الخميس ٢٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم أحمد غانم عبد الجليل

الـقَـفَـص

«كان يجب أن تصاحب عاهرة تشبع أهواءك الغريبة لا أن تتزوجني وتزيدني تعاسة.»..

كانت تقولها والدته في تذمر عصبي، فتجبره على المكوث خلف باب غرفة نومهما، يظن أول الأمر أنهما يتشاجران بعيدا عنه، ولكنه بعد حين لا يستطيع سماع شيء سوى بعض النهنهات المتفرقة وربما ضحكة غنج عالية تثير عجبه، يركض نحو غرفة نومه قبل أن يفتح الباب الموصد وهروع عمه عارف بطوله الفارع نحو الحمام، يستحم ثم يتوضأ سريعا قبل أن يضيع عليه موعد الصلاة التي تعَلم الصبي الحفاظ على مواقيتها منه، دون أن يمارس أي ضغط عليه، شأنه في كثير من الأمور، مما جعله شديد التعلق به، وربما في بعض الأحيان أكثر من أمه التي تحمله دوما مغبة تدليله والوقوف في وجهها عندما تحاول تأنيبه أو ضربه لدى فعله ما يغضبها منه، وكأنه يريد تصويرها زوجة أب متحكمة أمامه، يصرخ بوجهها في عصبيةٍ حادة تفزع الصبي...

(لا أنتِ زوجة أب ولا أنا زوج أم، فهمتِ)...

تخفض رأسها، صمتٌ عميق يلجها، فتعمل على تهدئته، أمام الصغير على الأقل، تخوفَ منه، بل لربما أرعبه في الفترة الأولى، حين وجد نفسه وأمه يشاركان ذلك الرجل، غريب الأطوار والملامح، العيش في بيت أهله الذي خلا من الحياة أثناء فترة غيابه الطويل في الأسر...

وجمت لبرهة، ضحكت طويلا حد القهقهة، ثم باغتها عويل نكبة استشهاد زوجها في الحرب الثانية، قبل أن يتم ابنهما سنته الثالثة، ما كانت تتصور يوما أنها يمكن أن تقترن به، هو بالذات، في يومٍ من الأيام، رجعُ صوته الحاد عاود التردد في أذنيها، كانت تكره زجره أولاد الجيران عن اللعب قرب باب الدار، هيئته بجلبابه الأبيض ولحيته الطويلة ونظرات عينيه المخيفة تصر على مواجهتها، صب جام غضبه عليها ذات مرة لما حاولت منعه من ضرب أحدهم لم يرضَ الامتثال لأوامره، هرولت إلى دارهم، على مبعدة عدة شوارع، يتناوشها ذهول العيون من قمة رأسها حتى أظافر القدمين، الدموع تتناثر من عينيها، قسوة كلماته تكيل الصفعات لخديها دون هوادة ...

(عيب عليك وحرام أن تتشبهي بالأولاد، ألم تري إنك كبيرة كفاية على مثل هذه التصرفات الحمقاء وأنت بهذا الثوب القصير)...

وقفت أمام المرآة طويلا، تنظر إلى جسدهاالبض، كما لو كانت تتعرف عليه لتوها، تلمست طراوته ببطء، تمايل خصرها الآخذ بالالتفاف، يكاد يشبه في انحناءاته جسد أختها الكبرى، تركزت نظراتها على نهديها الصغيرين، كانت أمها قد نبهتها بحنو ايتسامةٍ أذابتها خجلا إلى بدء نموهما... استغربت، لمَ تترك للآخرين دوما مبادرة تنبيهها إلى أمور تخصها وحدها...

كادت تنقطع عن مرافقة والدتها لدى زياراتها المتكررة لبيت خالتها، فرؤيتها له صارت تبعث فيها التوتر وشيء من الخوف، وإن أرادت مغالبتهما، أمام جدران غرفتها بتضخيم صوتها الناعم حتى يبدو أقرب إلى نبرات صوته الجهوري الزاعقة بأولاد الجيران، ينهرهم عن اللعب خاصةً عند سماع الأذان، تمط شفتيها وتقطب حاجبيها كما يفعل، من غير أن يفوتها إخراج لسانها ومط شفتيها، فيما ظلت عيناه تجدحان شررا غريبا كلما وقفت أمام المرآة، تخبراها ما يشهدها جسدها من تغيرات سريعة ومبهرة...

لم ينفك عنها شدوهها سوى بدموعٍ غزيرة، خجلت أن تبينها لأحد، ذنبٌ غريب أثقل كاهلها نحوه، كما لو كانت قد ساهمت في إلقاء القبض عليه ورفاقه المتطرفين، كما سمعت والدها يصفهم في تأسف مرير... لم يكن قد بلغ التاسعة عشرة من عمره، أمسى الجميع يتحسرون على مستقبله دون أن يجدوا وسيلة لإنقاذه، أو يظفروا بأي خبر عنه إلا بعد عامين من الفزع، لما رآه أحد المعارف في معسكر من معسكرات التدريب، قبل سوقهم إلى جبهات القتال، وجد نفسه في المواقع الأمامية، يعكف على رشاشة لم يتقن استعمالها أبدا، بدلا عن المصحف والكتيبات الدينية التي عثروا عليها لدى تفتيشهم غرفته...

جفلت لدى رؤيته عند أول إجازة قصيرة سمحوا له بها، كاد بيصر مراقبيه لدى كل خطوة خطاها من محطة القطار حتى بيته حيث اعتكف، ألقى عليهم سلاما باردا، بنظرات باهتة تستفسر عن ملامح الوجوه، وخاصةً وجهها المبتسم رغما عنه، لم تتعود رؤيته حليق اللحية، يحمل رغم الأسى المرتسم على محياه، كنقشٍ من التشوهات، بعض السمات الطفولية، تحملها حنوا غريبا نحوه، فر من مصيدة النظرات تلك نحو غرفته سريعا وصفق الباب خلفه، أرادت الذهاب وراءه، إلقاء نظرة عن كثب إلى عينيه المجذوبتين، علَ جمالها الذي تشهده لها كل العيون يفيقه من غيبوبته الطويلة، إلا أن كل شيء سمرَها في مكانها، باغتها الشوق إلى المغادرة والاعتكاف هي الأخرى في غرفتها، ليعاود ذبول وجهه التحديق بها في المرآة...

عوَدها أن يعود في بعض الليالي مترنحا، بالكاد يقوى على السير، تستقبله من باب الدار، لدى سماعها ضجيجه الهاذي الواصل إلى مسامع جيرانه اللذين يتذكرون بعض تزمت مواعظه لحد الآن، مشمئزة من رائحة الخمر التي تفوح منه، ترجو من الله إلا يوقظ هذره الصبي هلعا، لا يكادا يقتربان من غرفة النوم حتى ينفلت من بين ذراعيها مثل سمكة تتخبط في الشباك، ترتمي إلى الجدار في حسرة، ترقب ركضه المتعثر نحو غرفته الخاصة، صومعته التي تحتويه في أكثر أوقاته اغترابا، حتى عن ذاته، لا يسمح لأي منهما الاقتراب منها، تتعاضد يداه في إلتحكم باهتزاز المفتاح بين اصبعيه حتى يستطيع إيلاجه ثقب الباب، الغرفة بلا ضوء، ستائرها السميكة مسدلة دوما، تنخفض حدة سعاله بعد دقائق من تآلفه مع رائحة العطن والأتربة، يدٌ غليظة تدفعه بقوة نحو قفصه الحديدي الصغير الذي أوصى بصنعه دون علم أحد، يجلس القرفصاء، يغلق بابه عليه، ينوش بنطاله بلل دافئ، لا تخالجه رعشات برد الشتاء القارس، ولا يشعر بغزارة عرق تموز المتصببة فوق جسده، ذراعاه تحتويان ركبتيه حتى يستغرق في النوم بعينين مغرورقتين بالدموع... لا يخرج بعدها لأيامٍ من الدار، يطبق عليه صمت الأموات، حتى يسألها فجأة بشوق من استرد وعيه فجأة، كما فقده فجأة، عن الصبي، تخبره أنها أرسلته إلى بيت أهلها، ومن دون سؤالٍ يجيبه غضب عينيها عن السبب...

يفاجأ الولد حين عودته بلعبٍ كثيرة موزعة في أنحاء غرفته الواسعة الأنيقة، يتشاركان اللعب بها طويلا، يشتريها له بعد تعريجه على شقيقه، ثري الحروب كما يسميه، المسؤول عن المحال التجارية التي ورثاها عن والدهما، يعطيه ما يشاء بسرعة وبأقل قدر من المجادلة حتى لا يسمع صوته العالي كل السوق ويلم الناس حولهما، كان يفعل ذلك حينما عمل معه لفترة ثم يحتجب عن كل الهرج الدائر حوله داخل شرنقة من الشرود والهذيان، يقهقه عاليا لما يخبره أخوه، بوجهٍ يرتوي من الغضب دماءه المحتقنة ما كاد يسببه لهما من خسائر فادحة حتى صار محط سخرية من قبل تجار السوق وربما أيضا العمال اللذين لا يكادون يألفوا سخاءه المفرط عليهم حتى يفاجؤون بحدة طبعه وقبح شتائمه، لا يوقفها علو صوت الأذان الذي قد يغيبه في الجامع القريب ساعةً أو أكثر... ومع كل ذالك قد يواجه أخاه الصغير بسخرية الزاهد في كل شيء بما يستلبه من حقه في الأرباح، مستمتعا برؤية امتقاع وجه صاحب فكرة زواجه منها، متخذا دور الوصي عليه والمشفق عليها من تحمل أعباء مسؤولية طفل لم يتعرف إلى أبيه...

لم تلج أذنيه أيٌ من ضجة العويل وزعيق النسوة المتراميين في أرجاء الدار، يجلس القرفصاء داخل القفص، يحني رأسه إلى ساعدين يضمان ركبتيه المرتجفتين، تنضح عيناه دموعا حارة، وينضح جلبابه بللاٍ دافقا، تعثر عليه بعد بحث طويل، تفتح باب الغرفة الصغيرة، فيلجها بعض الضوء، تتجمد وقفتها ودموعها ولسانها أمام صغيرها، لا تدري كيف وصل المفتاح إلى يده، ولا كيف اخترقت خطاه ركام الظلام إلى ذلك القفص الرهيب...

لم يقوَ معصمها على الافلات من قبضة يده، تعثرت أكثر من مرة، ارتطمت جبهتها بأحد قضبان القفص... وكأن ألف يد مخلبية أحاطتها، مددتها على الأرض المتربة، احتك رأسها مرارا بالجدار الواقع خلفها، وأمتدت ساقاها منفرجتين نحو الخارج، أدركتها روائح شتى كادت تغيبها عن الوعي، استعصت كلماتها المتوسلة المرتعبة عن النطق، غصت صرخات الجنون في حلقها، والصبي ينام هانئا في غرفته بذات الطابق، اختلطت لزوجة عرقهما مع دموعهما، النازف منها والدفين، همهماته لم تصُغ سوى أشباه حروف، والزفرات تتأوه صدى النحيب...

حضر في ذلك اليوم جنازة أعز رفاقه المنسيين، لم يعد يتذكر إن كان لاقاه في غياهب المعتقل أو غربة الأسر، وقف طويلا كالمجذوب بين شواهد القبور بعد انصراف الجميع، يصرخ، يلعن، يشتم... ثم يستغيث ويستغفر مصوبا أنظاره نحو السماء، أجبره أخيرا حفارو القبور على الرحيل، تهديدا، دفعا، كما فعل أخوه لدى زيارته الأخيرة له، ومن ثم ركلا بالأقدام، خشونة ضرباتها المؤلمة ظلت تنخر أضلعهما المتهالكة طويلا...

تركها هامدة في مكانها، مغمضة العينين، كجثة متقطعة الأنفاس أمام جدار معلقة عليه سلاسل حديدية وسياط مختلفة الأحجام وأدوات تعذيب لم تستطع أن تتبين شيئا منها، لا تدرك ما خلفه لفظ زفيره للحياة داخل رحمها وسط حلكة الظلمة الشاسعة، يزعق في أذنيها صوت ارتطام جسده المتطوح فوق أرض الرواق...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى