الأربعاء ١٢ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

السرداب

تساؤلات سوداوية في اسوداد الحداد تزرع جمجمتها خرابا، ونارا، ودمارا، ضياع مارد متوحش يعربد بهستيريا غريبة في محيط شبابها الكالح، تتبعثر خطواتها التلقائية على أرصفة العمر ضالة، باهتة، مغتربة، تتضاءل شيئا فشيئا قزما حقيرا أضاع موطنه، وفي محاولات عدة، غير ناجحة تسعى للإلمام بشتات قواها، والهروب من ضبابية عالمها اللاسع، الضيق الأرجاء، والمسكون بأشباح آهاتها، وتنهيداتها، ولكن تتهتك كل محاولاتها، وتستحيل هشيما تذروه أنامل الرياح.

تنشج بعنف مربك قاتل كطفلة بريئة تلطخت بسموم الغدر والهوان، تحدق في ساحات الفراغ بعينين تائهتين أجهدهما الذعر والأسى لعلها تتسرب إلى قلبها الكسير نفحات بلسمية شافية تعيد لها تموجات الشباب المهدور.
تصطخب الأسئلة في رأسها كأمواج فوضوية عارمة، تتضارب بشراسة قاهرة مميتة، وتتكالب على تمزيقها شر تمزيق.

هتفت في دخيلتها كغريق تتشبث يداه الهزيلتان بأذيال الفراغ المريب: سأطرح مشكلتي العويصة في جميع الجرائد، ومختلف المجلات آملة أن يتوسم رجائي بحل أنجع مفيد، هناك آلاف الفتيات بل الملايين اللائي يلجأن إلى تدوين مشاكلهن التماسا لبعض النصائح الثرية من ذوي الأفئدة الطيبة، لست الأولى والأخيرة التي اقترفت وزرا جسيما في حق نفسها، نعم لست الأولى والأخيرة

زفرات حارقة كالفحيح تنبعث من صدرها المثخن بالجراح، تستشعر تيها صاعقا يلفها بفظاعة، يتواصل أنينها، يئز من غير انقطاع، تتصور نفسها وهي تصيح بملء فيها: يا ناس أقتلوه من دون أن تخالجكم ولو ذرة من الشفقة، لست الوحيدة في اقتراف هذا المنكر الأعمى، هو الآخر من تسبب في ذلك، لا تدعوه يعيش حرا طليقا من غير أن تسلطوا عليه أدنى عقاب.
تنبثق أصوات هادرة كالرعد القاصف من كل حدب وصوب: نحاكمك أنت، أنت فقط، أين هي عفتك وطهارتك؟ لماذا لم تصوني ماء وجهك، وانغمست انغماسا كليا في وحل الرذيلة؟

تفكر مليا، ثم تمسك قلمها وتنكب على الكتابة في إصرار شديد: كيف أطفئ نار العذاب المندلعة في صحراء أعماقي؟ إني أحترق رويدا رويدا، أغيثوني، أرجوكم، أتوسل إليكم ألا تصدروا في حقي حكما متعسفا، أبسطوا علي كامل عنايتكم، وكونوا لي السند الذي يؤازرني في كربتي، و......
فجأة غزاها فشل ذريع، وتبخر إصرارها أدراج الرياح، وضعت القلم جانبا، وحدقت في الورقة الموضوعة أمامها، ومن ثم توغلت في مناجاة صادقة كأنما تود إقناع نفسها التي ما فتئت تتخبط في جحيم الهذيان: كان من واجبي التحلي بالحيطة والحذر منذ البداية، وألا أكون مضغة سائغة لألسنة جارحة لا ترحم.
ـــ المصيبة حلت ببيتي، يا للعار! يا للفضيحة!
ـــ سامحني على ما ابتدر مني يا أبي.
ثار كجنون الزوبعة: أنا لا ألوث يديّ بدم كلبة، هيا اغربي عن وجهي.

انسحبت من البيت منكسة الرأس، ذليلة، مهيضة الجناح.
واجهته حين حلت الكارثة فوقها: اعترافك بالجنين أمام الملأ سيخفف عني وطأة العذاب، ويرفع رأسي عاليا.
بخبث ومراوغة قال: أجهل عنه كل شيء.
ـــ أرجوك، لا تتخلى عن فلذة كبدك، إنه جزء منك.
فشلت كل توسلاتها التي بسطتها أمامه، وظلت عيون الناس تلاحقها من مكان لآخر، تلتهمها من غير رأفة بها، ألسنتهم المسمومة لا تتوقف أبدا عن تجريحها وإيلامها، كانت بالنسبة لهم وصمة عار مكتوبة بمداد الأيام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى