الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٥
قصة قصيرة
بقلم عبد الرحمن حلاق

الحمل الكاذب

هول المفاجأة أصاب فيّ مقتلا ، مرة واحدة ، ودون أي تمهيد تآكلت الروح، وتضاءل في داخلي وحش،لطالما أحسست بمخالبه تنهش وبلذة أجسادا كنت أشتهيها . بتّ اشعر به صرصاراً حقيرا لا يدري أي نعل مشى عليه، فبات يعد أنفاسه الأخيرة على روائح أحشائه النتنة . صرصار ولج كابوس الموت، صارت الأشياء من حولي تسخر من ضآلتي ، تملكني الجفاف حتى خيل لي أن القلب يطرق جدران الصدر كبيضة الناقوس مذ هبط بين أضلعي لحظة معرفتي بالحقيقة. حقيقة صيرورتي خنفساء صغيرة تنثر روائحها الكريهة من خلال قشرتها الكيتينية الصلبة. نعم،بنزوة عابرة هبطت سلم العالم السفلي ,,مرة واحدة ، وعلي إذا التعايش مع مستنقعات الدم الملوث والجثث المنتفخة والمتناثرة حولي في كل مكان. قريبا سأغدو مواطنا متميزا فيها .

ترى كم بقي من الوقت ..؟ الوقت ..؟ الآن فقط صار الوقت سيفا، ما كنت لأفكر يوما بأن ثمة وقت يجري. الآن فقط صار الوقت مخلبا ـ لابد ـ منغرسا بين عينيّ هل ثمة وقت للانتقام ؟ ممن ستنتقم أيها المغفل ؟ ريثما تموت.. حاول فقط أن تطهر ما يمكن تطهيره . فحتى عيون طفليك الباسمتين دوما باتت تطحن قلبك بمطرقة الخوف والترقب .
أهرع اليهم ينهشني شوق لقبلة واحدة أرتجف، أحس بصفعة على الوجه ، فأنكفئ على ذاتي عاضا على ألمي . أهرب من بدور، أهرب من نفسي ، أهرب من سريري الذي بت ّ أحسه كتلة من الفيروسات تقهقه في وجهي حتى بعد تغييره وغرفة النوم كاملة .
شلل تسلل إلى جوارحي وخوف تلبسني ، أيّ رعب سيتملك بدور إذا عرفت مرضي ؟ وأيّ خزي سيجللني ؟ كثيرا ما كنت أنزوي في البيت وحيدا ، أبكي كطفل أشبع ضربا ، أبكي كما تبكي مغتصبة أحاذر أن يقع نظري في عينيها كي لا يلتف حبل الخزي والخجل حول رقبتي .

ترى هل ستصبر كثيرا على حقوقها ؟ منذ شهرين وأنا أتعلل بالأكاذيب والتعب .. باء ت كل محاولاتها في إقناعي إلى الطبيب بالفشل .أيّ طبيب يا بدور ..؟ إذا كان العالم ما يزال عاجزا .. وليس لدى الطبيب إلا الحجر الصحيّ ، وها أنذا أقبع في أبشع أنواع السجون العصرية . فما الذي يمكن عمله فيما تبقى من الوقت ؟ هل سأعيش لرؤية الطفلين يكبران ويضحكان ..؟ أم أمنحها حريّتها ..؟ ما عدت نافعا لغير انتظار الموت ..فلأنتظره إذا بشيء من الجرأة وشيء من اللجوء إلى الله .ولأنتظره وحيدا، أحاول فيما تبقى من وقت أن أبقي ما تبقى من الجسد سليما .

سأخبر بدور بعجزي وانتهاء صلاحيتي ..سيكون الأمر قاسيا عليها، لكن يجب أن أخرج من حياتهم لئلا أصيبهم بالتلوث ..التلوث ..نعم أصبحت ملوثا تسرح في خلاياي نتانة لم تشهدها البشريّة من قبل ... بعد أن كنت مضرب الأمثال في البيت ، في الجامعة ،لم يعرف أحد ـ إلا الله ـ أني أعيش بوجهين، وجه لملذاتي السريّة وآخر للناس . هيمنت على بدور بمثالياتي فمنحتني من الثقة ما لا أستحق... أيّة جريمة ارتكبت ؟.. وأيّة خطيئة ؟.. أما كانت تكفيك بدور بقوامها الرشيق ونصاعة بشرتها ، وحبها لك ؟.. أيّة جرأة تلك التي ستعيش بها الحياة ؟. ومن سيقبل طلاقك والكل يعرف مدى الوفاق بينك وبين زوجك ؟.. أيّ جنون سترتكب ،أتريد جعلها مضغة في أفواه الناس ؟.

لا ... هذا لن يحصل مطلقاً .سأهيئ نفسي لاضمحلالٍ تدريجي ٍ ... سأتدرع بكثير ٍ من العوازل كي لا تتطاير خلاياي كالبعوض هنا وهناك ، كي لا تفوح د ناء تي ويفجؤني منظر الناس وهم يسدون أنوفهم لحظة مروري بقربهم ، سأتدرع بما يحجر جسدي عن البشر . وسأهرب إلى مستنقعات الموت وحيداَ حاملاً وحدانيتي وقذارتي ، كأنما جسدي غدا قنبلة جرثوميّة ضد الحياة، قابلة للانفجار كل لحظة وفي كل وجه .

اليوم حدث مالم أنتظر ، فعلى غير العادة لم تطاردني الكوابيس ، ولم أستيقظ مصحوباً بالصراخ والنباح ،
ولم أسقط عن السرير كدودة أفزعها ضوء الشمس .. لقد فتحت عيوني بكل هدوءٍ .. ثمة نشاط لا أدري كيف تسلل إلى أنابيب القرف في شراييني . ولا أدري كيف تمطت خلاياي تعلن حضور موجة منعشة ، أتكون صحوة الموت؟ .. هل انتشر العفن فبلغ مداه لتنتفض الخلايا مرتعشة رعشة الحياة الأخيرة ؟ ربما هي دعوة لاستقبال الموت بجاهزية تامة لكل جوارح الجسد ، ليكون الإحساس بالألم أعمق والإحساس بالتحلل أوجع ما يمكن وسط هذا الهدوء المخيف .

إذا كان الأمر كذلك فأرجو أن يكون قبل عودة بدور والأطفال من المدرسة ، لا أريد لهم رؤية عمود البيت وقد تدحرجت على جسده الديدان ، لا أريد لهم رؤية تحلله كجثة خنزير متأسنة .أشعر بجوع يلتهم معدتي ، سأسكته أولا ً وأستغل فترة الصحو هذه بمحاسبة الوجه الآخر الذي لا يعلمه إلا الله ..وجهي المجدور والمتفسخ والذي ينثر لعابه المقزز وينشر روائحه الكريهة .

ها هي صورتك في المرآة ، لم تكن في السابق ترى كل هذا القبح وأنت تسرّح شعرك ، كان وجهك أملس ناعماً مشرقاً، وكنت مفتوناً به ، لماذا تراكمت كل هذا البثور واشّعّث شعرك وسال على وجنتيك صديد يشبه زيت المحركات بعد استعماله ؟ استطالت أنيابك واحمرت عيناك .ترى لماذا يتراكض إلي طفلاي بلهفة ؟ ألا يرعبهما هذا القبح ؟ .. أتحسس وجهي بيدي ، أذهل قليلاً فما تراه الأيدي يختلف عمّا تراه العيون ، الغريب أن أصابعي لا تتحسس البثور أو الأنياب !.. ولا يلتصق هذا القيح النازف من الوجه على جلد الأصابع ،ثمة رؤيا للكفين مختلفة . ثمة موقف آخر إذاً ، وإن لم أمت اليوم فثمة ما يمكن تحقيقه في ما تبقى من وقت ، لماذا أنتظر الموت كل هذا الانتظار طالما أنه لابد آت ؟ فليأت وفي جعبتي بعض ما يريح الضمير قليلاً ، ثمة طفلان يحتاجان أباً يزرع فيهما أن الحياة يجب أ ن تعاش بوجه واحد ،واحد فقط .

وليأت بعد ذلك الموت كيفما يريد وأنى يريد .. لكن ما يشعرك بالذل والمهانة والألم أ ن ثمة زوجة بحاجة إلى زوج يمنحها أشياء أخرى بات عاجزاً حتى عن قبلتها ... لا تدري بدور أني غدوت قنبلة جرثوميّة فتّاكة .

* * *

كان الأمر شاقاً ومؤلماً ، وكان لابد منه ، ومن طبع الإنسان تحمل الكيّ بالنار للتخلص من ألم قد يزمن ، وكان الكيّ ضرورياً ، رغم كل ما سببه من ألم يمزق صدري وأنا أراه يتألم ويذوي كل يوم خاصة في الشهور الثلاثة الأولى حيث ترى الرعب في كل خلجة من خلجات نفسه ، ترى نفوره مني ومن الطفلين نفور طفلٍ مذنب ٍ خائف من عقاب ٍ شديد . ولولا إدراكي حقيقة الأمر وإشفاقي عليه من سيخ ٍ شواه الجمر فأصبح أرجوانيّاً يبعث منظره الألم قبل أ ن يلامس وهجه خلايا الجلد الطرية ، والتي تنفث عقب الكيّ رائحة شواء اللحم الآدمي لولا هذا لسارعت إليه واحتضنته بكل جوارحي ، لكني أعرف أ ن هذا سيبطل مفعول العلاج ، عضضت على ألمي وسكتُّ ، فقد قررت أ ن أدفع بالأمر إلى مداه . إذ أ ن الطعنة جاءت في الصدر تحمل من الألم أكثر مما كان يتصور ، لقد كان يهدم مملكة آليت على نفسي أ ن تبقى عامرة ، لكنما إحساس المرأة بما يعتمل في محيطها خاصة تجاه امرأة أخرى قلما يخيب ، ورغم اعتيادي على معايشة الخادمات من صغري لم أشعر يوماً أ ن الأمر عادي بالنسبة لي ، خاصة عندما تكون الخادمة فليبينية حباها الله بمسحة بياض ٍ ، والأخطر من هذا ذلك المفهوم السائد عند البعض بأن الخدم " ملك يمين " ولا ضير في استعماله . ومنذ اليوم الأول لدخولها مملكتي أحسست بشيء من الامتعاض وتملكني شعور غريب بدأ يتنامى ويكبر ويتوضح أكثر ،ولم تجد كل عبارات الغزل من " عادل " وتفانيه في إرضائي نفعاً أمام حركات الغنج والدلال التي تبديها " ميري " . وما كان يثير حفيظتي ويشعل نار الغيرة في داخلي بعض النظرات الخاطفة التي يسترقها زوجي كلما سنحت له الفرصة . وما عمق هذا الشعور أنّه أصبح رجل بيت أكثر مما كان عليه . فما عادت " الديوانية " تستهويه كثيراً ولا حتى الجلوس في المقهى ، لقد جلب مؤخراً" الشيشة " إلى البيت .

في ذلك اليوم خرجت من المدرسة بصدر ٍ منقبض ٍ ، يتملكني توتر ما عشته من قبل ، توتر جاهدت التلميذات في استجلاء أسبابه دونما جدوى . استأذنت الناظرة متوجهة إلى مملكتي الخاصة ، وكلي شعور بأن ثمة خطرٌ قد يقوض أركان البيت ، وهذا ما جعلني ودونما شعور أتجاهل الشارة الحمراء وأحمد الله أن الطريق كان خالياً . وصلت البيت ، تسللت كما اللصوص ، كان باب حجرتي مفتوحاً وكان عادل يتوج " ميري " على عرشي .تراجعت بهدوء قبل أن أصاب بغثيان ، ولا أدري منحني الله برودة الأعصاب في تلك اللحظة المؤلمة ، والتي تخرج أيّة أنثى عن طورها .خرجت مثلما دخلت ، لم يشعرا بي ، دارت السيارة ببطء شديد وعلى مسافة ليست بالبعيدة توقفت قليلا ،وبكيت .. بكيت .. بكيت .. وكان بودي لو أبكي أكثر .

تابعت مسيري الهادئ غير مبالية بمن تعرقل سيره خلفي ،وغير مبالية بسخافات بغض المراهقين صغاراً أو كباراً ، وصلت بيت أخي هدأ من روعي قليلاً، ثم طلبت منه استخدام صلاته وعلاقاته من أجل تسفير " ميري " دون إخبار أحد خاصة زوجي . عدت إلى البيت مع توقيت المدارس كأن شيئاً لم يكن ، إلا أن ثمة ما يشوك قد مل البيت ... إن مشيت شوك ... وإن جلست شوك ، حتى لقمة الطعام أحسستها شوك كلها ،أحسست بضحكات ميري صكوك إذعان وذل يجب أن أمهرها بتوقيعي .لأول مرة في عمري أعرف معنى الانكسار والهزيمة لم أستطع التخلص من هذا الشعور إلا وأنا أنقدها أجرها وأرسلها خفية عن زوجي إلى المطار . وها هو الآن منذ شهور أسير أوهامه وأمراضه ، تفوح منه روائح شواء اللحم الآدمي بعد كيّه بالخبر المحمى ذاك .

هل آن الأوان لإعطائه الجرعة الشافية ؟ سرتني في الآونة الأخيرة طريقة صراعه مع الوهم ، ما عاد يستيقظ فالليل صارخاً ، وما عدت أرى في عينيه الرعب ، فقط ثمة انكسار وحزن عميق ، وحتى الحزن هذا يختفي أحيانا عندما يجلس ساعات لتدريس وتعليم الطفلين ..لم يعد يتبدى الرعب فيه إلا لحظة إظهاري لمكامن الإغراء قبيل النوم ، تراه يتجمع إلى نفسه خائفاً يرتجف كعارٍ أنهكه الصقيع .

لا أنكر احتراقي لاحتضانه إلى صدري ، ورغبتي في أسره بين ذراعيّ ، لا أنكر الظمأ الشديد الذي يعتريني لأنفاسه ،الظمأ لممارسة ضعفي بين يديه ، لكن أسلوب الكيّ والعلاج سلبا منه حتى القدرة على النظر إلى عينيّ فتراه يتحاشى ذلك تماماً.
هل آن الأوان لمنحه إكسير الحياة ؟ لقد بدا بالأشهر الأخيرة أكثر توازناً وأكثر حناناً وعطفاً على الأولاد ، وضحكت في سري عندما أراد تسجيل المنزل باسمي ، أيقنت وقتها أن ثمة رغبة شديدة انزرعت في ثناياه للتكفير عن خيانته ولم يسعده أن قلت له ــ ستبقى ملكاً لهذا البيت ، وسأبقى الملكة وسيبقى البيت مملكتنا .

هاجر وقتها إلى صمته وكان صمته حزيناً ، وللمرة الثانية أراقبه في صمته دون أن أنبس بكلمة فالمرة هذه كانت لمعرفة النتيجة . أما الأولى فقد زرعت فيه السبب ، عندما لاحظت اضطرابه إثر تسفير ميري يومها لم يستطع إلا أن يسأل عنها، وأجبته بهدوءٍ شديد أني أرسلتها إلى بلدها ، وقبل أن تحوم الشكوك في رأسه أخبرته وأنا أتصنع عدم الاكتراث أنها مصابة بالإيدز يومها صمت أيضاً، وأحسست بعينيه تتفجران رعباً،لكنه كمن أراد أن يبدي رجولة فقئت فجأة فعض على أسنانه ليمتص ألم سيخ الشواء المحمى على جمرات الخيانة فقد كان الكيّ مفاجئاً، وكان لابد لي من الكذب لأحافظ على مملكتي ومليكي ، سأتهيأ له الليلة وسأرتدي ثوب العرس، وأهم به فقد آن الأوان للجرعة الأخيرة، وأظنه سيولد من جديد بعدما تشكل ثانية في رحم الخوف والندم ، وسيعرف الليلة أن حمله لفيروس الإيدز كان حملاً كاذبا .

عن القصة السورية


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى