الخميس ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم عادل سالم

سرُّ في بئر

للحاج أسعد صديق يعيش قرب قرية «جبع» القريبة من القدس، ويدعى فليحان. كان فليحان راعي غنم، وعندما بدأت إسرائيل تستولي على الأراضي وتضيق الخناق على الرعاة ضاق به الحال وتوقف عن العمل، فاضطر أن يستدين بعض المال من صديقه الحاج أسعد صاحب مخبز الانشراح في رام الله حتى تتغير الأحوال. ولأن الحاج أسعد يثق بفليحان فقد أقرضة ألف دينار دون أن يوقع على أية أوراق أو وصولات فالأصدقاء يرتبطون بكلمة وليس بتواقيعهم على الورق.

كان للحاج أسعد ولد مراهق يدعى ربحي. له شلة من أصحاب السوء الذبن لا هم لهم سوى اللهو واللعب، فلم ينجح بدراسة، ولا بعمل. وكلما حاول أبوه إبعاده عنهم، تذرع أنهم أصدقاؤه، وأنهم يضحون من أجله بكل شيء.

في أحد الأيام عاد ربحي متأخرا في الليل، وعندما دخل رأى أباه جالسا ينتظره.
فوجئ به في غرفته:
  لقد أفزعتني يا أبي، هل ستسألني أين كنت؟
  لا، لكن هناك مشكلة أريد مساعدتك بها، إنها مشكلة خطيرة!
تغير وجه ربحي واستفاق من عبثه.
  ما هي؟ أرجو أن تكون خيرا!
  اسمع تشاجرت اليوم مع أحد الزبائن الذي لم يدفع حسابه ضربته بيدي فسقط ومات. لم أقصد والله يا ولدي، لكن حصل.
وليس أمامي سوى حلين أن أعترف للشرطة وأدخل السجن، ويطاردنا أهل القتيل، أو أن ندفن الجثة سرا، وندعو الله أن يغفر لنا.

لم يصدق الولد ما سمع، فسأله:
  هل رآك أحد وأنت تضربه؟
  لا كان وحيدا في المخبز.
  وأين جثته؟
  تركتها في المخبز، وضعتها في صندوق.
فكر الولد وقال:
  حسنا سأطلب من أصدقائي مساعدتي.

ذهب ربحي إلى أصدقائه ولم يتصل بالهاتف لئلا يسمع الكلام أحد، وأخبرهم أنه يريد مساعدتهم في نقل صندوق ودفنه في منطقة نائية.
  صندوق؟ الآن؟ يبدو أن فيه كنزا.
  لا فيه قتيل تشاجرت معه ومات خلال الشجار.
اعتذر أصدقاؤه كلهم عن مساعدته، وقالو له:
  لا لا هذه جريمة لا نستطيع مساعدتك بها.
  ولكني سأسجن إذا لم تساعدونني.
  كان عليك أن تتروى، كيف تقتله يا رجل.
  لعب الشيطان في رأسي، ولكن أين صداقتنا؟!
  صداقتنا أن نشرب ونلعب الورق ونطارد الفتيات لا أن ندفن الأموات.
هز رأسه وعاد لأبيه أحمر الوجه.

  رفضوا مساعدتي، ما رأيك لو قمت بدفنه لوحدي؟
  كيف إنه ثقيل يا بني، وعليك حفر قبر له.
اسمع هل تذكر صديقنا فليحان راعي الغنم؟
 أذكره إنه يسكن في جبع.
  حسنا تعال نذهب إليه نطلب مساعدته.
  ولكنه نائم الآن.
  تعال ولا تقلق.

بعد نصف ساعة كانا أمام بيته، طرق الحاج أسعد على الباب فسمع صوته من الداخل:
  من بالباب؟
  الحاج أسعد.
فتح فليحان الباب، ولم يصدق:
  الحاج أسعد، تفضل... يبدو أن الأمر خطير.
قال له الحاج أسعد:
  نحن بحاجة إليك يا فليحان.
  أنا جاهز، ما المشكلة.
  تشاجرت مع زبون ومات بين يدي وأريد دفنه.
  أين الجثة؟
  في المخبز وضعتها في صندوق.
  هيا إلى المخبز، سنحضرها إلى ذلك الوادي، ونتعاون معا وندفنه هناك.
قبل أن تبزغ شمس النهار كانت الجثة قد دفنت وعاد الحاج أسعد إلى رام الله مع ابنه فيما غادر فليمان إلى بيته.
بعد شهر قال الحاج أسعد لابنه.
  يا ربحي، فليحان مدين لنا بألف دينار، وقد مر على ذلك حوالي السنة، ولم يسددها، اذهب واطلبها منه بأدب لعله نسيها.
ذهب ربحي وسأله، لكنه عاد يخبر أباه أن فليحان يعتذر عن الدفع لأن الأوضاع صعبة، وأنه سيردها حالما تتحسن الظروف.
بعد شهرين أعاد الحاج أسعد الكرة وقال لابنه:
  اذهب واطلب الألف دينار من فليحان، ولكن هذه المرة كن جافا معه.
ذهب ربحي ولم يصدق أن أباه يقسو على من ساعده في دفن الجثة، لكنه عاد يخبره بما أخبره سابقا.

بعد أسبوع قال الحاج أسعد لابنه:
  اسمع، احمل هذه العصا وإذا رفض فليمان دفع المبلغ او تحديد مدة زمنية اضربه بها، لكن لا تقسو عليه.
فقال الولد لأبيه:
  يا أبي ولكنه...
قاطعه أبوه:
  افعل ما أمرتك به. فهذا مالي وأنا تعبت به.

ذهب ربحي محتارا مع أبيه، يفكر بماذا سيرد عليه فليحان لم يستوعب ربحي ما طلبه أبوه، وتمنى الموت على أن يضرب فليحان.
وعندما التقى به، قال له:
 يا فليحان أستحلفك بالله أن تدفع الألف دينار فأنا لا أريد أن أرى نفسي أنفذ ما طلبه أبي بك. أنت رجل صديق لأبي.
فسأله فليجان:
  وماذا طلب منك أبوك؟
قال له:
  طلب مني أن أضربك بعصا أحملها بالسيارة.
هز فليمان رأسه، واحمر وجهه فقال لربحي:
  يا ربحي اذهب لأبيك وقل له: يا حاج أسعد سرك في بئر مهما فعلت.
عاد ربحي ليخبر أباه بما سمع.
وقف الحاج أسعد وهو يصفق بيديه، اقترب من ابنه وقال له بعد أن وضع يده على كتفه:
  أرأيت الأصدقاء يا بني؟ أرأيت ماذا يقول؟ سرك في بئر مهما فعلت! اذهب الآن واحضره معك.
وعندما عاد ربحي مع فليحان، وقف الحاج أسعد وعانق فليمان، قال له:
  يا فليحان ما فعلته معك لم يكن بقصد إهانتك، فأنا أتفهم ظروفك لكني أردت أن يعرف ابني معنى الأصدقاء ومعدنهم، ولم أر سواك كي أجري التجربة عليه.
أنت لست مدينا لي بشيء اعتبارا من اليوم.
صمت ثم قال:
 أما الذي دفناه معا فلم يكن جثة رجل قتلته بل جثة خروف كبير، أردت فقط أن يعرف ابني أصدقاءه الحقيقيين من أصدقاء السوء المزيفين.
اذهبا معا، واحفرا القبر، لتريا بعيونكما ذلك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى