات الفكرية والسلوكية المقترنة باسلوب التنشئة الاستبدادية، وتستهجن وتستقبح السمات الفكرية والسلوكية التي تقترن باسلوب التنشئة الديمقراطية. في ثقافة التنشئة الاستبدادية لدى المسنين والكبار ميل الى الظن انهم يعرفون الحقيقة وان حكمتهم اوصلتهم الى الحقيقة الكاملة. ووفقا للثقافة التي توجدها هذه التنشئة يعتبر الاختلاف صفة سيئة، والخلاف خصومة او عداء او مروقا، ويتهم الشخص المخالف باي من هذه الصفات ويهان ويعاقب.

ولدى الذين نشئوا هذه التنشئة ميل الى عدم التغيير والى تفضيل ما هو قديم على ما هو جديد، وتخوف من غير المألوف ومن اكتشاف المجهول.

وباشاعة طريقة التنشئة الديمقراطية تضعف وقد تقوض القيم التي تمثلها وتدعو لها وتعززها طريقة التنشئة الاستبدادية. بهذه الاشاعة تضعف النظرة التي ترى ان المرأة اقل من الرجل قدرة في عقلها وفكرها، وتضعف النظرة التي ترى ان من اللازم الحفاظ على كل النظام الاجتماعي القائم على الرغم من العيوب التي تعتوره، ويضعف اثر الطريقة الاستبدادية في التعامل مع الآخرين. باشاعة الطريقة الديمقراطية في التنشئة يزداد الوعي العام باهمية الحوار بوصفه وسيلة لتحقيق التماسك الاجتماعي والانسجام النفسي والتكامل الاقتصادي، ولتحقيق التواصل بين مختلف فئات الشعب وبوصفه وسيلة لمحاولة التوصل الى الاحكام السديدة الرشيدة، ويحل الحوار محل طريقة الفرض والاملاء والاستبداد بالرأي.

وباشاعة الطريقة الديمقراطية في التنشئة ينتشر ويتعزز الرأي في ان التوصل الى معرفة الحقيقة هو نتيجة عملية فكرية يستطيع ان يشارك ويسهم فيها اناس من كل فئات وشرائح الشعب وطوائفهم واجناسهم، وفي ان الملكات اللازم توفرها لاكتشاف الحقيقة ملكات تكتسب وليست منحا ممنوحة لفئات محددة او محدودة، وفي انه، بالتالي، يمكن لاي فرد مهما كانت سنه او عرقه او انتماؤه الجنسي او خلفيته الاجتماعية والاقتصادية ان يكتسب الصفات التي تؤهله لان يدلي بدلوه في عملية محاولة التوصل الى الحقيقة ولان يشارك في اتخاذ القرار مشاركة بناءة ولان يكون عضوا فاعلا في شؤون المجتمع الذي ينتمي اليه.

وفي طريقة التنشئة الاستبدادية يوضع تأكيد اكبر على العلاقة الهرمية ذات الاتجاه الواحد من اعلى الى اسفل. في هذه البنية يكون طرفان في العلاقة: الطرف المرسل والطرف المتلقي. لا يكون الطرف المرسل متلقيا ولا يكون الطرف المتلقي مرسلا. عن طريق هذه العلاقة يحصل التوجيه ويصدر الامر. ومن المحظور على المتلقين ان يرفضوا التوجيه والامر وعليهم ان يقبلوا المضامين التي يعتبرها المرسلون حكيمة وصحيحة وحقيقية. الذين هم مصدر الارسال يعتقدون بانهم يمتلكون المعرفة. وكونهم يشكلون مصدر التوجيه والاوامر ويعتقدون بانهم مصدر المعرفة يمنحهم سلطة قوية على جمهور المتلقين. ولذلك فان الذين يشكلون مصدر الارسال يعتبرون الحوار والمناقشة والدراسة والاختلاف اشياء غريبة عنهم ويرفضونها ويعتبرون من ينادي بها خصما لهم وبالتالي يحاربونه ويعاقبونه.

وتقوم علاقة بين هذه الطريقة للتنشئة غير الديمقراطية والتنظيم الاجتماعي غير الديمقراطي، من ناحية، والتغير الاجتماعي، من ناحية اخرى. فبالنظر الى اهمية تبادل الرأي - الذي يتحقق عن طريق الحوار والمناقشة والدراسة - في تحقيق التغير الاجتماعي، من الصعوبة البالغة ان يحدث هذا التغيير. من شأن الحوار والمناقشة ان يسهما في عرض البدائل الفكرية المختلفة وفي اطلاع الناس على ما لم يكونوا مطلعين عليه قبل الحوار، مما من شأنه ان يسهم في احداث التغير الاجتماعي المنشود خدمة للدولة والشعب والمجتمع. وببقاء بنية العلاقة هذه بين المرسل والمتلقي تبقى بنية التنظيم الاجتماعي القائمة.
ان للعلاقات في النظام الاجتماعي القائم على التنشئة الديمقراطية اتجاهين، والارسال غير مقصور على طرف واحد كما ان التلقي غير مقصور على طرف واحد. والحكمة غير مقصورة على فئة واحدة. وفي هذا النظام يمكن للجميع ان يشاركوا في انتاج المعرفة. ويتاح لكل ان يشاطر الآخر معرفته. وفي هذا النظام يؤدي التحاور والتناقش دورا اهم واكبر ويكون اي طرف اكثر انفتاحا او اقل انغلاقا على الاستماع الى النقد، وتؤدي المنجزات المكتسبة دورا اكثر اهمية.

الطريقة الاستبدادية في التنشئة تنتج شخصيات سهلة الانقياد. وبالنظر الى انها شخصيات ليست منشأة ومعتادة على الارسال فهي شخصيات غير ايجابية. وبالنظر الى انها منشأة ومعتادة على التلقي فهي شخصيات سلبية. انها شخصيات لم يعزز لديها الحس النقدي فهي تقبل الافكار والمواقف دون تمحيص ودون اجالة للنظر فيها. والشخصية المنقادة السلبية يكون زمام المبادرة مقتولا فيها.

والنفس البشرية تميل الى التنفيس عن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والنفسية. والطرف الادنى المتلقي يشعر بذلك الضغط على الرغم من تحقيقه لقدر كبير من التعود على هذه الحالة والتكيف معها. وتنفيسا عن تلك الضغوط يقوم ذلك المتلقي نفسه بتطبيق نمط من العلاقات بينه وبين الاضعف منه مماثل في وجوه كثيرة لنمط العلاقات بينه وبين من هو اعلى واقوى منه. فترى ذلك المتلقي يمارس التسلط. وعلى هذا النحو ينشأ في المجتمع هرم او مسلسل من التسلط.

وفي حالة التبعية الفكرية والاقتصادية والنفسية والخضوع والتلقي والامر والتسلط لا توجد حاجة الى ان يمسك المرء بزمام المبادرة والى ان يكون مسؤولا، وبالتالي تتلاشى في نفس ذلك المرء روح المبادرة والحس بالمسؤولية، سوى المسؤولية عن ان يقوم بالدور الذي يحدده له الشخص الاعلى المتسلط. ومن الجلي ان دوره هذا لا يتطلب منه ان يكون مبتكرا مبدعا، بل يتطلب منه الا يكون مبتكرا ومبدعا. وتضعف هذه الحالة ملكة الابتكار والابداع عنده. فهذه الملكة لا تنمو وتتعزز في الجو التسلطي. حتى يكون المرء مبدعا يجب ان يكون لديه الشعور بالاعتبار الذاتي والنفسي والا يعاني من حالة التبعية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، والا يكون في حالة توصله الى التردي النفسي والضياع الذاتي. حتى يكون المرء مبدعا يجب ان يكون في حالة يمكنه فيها ان يؤكد ذاته.


مشاركة منتدى

  • الدكتور تيسير الناشف المحترم السلام عليكم ،ان الموضوع المطروح غاية في الروعة لا أقول ذلك لأمدحك بل لأثني على جهدك وكلامك الجميل المفيد وهذا هو الأهم،ولكن أتمنى عليك أن تكتب كيفية تطبيق طريقة التنشئة الديموقراطية بيجوز لدينا خلفية عن هذا الموضوع ولكن ذكر ان نفعت الذكرى لا بأس أن تكتب خطوات تطبيق هذه التنشئة لأستخدمها مع أولادي وأنا سأتابع كتاباتك باستمراروسأرشد الناس لكتاباتك لما فيها منفعة لهم الى الأمام
    وفقك الله
    المهندسة روز

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى