الاثنين ٣ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم زهير الخراز

النقـــار 

١. بين حفرة وأخرى.. بين صدع وآخر.. بين خندق وخندق..بين جب الموت وجب يرفل في بالحياة.. بين فوهة بركان يقذف بالحمم، وفوهة إنسان يقذف بالحكم … بين هذا وذاك وقع الخلط والالتباس، فانبثق رجل يدعى» حفار القبور «رفع فأسه عاليا في السماء وهوى به على الأرض ففلقها إلى فلقتين ثم قال: 

عجزت نساء العالم عن أن تلدن حفارا مثلي! قالوا وأعينهم تتوجس منه خيفة:

وماذا استفادت الحياة من حفرك ؟!

أسند فأسه إلى كتفه وأردف مزهوا: لولاي لفسدت جثثكم وعم الطاعون والبلاء بين الناس.

قالوا: أنت نذير شؤم وداع إلى الموت.

بل داع إلى التفاؤل والحياة.. انظروا إلى قبوري وهي ترفل تحت باقات الرياحين والزهور! فمن شق الطريق لبراعيمها الصغيرة سواي!!!

فقد فوا في وجهه كلمات وقد هموا بالانصراف: لم نر قط مغرورا مثلك، على أي حال فالطائر النقار رغم صغر حجمه فهو أفيد منك..

وعلقت كلماتهم الأخيرة في أذنيه ليلة كاملة ولم تبرحها حتى جاء الصباح. وفي الصباح باغت ابنته الوحيدة وهي طفلة نجيبة قائلا:

من يكون الطائر النقار هذا؟! قالت:

هو طائر صغير.. جميل للغاية.. عملي جدا.. ومفيد جدا.. فهو مبيد طبيعي لكل الحشرات والديدان وحتى القوارض التي تضر بالزرع والمرعى والشجر... فقر قرار الحفار على غزو موطن "النقار".

٢. على بعد ميل واحد من الغاب التقطت أذنا الحفار صوت أزيز ونقر وحفر فحدث نفسه » أظنهم عمال المناجم «ولما تقدم قليلا ساد الصمت كل أرجاء الغاب فضحك على نفسه طويلا وهو يستند على فأسه وقال:«محال أن يكون هذا الضجيج المنتظم صادر عن ذاك الطائر التافه، أظنهم حطابون أجانب …» وحينما استظل بظل شجرة عاد الحفر والنقر والأزيز يستفز مسامع حفار القبور من جديد.

تجسس على طائر النقار من قريب ومن بعيد.. من فوق الشجر ومن تحت الشجر.. تفحص موطن الطير بدقة متناهية فأرعبته كثرته وركبه شيطان اسمه «إبادة الطيور النقارة» تأمل بعض الشجر، فأرعبه شموخها وركبه شيطان إسمه «نسف الشجر» ضغط بكلتا يديه على مقبض فأسه برغبة يائسة وخمن قائلا: » تغزو المنطقة خمس براري.. كل برية تحتضن أكثر من خمسمائة شجرة.. في كل جذع شجرة سبعة أوكار، في كل وكر ثلاثة فراخ وثلاث بويضات.. على باب كل وكر طائرين بالغين « ثم ضرب أخماسا في أسداس.. سطر جداول وأرقاما وطلاسم على جذوع الشجر وعلى الثرى.. هوى بفأسه على يمينه وعلى يساره.. ارتطم معوله بجذع شجرة عمرها أكثر من خمسمائة عام.. سقط على الأرض لاهتا.. صرخ يائسا:

أنا أقوى حفار على ظهر البسيطة.. أنا من أودعت عندي الأموات والأحياء أرواحها..
 
٣.قال الطائر النقارلأنثاه في البرية المجاورة:

انظري هناك، حيث المقبرة المهجورة، فكم من شهيد هناك!!!

وكم من مستبد هناك!!!

الشهيد لا يبلى جسده رغم السنين ولا تقربه الديدان!

قالت أنثاه:

قد تنتقل العدوى لأجساد الشهداء، فتعال ننظف جثث » الطغات «من الديدان، ويصرخ الطائر النقار مذعورا:

إياك أن تفعلي ذلك.. فذلك النوع من الديدان لا تبيده إلا النيران.
 
٤. ويصرخ حفار القبور للمرة المائة بعد الألف:

أنا أدهى حفار على هذا الكون.. أنا من أودعت عندي الأحياء و الأموات أرواحها.. وهوى بأنفاسه على الشجرة المعمرة فارتطم بها كما ترتطم بعوضة بطود شامخ عظيم.

وحز في نفس الحفار أن تتواجد في هذه البراري المتوحشة كائنات صغيرة تافهة تجيد حرفته بحنكة عالية.. وأكثر ما حز في نفسه معزوفة الحياة تلك التي يبدعها الطائر النقار هناك في تجاويف الشجر، مقابل طقوسه الحفرية والجنائزية التي يمارسها هو كل يوم على مرآى الأموات الصامتة في أرض صامتة! 

ضم إليه فأسه، تودد إليه، ربت عليه بحنان، داعب حده بسبابته المشوهة، صرخ فيه قائلا: » كل طموحات الجبابرة تحققت بفضل النار والحديد.. سوف أشعلها نارا!! « لكن زخات مطرية فجائية كانت قد أجهضت محاولاته الأولى..

قال الفأس: «سأنهي هذه القصة في الحال.. سيصبح الطائر النقار في خبر كان» وبدأ الحفر والنهب في أرجاء الغاب.. حفر الفأس حفر كثيرة.. ونهب الحفار أعشاشا كثيرة ثم وضعا في كل حفرة فرخين وثلاث بويضات.. وكان الحفار يواري التراب.. وكانت تلك حصيلة عمل يوم وليلة.. فساد الصمت أرجاء البراري الخمس وصرخ الحفار صرخة النصر.. لكن سرعان ما خاب أمله حينما عاد الحفر والنقر والأزير يصدع مسامع الحفار بشكل أكثر حدة هذه المرة، وأرعبه منظر الفراخ الجديدة وهي تطل بأعناقها العارية من داخل الأعشاش المنهوبة، فصرخ صرخاته المعهودة وقذف بفأسه بعيدا وقد تملكه غيض شديد.. ارتطم الفأس بشجرة عمرها خمسمائة عام ونيف.. وخر الحفار على وجهه ثم بدأ يحشو أذنيه بالتراب.

٥.قال الطائر النقار لأنثاه:

ابشري ! لقد اكتسبت أجساد الشهداء مناعة كبيرة فلا داعي للنار لإبادة تلك الديدان الخبيثة.

 لكنها قد تضر بمخلوقات أخرى..لا تقلقي.. ستنقرض هذه الديدان من تلقاء نفسها سوف ترين..
 
٦.وخطب الحفار على شهود المقابر قائلا: أصدقوني القول، ألست بسيدكم؟ ألست بمخلصكم؟ أولست..
 
وابتلعت كلامه أودية سحيقة.. وارتد رجع صوته ضعيفا يدغدغ أذنيه ثم ساد الصمت المكان كله.. إلا من زقزقة فراخ النقار الصغيرة التي مافتئت Jشرئب بأعناقها العارية لتنقر نقراتها الأولى على جذوع الشجر.. 
٧. قال الطائر النقار لأنثاه:

 انتظريني هنا، سوف أنقض على ذاك الحنش اللعين قبل أن يتسلل داخل بستان العجوز الطيب..
ضحكت أنثاه وحدثت نفسها متأملة: «سبحان الذي أودع سره في أضعف مخلوقاته!» 
 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى