الثلاثاء ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم إبراهيم سعد الدين

في وَداعِ الدّكتور فؤاد زَكريّا

موجِعَةٌ دَوْماً كلماتُ الوداعْ. فما بالُكَ ومَنْ نُودِّعه هو عَلَمٌ من أعلامِ الفِكْر والفَلْسَفَة، ورائدٌ من رُوّاد التنويرِ والتَّقَدُّمِ، ومُبْدِعٌ أصيلٌ في كُلِّ ميادين الكتابة..؟! يَوْمَ الحادي عشر من مارس/آذار الماضي رَحَلَ عن دُنيانا د. فؤاد زكريّا أستاذ الفلسفة بجامعة عين شَمس، الذي لَمْ أشْرُفْ يَوْماً بِلِقائه، لكنَّني ـ مثل عَدَدٍ لا يُحْصَى من قُرّائه ومُحبّيه وتلامذته ـ أدينُ له بالكثير على مُسْتوى الفِكْر والثقافَةِ والنَّهْجِ والسّلوكْ. كان أوَّلَ ما قرأته له مُنْذُ البواكير كتابٌ صَغير الحَجْمِ عظيم القيمة بعنوان (العرب والنّموذَج الأمريكي) اضطَّلَعَ فيه ـ مُتَسَلِّحاً بأقْصَى قَدْرٍ من الموضوعيّةِ والنَّزاهة والمَنْهج العلميّ في البَحثِ والاسْتنباط ـ بتفنيدِ ما وَقَرَ في أذْهان العامَّةِ وبَعْض المُثَقَّفين وأنْصافِ المُثَقَّفين من انبهارٍ غير مشروط بالنّموذَج الأمريكي سواء على مسْتوى التطلعات الشَّخصيّة والمُبادرات الفَرْديَّة أو على مُسْتوى النُّخَب الحاكمة وصُنّاع القَرار. وهو الانبهار الذي يؤدّي بنا إلى التَّبَعيّة الفِكريّة والسّياسيّة. وقد خَلُصَ الدكتور زكريّا في بَحْثِه إلى ثلاثِ نتائج: أوّلها أنَّ النَّموذج الأمريكي ذاته لا يخلو من مواطن خللٍ وجوانب قصورٍ كثيرة تَجْعله غير صالحٍ للقياسِ عليْه، وثانيها أنّه نموذَجٌ غير قابِلٍ للتّكرار لأنَّه تَشَكَّلَ في ظروفٍ تاريخيّةٍ فريدة وشديدة الخصوصية، وثالثها أن الظروف التاريخية والموضوعية للعالم الثالث ـ وبالأخص المنطقة العربية ـ تحول دون اعتماد هذا النّموذج.

بعد ذلك توالت قراءاتي لأعماله في الفلسفة بدءاً بكتبه الرائعة عن (سبينوزا) و (نيتشة) و (دراسة في جمهورية أفلاطون) وانتهاءً بكتابه (آفاق الفلسفة) وأدركت أن الفلسفة ليستْ ترفاً فكرياً أو تأمُّلاً طوباوياً وإنما هي منهجٌ للتفكير وتفسير ظواهر الواقع والحياة، وأداةٌ لاسْتشراف ملامح المُسْتقبل. وهي كمنهجٍ وأدة ليست نصوصاً جامدة ولا مقولات مُلْغزة وإنما هي نتاج عصرها وتحوّلاته وصراعاته ومن ثَمَّ فهي قابلة للمُراجَعةِ والنَّقد والتفنيد مع تطوّر الحياة وتغير ظروف العصر. في كتبه الفلسفية لم يكن فؤاد زكريا ناقلاً جيّداً للفكر الإنساني فحسب ـ مثل كثيرين من أساتذة الفلسفة ـ لكنه كان عَقْلاً نابهاً ومُبْدِعاً وخَلاّقاً، يُدَقِّقُ ويُمَحّصُ ويَنْقُدُ ويُضيفُ إلى ما اسْتَقَرَّ عليه الفِكْرُ طوال قرونْ.

المَنْهَج العلْميّ واسْتقلاليّة الرّأي وحُرّيّة الفِكْر والتَّعبير كانت هي الرّاية التي لم تسْقط من يَدِ فؤاد زكريا طوال مسيرة عطائه التي امتدّت لأكثر من نِصْف قَرْن خاضَ فيها الكثير من المعارك الفكريّة مُدافِعاً ببسالة عمّا يراه حَقّاً وصِدقاً. من معاركه المشْهودة حواره مع اليسار المِصْري وهو حوارٌ تَميّز بالخصب والثراء رغمَ احْتدام النّقاشِ وتباين المواقفِ واختلاف وجهات النَّظَر بين طرفي الحوارْ. كانت مجموعة من اليسار المصري قد عهدت إلى الدكتور فؤاد زكريا بإعدادِ دراسة عن (علاقة ثورة يوليو باليسار المصري) ونُشرت الدراسة بمجلة روز اليوسف ذات الطابع اليساري آنذاك. وقد كان فؤاد زكريا أميناً مع ذاته وضَميره ومنهجه العلميّ لذا أثارت الدراسة العديد من ردود الفِعْل بين صفوف اليسار الذي رأى في ما توصّلت إليه الدراسة ظُلْماً لليسارْ.

من معاركه الفِكرية المشهودة أيضاً نقده الدائم لظاهرة التَّطرّف الديني التي طفت على سطح الحياة الاجتماعية في مصر وسائر أقطار الوطن العربي وقد كان كتابه (الحقيقة والوَهْم في الحركة الإسْلامية المُعاصرة) جَنباً إلى جَنْب مع كتابه الآخر صَغير الحَجْم عظيم القيمة (الصَّحْوة الدّينيّة في ميزان العَقْل) دفاعاً مجيداً عن العَقلانيّة والاسْتنارة ونقداً وتفنيداً لكُلّ محاولاتِ تغييب العَقْل العَربي وتكبيله وإغراقه في ظُلُماتِ التَّخَلُّفِ تحت مُسَمّياتِ الدّينْ.
من معاركه الفِكريّة التي أثارت ردود فِعْل واسعة في أوساط المُثقفين مجموعة مقالاته تحت عنوان (كم عُمْرُ الغَضَبْ..؟! هيكل وأزمة العَقْل العَرَبي) والتي نُشرت في كتاب تحت نفس العنوان عام 1983. وقد كانت هذه المقالات ردّاً على كتاب (خريف الغَضَب) الذي أصدره محمد حسنين هيكل في أعقاب اغتيال السّاداتْ وكَرّسَه لتسليط الضَّوء على حياة السادات وفكره ومواقفه ونهجه السياسي والذي انتهى باغتياله. وقد تناول د. فؤاد زكريا ما ورَدَ بهذا الكتاب بالتَّحليل والنَّقد وانتهَى إلى أنَّ النّظام الناصري بأكمله ـ وليْسَ السادات وحده ـ مسؤولٌ عن كُلّ التداعيات التي أفرزت هذا الغَضب، بل إن السادات ذاته لَمْ يأتِ من خارج النظام وإنما كان جُزءاً منه وامتداداً شرعيّاً له.

رَحَلَ د. فؤاد زكريا بعد مسيرة حياةٍ امتدّت لأكثر من ثمانين عاماً، كان فيها عالماً جليلاً، وأكاديميّاً مرموقاً، ومُثَقَّفاً ليبراليّاً رفيعَ المُسْتوى مُلْتَزِماً بقضايا عصْره ووطنه وأُمّته، ورائداً من روّاد التَّقَدُّم والعَقْلانيّة والاسْتنارة. وقد قدّم للثقافة العربية زاداً فِكْريّا وثقافياً فَذّاً وأصيلاً، سوف يَبْقَى في ضمير هذه الأمّة وأجيالها المُتعاقبة هادياً ومُرْشِداً ومُلْهِماً على طريق الحريّة والتَّقدّم.

نُبْذة عن حياته وأعماله:


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى