الجمعة ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٥
فى القصة والرواية
بقلم فاروق مواسي

ثلاث تسميات والمؤدى واحد

عن كتاب حنا أبو حنا – ظل الغيمة

"ظل الغيمة" كتاب حنا أبو حنا أو الكتاب عنه، لون أدبى يبهرنا بفرادته، وكثر فائدته، اعتبره الكاتب سيرة، لكنى وجدته سيرة – موسوعية Autobio-Pedia وإذا لم ترق لكم التسمية فلتكن سيرة وثيقية Document –Autobio ، أو حتى سيرة روائية (سيرواية).

صحيح أنها سيرة فى كل، لكننا نعرف أنها ليست مجرد تسجيل واعترافات. إن فيها تصوير المجتمع بإبداعية ظاهرة، وفيها ما يحوم حول الرواية التاريخية، فيها رواية تصور حياة أسرة بشىء من التأنى، وفيها وصف للحياة فى شريحة زمنية – هى كلها قبيل تقسيم فلسطين. فيها عنصر الخيال مشفوعًا بتحليقات شاعرية، وفيها تحقيقات واقعية صرفة، وفكاهات، وأساطير معجونة ومطهرة بحرارة الصدق.

أما التسمية الأولى سيرة – موسوعية فقد ارتأيتها بسبب قدرة التجميع الهائلة المدهشة التى يطلع علينا بها حنا يمتحها من بئر الذاكرة عادات، تقاليد، أمثالا، فكاهات، استخدامات عامية، أغانى، فولكلورًا فلسطينيًا، تراه يقف طويلاً على فصل الحمامة باستطرادات جاحظية (ص 37) أو يستطلع عالم الجن (32، 104) أو المندل (216)، ويرافقك إلى عالم النساء (102، 137) أو إلى لعبة الصينية (240).

فى السيرة الموسوعية هنا نجد النفس الروائى كالحلم (103) والوقوف أمام المرآة (93-94)، ونزلة البير (106) أو سلمى والمغربى (ص118).. إلخ.

ونجد الشعر أرق ما يروق وما يحلو، فاقرأوا الوصف- "ذاكرة للعين وذاكرة للفم وذاكرة للأنف وأخرى للأذن (ص 19)، أو تعالوا بنا إلى هذه الفقرة من وصف للمياء والقبلة الأولى:

"كانت مكتنزة الجسم، بياضها كالحليب الذى تعشقه موجة شقراء من العسل، فى صوتها غنج يحتضنك فترافقه إلى حيث يشاء. وشعرها الخروبى أطفال سمر يلهون بالركض على شواطئ الجبين والخدين. ولم ير ذلك قبل زلزال تلك القبلة- حين احضتنته قبل يومين وقبلته على خديه لم يجفل عصفور ولم تتحرك حبة رمل"..
(ص 227 ونماذج أخرى تجدها مثلا فى 233-234،- 194- 195، ص 120..)

ونجد كذلك فى هذه السيرة الموسوعية الكثير من القصص القصيرة مما تكتمل بها شروط القصة الفنية، كأن يتحدث عن البنتين اللتين تبحثان فى جيبه عن قصيدة والتر (ص 224) أو قصة مهيوب الذى استخدم الفأر فى السجن لينقل السجائر (ص 223)، أو قصة المعلم سعد الذى أحب بنت العنب، وكيف أن زوجته قالت للطالب:
"يلعن أبوك وأبو معلمتك" (ص 181) أو قصة الطفل الذى أراد أن يحلق فوجد الحلاق يستعمل البصاق بدلا من الصابون (79)، أو قصة المظاهر التى تنتهى بـ "ولم يبق من جند الله إلا ثلاثة" (ص 190)، كما نجد فى هذه السيرة الموسوعية النفس المسرحى من مسرحية (مونودراما) أو سكتشات كفصل الهرمزان (ص 236) أو لعبة الصينية (240)، أو المندل (216) أو التغييث (108).

ولا نعدم روح المقالة التى تكتمل رسالتها، أو فكرتها المحورية (ص 37)، أو المقالة الوصفية عن بحيرة طبريا (ص 200).

أما التسمية سيرة – وثيقية فأعمد إليها بسبب الغناء الذى نراه فى الحديث عن عالم القرية والمدينة عبر تنقلات الكاتب الكثيرة فى ربوع فلسطين بحكم ضرورة عمل الأب.. إنه يتوقف طويلا على التراث الفلسطيني- كما ذكرنا – ولا ينسى حتى لف الدخان (ص 77) أو بطح الكلاب (88). وصف الجرار (103) أو زواج الغصب (137) أو النذور والأولياء (12،115).. وغيرها كثير من الجزئيات التى لا أزال أذكرها – بل أعادنى إلى طفولتى إليها – ولا ينسى أن يدون لنا الأحاجى اللغوية، النكات، الفكاهات، الإيحاءات، المواقف الفلسفية والفكرية التى نستطيع أن نقتطف منها ونحفظها أو نعلقها باعتبارها مقولات مأثورة.

إنه يسوق آراءه الأدبية واطلاعه الثقافى العام عبر استطرادات، قلنا إنها جاحظية، بيد أنها أسلوبية تراثية لم تقتصر على الجاحظ فقط. ينقلك المؤلف إلى أوضاع فلسطين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية- إلى مدنها وقراها، فلا يغفل مظاهرة الناصرة أو القفشة (ص 70) أو التبرع لجماعة الحاج أمين (ص 76) أو التهديدات التى كان يرسلها بعض الثوار أو المتشبهين بهم (ص 76).. الخ.

من هنا أرى ضرورة أن يكون كشاف للكتاب - لكونه وثيقة فلسطينية لم يدون على غرارها ونمطها فى كتاباتنا الأدبية المكثفة، كشاف بالأسماء وبالكلمات العامية، بالعادات والتقاليد، بالطبيعة، بالأمثال وبالموضوعات.. فإذا أراد شخص أن يتعرف إلى " المندل" مثلا فتح ص 216، دون أن يرهق نفسه بالبحث، فثمة تفاصيل دقيقة وأمينة.. الخ.

أما التسمية الثالثة "سيرواية"، فذلك لأنها سيرة تنضبط وفق مقاييس الرواية رغم ما فيها من إضافات قد تعتبر زوائد. يقول د. فهد أبو خضرة مظَهّرًا الكتاب أن المؤلف يروى سيرته، وهو بذلك يعتبرها نوعًا من الرواية - "وقد اختار المؤلف أن يروى سيرته هذه بضمير الغائب متحدثًا فيها عن الفتى يحيى منذ أن رأى النور، وقد ساعده هذا الاختيار على انتقاء التفاصيل التى يراها أكثر أهمية".

وقد نوقشت بعض "روايات" إميل حبيبى فاعتبر البعض أن هذه الزوائد، والإضافات والحواشى إغناء للعمل الأدبى وإثراء فيه كما يذهب د. محمود غنايم فى كثير من مقالاته، بينما اعتبرتها شخصيًا إنقاصًا من المستوى الروائى الفنى.. ومهما اختلفنا فإننا نتفق على كونها نصًا جميلا معبرًا.. فلا غضاضة!

إن الكاتب فى سيروايته ينقلنا من ولادة يحيى "يوحنا" / حنا إلى تلمذته وشيطنته- إلى عالم خياله، وحبه الأول للغته، وحبه للمرأة.. وصولا إلى القدس ليتعلم فى الكلية العربية، إنها رحلة عمر نقلها بأمانة عجيبة، فتصور كيف يعترف أحيانا بالقصور:
"عليه صورة لم تعد واضحة فى الذاكرة" (ص 24) يقول ذلك رغم هذا الإبداع وهذه المشهدية المذهلة.

ومما يؤكد النفس الروائى أيضا استعمالاته: "قال الراوى"، "قال الشارح" وقوله "لماذا تتداعى الخواطر للفكر فى سبل ملتوية.." (ص64).

أما عنوان الكاتب "ظل الغيمة" فقد عدت إلى الكتاب فوجدت الغيمة واردة فيما يلى:
1. "مثل غيمة تنقلت طفولة يحيى فى سماء بلده" (18).
2. "واستلقى على فرع قوى فى انتظار زوال الغيمة.." (ص 131).
3. "تعانقت غيمتان، فكان برق ورعد أصداؤه على السفوح والأودية أجفلت شفتاها.. انحسر شعرها وارتفع شعرها" (ص 226).
4. "لماذا يريد أبوه أن يبدد غيمة الحلم التى يحوم عليها فى عوالم مختلفة (ص 250).

إن ظل الغيمة - تبعا لذلك يفهم فى أكثر من دلالة، فالجملة الأولى مباشرة لا تشفع باتخاذها عنوانًا وكأنها لا تعنى إلا التنقل.

أما القول الثانى ففيه إيحاء بأن كل غيمة لا بد أن تزول، أو كما نقول فى أمثالنا العامية "غيمة وزالت" إذن هى الماضى الذى ولّى.

أما القول الثالث فيشى بحبيبته- الغيمة التى عانقته وظلّ ظلها فى خاطره.

ولكنى أرى أن أقوى إيحاء كامن فى الجملة الأخيرة، حيث الحلم هو الشاعرى والأدب.. إنه يحافظ عليها وعلى ظلها الذى يحمل العطاء أو الماء، ولا بدّ أن خراجها سيكون لنا وللأجيال القادمة بعدنا.

ولم يبق لنا الا رجاء أن يكمل لنا المؤلف هذا البوح الصادق محافظًا على المستوى الفنى المرموق، وأن يأخذ يحيى الكتاب بقوة وبخفة ظل مصاحبة ومواكبة.

عن كتاب حنا أبو حنا – ظل الغيمة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى