السبت ٢٩ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم إبراهيم سعد الدين

وَداعاً.. أسامة أنور عُكاشة

الحُزن على فؤاد زَكريّا لَم يَهْدأ بَعْد، وها هو ذا نَجْمٌ مُضيءٌ آخر في سماءِ الفِكْرِ والإبْداع العَرَبِيّ يُوَدِّعنا تاركاً في قلوبنا وقلوب كُلِّ مُحبّيه ـ من المُحيطِ إلى الخليج ـ حُزْناً ثقيلاً ووَحْشَةً وأسَىً وانطفاءً. رغْمَ مَرَضه وبلوغ حالته الصِّحِّيَّة مَرْحلة الحرَج خلال الفترة الماضية، كان رحيل أُسامة أنور عُكاشَة مُباغتاً للجميعْ. رُبَّما لأننا جميعاً اعتدنا منه أن يُفاجئنا بعمَلٍ جديدٍ من أعماله الأدبية أو الدرامية التي تُدْهشنا حقاً وتَثْري وجداننا وتجمعُ بين جِدَّة الفِكْرة وأصالة الجَوْهَر وعُمْق المضْمون وبين المُتْعة والتَّشويق وجودةِ الصَّنْعَةِ ومهارة الحَبْكة وروْعة الحَكْي. لكنَّه فاجأنا هذه المَرَّة برحيله. وما أقساه من رَحيلٍ على أحبّائه ومُحبّيه. فقد كان أسامة أنور عُكاشَة طرازاً فريداً ونادرَ المثالِ ـ كَمُبْدعٍ وإنْسانْ ـ يجمعُ بين ثراء الفِكْرِ وغِنَى المَوْهبة وعُمْق الثقافة وتَنَوّع مصادرها ومنابعها، وبين المُعايشة الحميمة للواقع المُعاش والمقْدرة الفَذَّة على تَحسًّس نَبْضه ورَصْد أحداثه ومُتغَيِّراته وتشْخيص عِلَلِه وأدْوائه. وكان يَجْمَعُ ـ في انْصهارٍ مُدْهش ـ بين دماثة الخُلُقِ ورِقَّةِ الحاشية وأدَبِ الحوارِ وقُوَّة الحُجَّةِ وجَرْأة الخطابِ وبيْن صلابة النِّضال وثبات المَبْدأ والاسْتماتة في الدِّفاعِ عمّا يراه حَقّاً وصِدْقاً وخَيْراً. لَمْ يَحِدْ قَيْد أنْمُلَةٍ عَمّا آمن به وانتَمَى إليه طيلة حياته ولَم يُزايدْ على فِكْرٍٍ أو قضيّة من قضايا وطنه وشَعْبه وأُمَّتِه، بل بقي حتّى آخِرَ نَفَسٍ مُبْدعاً أصيلاً وصادق الإحساسِ والرُّؤية ومُناضِلاً شُجاعاً غَيْرَ هَيّابٍ ولا مُهادِنٍ ولا مُمالئٍ لِسُلْطةٍ أيّاً كان مُسَمّاها ومهما بلغت سَطْوتها وشراستها، ومُفَكِّراً أميناً مع ذاته وقناعاته وطموحات شَعْبه ووطنه وأمَّته، وعَلَماً بارزاً من أعلامِ التنوير والتَّقَدّم والارتقاء في الوطن العربيّ.

قَدَّمَ أسامة أنور عُكاشَة ـ خلال مسيرة حياته التي امتدَّتْ سَبْعةً وسِتِّين عاماً ـ زاداً ثقافياً وفِكْرياً وفَنِّيّاً عالي القيمة ثَمين الجوهر ككاتبِ قصّةٍ وروايةٍ ومقالَةٍ ورائدٍ كبيرٍ وبارزٍ من رُوّاد الدّراما التليفزيونية في مصر والعالم العربي. ولا أعتقِدُ أنَّ أحداً من كُتّاب الدّراما في عالمنا العربي قد حظي بما حظي به أسامة من شُهْرةٍ بين جمهور المُشاهدين والتفافٍ حول أعماله وتجاوبٍ مع نَبْضِ أحداثها وتفاعل مع قضاياها وهمومها. كما أعتقدُ أنّ دوره في الارتقاء بالدّراما التليفزيونية يُشْبه إلى حَدٍّ كبير دور نجيب محفوظ في الارتقاء بالرواية العربية إلى مُستوى العالَميّة. وإليْه ـ أسامة أنور عُكاشَة ـ يرجع الفَضْلُ في إقرارِ مادّة الدّراما التليفزيونية كمنهجٍ يُدَرَّسُ بالجامعات المصرية والمعاهد الأكاديميّة بعد أن كانت مُجَرَّد مادَّةٍ للمُشاهدة والمُتْعة. كان مُسَلْسَله الشَّهير (الشَّهد والدّموعْ) بُجَزْئيه الرّائعين هو فاتحة الأعمال الدّراميّة التي لفتت إليه أنظار الجمهور بِشِدَّة، بعدها جاء مسَلْسل (ليالي الحلْميّة) بأجزائه الخَمْسة ليَحْظى أيضاً بأكبر نِسْبة مُشاهدة بين الجمهور. ثُمَّ توالت أعماله وإنجازاته الباهرة بعد ذلك لتُشَكّلَ عالماً فريداً وبالغ الثَّراءِ والعُمْق والتَّنَوّع، تمْتزجُ فيه القراءة الواعية للتّاريخ بعبقرية الإحساسِ بالزَّمانِ والمكان والتطور الاجتماعيّ وروْعة الإبْداع في خَلْق الشَّخْصيات وصياغة الحوار وتسلسل الأحداثِ وتطوّر الصِّراعْ. فجاءت أعماله الدّراميّة اللاّحقة على نفس المُسْتوى الرَّفيع من الجودة والغِنى والعُمق والأصالة: (أرابيسْك)، (الرّاية البيضاء)، (الحُبّ وأشياء أخْرَى)، (عابر سَبيلْ)، (رحلة أبو العلا البشري ـ ثلاثة أجزاء)، (وقال البحْر..)، (عُصْفور النّارْ)، (زيزينْيا ـ جُزْءن)، (امْرأة من زمَن الحُبّ)، (أميرة في عابدين)، (عفاريت السَّيّالَة)... وانتهاءً بمُسَلْسل (المصراويّة) الذي قُدِّم منه جُزْءان وشاء القَدر أن يَرْحَل أسامة قبل أن يُكْمل بقيّة أجزائه.

على أنّ إبْداع أسامة أنور عُكاشة لا يَقْتصرُ على الدراما التليفزيونية فحسب، فقد كان قاصّاً وروائيّاً نابها ومُجيداً، وكاتب مقالٍ جادٍّ وجريء وعميق التأثير قادرٍ على اقتحام كُلّ القضايا الشّائكة والمحظورة بِجَرْأةٍ واسْتنارَةٍ وعَقْلانيّة. من أهم أعماله القصصية والرّوائية: (مُنْخَفض الهند الموسمي)، (همس البَحْر)، (تباريح خريفية)، (وهج الصَّيف). وهي أعمالٌ ما تزالُ باقية في ذاكرة الجماهيرـ جماهير القُرّاء والمُشاهدين ـ وسَتْبقَى في وجدان النّاسِ إلى أمَدٍ بعيد، لأنها تنبُع منهم وتُجَسّدُ آمالهم وآلامهم وتقتفي وَقْع خُطاهم وتصَوّر ـ في وَعْيٍ وصِدْقٍ وأمانة ـ نَبْضَ أحلامهم وهمومهم وقضاياهم، وتَحْملُ ـ في دأبٍ ومُثابرةٍ وإيمانٍ عميق بالمُسْتقبل ـ رُؤى وبُشارةَ الغَدِ الآتي من ظُلْمَةِ الحاضِرِ وجَوْرِه وقَسْوتِه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى