الجمعة ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٥
قصة قصيرة
بقلم إبراهيم سبتي

ما يتركه الجراد

في ظهيرة قائظة من يوم مضى .. لم اكن اعرف تماما بما حصل .. لم استطع سؤال أحد ..
رأيت رجلا ذو سحنة غريبة ، وجه غارق بحمرة لاصفة .. عينان غائصتان خلف نظارة سوداء

..
ترجل من آلية ضخمة مرعبة .. كلمني دون أن افهم شيئا .. لم افهم أية كلمة .. لكني عرفت من
إشاراته بأن علي ترك المكان حالا وإلا سألقى مالا يرضيني ، هذا ما خمنته مع نفسي .. فقد كان غاضبا ويتكلم وكأني ارتكبت خطأ ما .
لم استطع سؤاله فمؤكد انه لا يجيبني .. لا يعرف أية كلمة مني .. تكلمت مدافعا ، صرخت لافائدة ..

راح يزجرني هاذيا مغتاظا وانا واقف في مكاني الذي خلا إلا مني ..
الآلية الضخمة تصدر صوتا مدويا ومزعجا .. عجلاتها دمرت إسفلت الشارع المحاذي للنهر ، اقتلعته وصار كزرع عبثت به الثيران الهائجة ..
تسلق آليته الواقفة في الشارع المدمر مستنكرا وجودي بنظراته المحتدة التي ظل

يرمقني بها
فيما ظهرت ثلاثة رؤوس من جوف الآلية المخيفة ..
لم يتكلموا قط لكنهم وزعوا نظراتهم حول المكان غير مبالين بوجودي ..
تحركت العجلات ممعنة بالشارع تدميرا .. لكنهم توقفوا .. وانبرى الوجه صاحب النظارة طالبا مني المغادرة بإشاراته ومطلقا كلماته التي لم افهم منها شيئا .. استدرت الى الوراء وسرت بخطوات وئيدة متلفتا نحوهم وأنا أتألم لمرأى الشارع الذي داسته كل أقدام الناس الهاجعين ألان في بيوتهم في غابر الزمن لا بل في زمن مضى أو قل منذ زمن قريب وصار جزءً من همهم ..

نظرت بأسى بالغ الى نثاره وتخيلت أثار الأقدام التي اختفت وتلاشت وصارت خرابا ..
قلت لنفسي فزعا .. لماذا يصرون على مغادرتي ؟ ياويلتي ان رأوني ثانية .. واستدركت :
ماذا سيفعلون بي ؟

هل سيلقون بي في النهر ؟
لا اعلم ماذا سيكون عليه الامر لو عادوا ووجدوني اقف قبالة النهر على الإسفلت الخرب
في الشارع الذي كان قبل ساعة من الان خزين ذكريات المدينة عبر كل الاقدام التي مرت عليه ..

المدينة نائمة الان .. القيظ لايطاق ابدا .. كان مجيئي محض صدفة مطلقة ..
ولكني لم استطع تفسير حضور صاحب النظارة وجماعته في الالية المفزعة ..
عدت ثانية أتفحص النهر وماءه الساكن .. وقفت في نفس المكان الذي طلبوا
مني مغادرته رغم اني لا اخفي قلقي من قدومهم وانا لا اعرف السبب من خشيتهم مني ..

نزلت واقفا على الجرف ومررت بيدي على الماء وانا غارق في التأمل ..
الظهيرة الحارة تحرق رأسي كاسواط اللهب وانا انظر من حولي فبدت المدينة مهجورة تماما ..

لاشيء يتحرك .. لا شئ يدل على وجود حياة .. كل سكن وتحول الى جماد كإسفلت الشارع
الذي خربته الآلية المخيفة ..
فجأة .. تناههت الى سمعي ترترة محرك الآلية .. روعني الصوت وجعلني ابحث
عن مكان قريب أتوارى خلفه .. لاشيء أمامي غير النهر الساكن ولاشئ خلفي
غير شوارع مهجورة ساخنة ترتعش في سراب بعيد ..اقترب الصوت مزعجا ، تلفت فلم ار شيئا يحميني .. داهمتني على الفور فكرة المغادرة فتحركت بمهل نحو الشارع الطويل الموصل الى قلب المدينة

ولكن عليَ ان اصل الى الشارع المدمر أولا رغم قربه مني فوضعت اولى خطواتي
وشعرت بانهم اقتربوا مني .. أسرعت في اختراق الإسفلت المقلوع وولجت
الى جوف الشارع الطويل .. لمحت شخصا يتحرك باتجاه النهر وكدت اصفق فرحا ..
اقترب مني حتى صار أمامي ، كان رجلا مسنا وحده في الشارع ولا أحد غيره في القيظ الحامي ..

اجتازني سائرا الى الامام الى حيث النهر .. لم يروه وهو يقترب ، كانوا في جوف اليتهم الواقفة قبالة النهر والتي يبدو انها خربت ماتبقى من إسفلت الشارع ..
واصل الرجل سيره مارا من أمامهم فتعجبت لجرأته وعدم اكتراثه ..
دغدغت مشاعري فكرة طارئة ، ان الحق به مهما تكن العواقب ..

تحركت الى حيث كنت .. انضممت الى الرجل المسن الواقف في الخلف منهم فشعرت
إن خوفي قد تلاشى .. اقعى الرجل على الجرف فسألته متبرما :
ـ هؤلاء لا يقبلون وجود أي أحد في هذا المكان .

أجابني وهو بادي الإنهاك :
ـ ليفعلوا بي ما يفعلون .. !
جفلت لهذا الجواب فشجعني اكثر في البقاء معه لكنهم ترجلوا من القمرة العالية ..
كانوا ثلاثة وانهالوا علينا بسيل جارف من الكلمات التي لم نفهم منها شيئا
وسألت الرجل العجوز الذي انتصب واقفا فكان مثلي لا يعرف ما يقولون ..
تقدم أحدهم نحونا ووضع كفه على كتف الرجل المسن لكنه لم يدفعه ، فهمنا إنها تعني إخلاء المكان ..

تحرك العجوز فلحقته .. انطلق بسرعة فيما كان الاثنان الآخران يصرخان بوجهي وحاول
أحدهما دفعي لكني افلت منه . ابتعدنا عنهم .. سرنا تحت رحمة الشمس اللافحة ..
حاولت كسر جمود الموقف مع الرجل بأسألتي ، لم يجبني واكتفى بالنظر ألي فشعرت بأنه خائف

من شئ ما ولم يوصد الباب بوجهي قال لي متهجدا :
ـ لنترك المكان !
اجبته متسائلا :
ـ لماذا يحاولون إبعادنا ؟
صمت الرجل لكنه كمن تذكر شيئاً قال ساخطا :
ـ لنعد الى بيوتنا .

أحسست بان الرجل يخبئ شيئا .. لا ادري ما الذي جعلني اعتقد ذلك .
التفت الى الوراء فرأيت حشودا غريبة فازدادت رهبتي .. يا الهي لقد تناسلوا .
صاروا اكثر من خمسين رجلا يتشابهون في كل شئ .. انطلق العجوز مبتعدا عني ..
صحت خلفه علي أقنعه بالبقاء قربي .. لم يتوقف ولم يجبني أبدا عن صيحاتي ..
سرت الريبة الى دواخلي وتأكدت بأنه يخبئ سرا ما وانه يعرف لماذا يتواجدون قرب النهر في
ساعة القيظ هذه ..

كانوا يتحركون متوزعين وكأنهم يحرسون شيئا .. ازداد تشبثي بالرجل المسن
وحاولت ثنيه عن الهروب .. ألححت عليه ، توقف فجأة ، نظر ألي بشرود وقال كلماته
الحبيسة وكأنها انبثقت من بئر عميقة :
ـ قبل ساعة حدث كل شئ !
صمت وبدا انه نسي ما تبقى ، وضع يده على رأسه وأحسست بأنه يتألم من حمى اللهب
الذي ضربه في هذه الساعة واردف :
ـ ما الذي بيدنا عمله ، كل شئ حدث وانتهى بلمح البصر ! كنت هناك ولم اقو على عمل شئ ..

لم استطع .. خذلتني سنيني وعجزت عن المحاولة ، بل لم أفكر .. لم ..
نظرت أليه مشدوها .. لم أرد عليه بأية كلمة ، لم اجبه وعقد الدهشة لساني وشعرت
برعشة تسري في جسمي وأنا أرى الرجل يرتجف ..
قلت له متخابثا :

ـ هدئ من روعك يا رجل .. اكمل .. اكمل
اطرق برأسه وقال :
ـ لم يجدوا وسيلة للهرب ، فرموا بأنفسهم في النهر ! خسارة .
ـ من هم ؟
ـ رايتهم وهم ينطلقون هاربين من قبضة هؤلاء .. كانوا يركضون بعنف نحو النهر ..
أحسست إن الرجل يرتجف بشدة وعلت صفرة الموت وجهه ، أشفقت عليه وجلت بنظري
حول المكان ابحث عن ظل أجلسه تحته .. رأيت على بعد وتحديدا على رصيف الشارع الطويل ظلا خفيفا، أمسكت بيده وسرت به نحو دكة حجرية تظللها بقايا شجرة مسكينة وصلنا بعد عناء، تهالك
وهو يرعد ولكني شجعته بروية وبهدوء مطمئن ليكمل فلا أحد يسمعنا ولا أحد غيرنا ..
ـ كانوا ثلاثة .. رموا بأنفسهم في النهر ولم يخرجوا طيلة مكوثي .. ربما كانت اقل من ساعة ..

رأيتهم وخلت انهم سيخرجون ولو طالت غيبتهم ..
شهدت كل شئ وكاد الهلع يخلع قلبي ، هربت الى مكان ابعد انتظر ما سيؤول أليه مصيرهم .
نهضت وصحت مذعورا بوجه الرجل ..
ـ وما الذي دفعهم الى ذلك ؟
كدت اصعق من وقع كلام الرجل ..
لكني حاولت ان أهدئ من فورة الغضب واستمع الى الرجل الذي كان موتورا ..
رفع رأسه قائلا :

ـ لم يسعني إلا أن اعترف بعجزي .. لم استطع فعل شئ يمنع الكارثة !
انهار باكيا ، تألمت لمنظره ، أشفقت عليه ولا ادري أي شعور بالقرف تملكني ..
نظرت الى النهر فوجدت المسلحين قد توزعوا على طول الشارع الخرب ، لا زالوا تحت اللهيب الحامي يغلقون المنطقة ..
تملكني رعب خفي وأنا استمع الى الرجل الذي بدا كلامه مخيفا ..
روعني الى حد أنني ارتعدت وقلت فزعا :
ـ لنعد ونرى ما يحدث !
أشار بيده نحو النهر في ازدراء ، قال :
ـ ستجدهم يملؤون الجرف يا صاحبي .. انهم كالجراد ان هجم على زرع لا يبرح حتى يتأكد انه اهلك
كل شئ .. ستجدهم واقفين ليتأكدوا من ان الثلاثة غرقوا وانقطعت سبل نجاتهم .. لننتظر ونرى .
بعد دقائق لمحت مجموعة منهم تتحرك وتختفي ولحقتها أخرى ..
قلت في نفسي الفرج بات قريبا .
كانت المجاميع قد غادرت إلا الآلية المدوية ..نهض الرجل ينتظر معي مغادرتها مع وثوقي بأنه يسمع الترترة المرعبة دون رؤية شئ حيث تحركت مخلفة وراءها صوتا متوحشا مروعا ..

ابتعدت تماما عن المكان وآن لنا أن نتوجه خلسة هذه المرة مع حذرنا الشديد ..
تحركنا ببطيء وكأننا ربطنا بحبل ، قرأت الغضب في عيني الرجل لكنه ظل صامتا ..
قطعنا مسافة حامية ينز الشارع فيها حمما تحرق كل شئ فينا حتى خلت إن دماءنا قد تتبخر قبل أن نصل الى النهر فلا اثر لأي كائن في دائرة المكان والناس هاجعة في قيلولة ربما تمتد لساعات أخري ..

وصلنا الى الإسفلت المهشم وكأن زلزالا ضربه بعنف .. وقفنا سوية أمام النهر الساكن ..
كل شئ كان ساكنا .. لا حركة البتة ولا اثر لحشد المسلحين الذين تواروا ..
الرجل المسن اقترب من اجرف وانهار مجهشا ببكاء مر ، لحقته محاولا سحبه الى الوراء ..
احمر وجهه وكاد يختنق ..

فجأة راح يصرخ مهتاجا وتمدد على وحل الجرف ساكتا شاحبا فيما تعرق جبينه ، تحسست صدره ، نبضه سريعا .. فتحت أزرار قميصه حول الرقبة والصدر والبطن وجلبت ماء بكفي ، رششته على وجهه اليابس .. أفاق بعد عدة رشقات من الماء .. أجلسته متوسلا إليه بالمغادرة ونسيان ما حدث ..

رفض بشدة وشعرت ان قوة ما تجبره على البقاء ، نهض واقفا كالملسوع ، سار خطوتين ورجع بقدرهما .. بدا نافذ الصبر متوتر .. غاضب وساخط ، تمتم بأشياء سمعت منها سباب وشتم ولعنة ..

فجأة ظهر رجل طويل الشعر أشيب ضاع وجهه وسط لحية مغبرة كثة ، نظراته زائغة متهالكة ، يرتدي أسمالا ، اطلق ضحكة قوية واستدار مغادرا .
حاول الرجل المسن الانطلاق خلفه هائجا محتدا ، منعته بقوة
وسكن شاردا مطبق الشفتين قال بحزن بالغ :
ـ أرادوا الهرب من قيد أولئك .. كانوا يسيرون مرغمين أمام الآلية بخطوات
تتحرك بعناء لا اعلم ما الذي جنوه ، لكني خمنت بأنهم كانوا تحت رحمتهم واقتادوهم لسبب ما

ربما يكون واهيا تافها .. كنت مارا ورأيت كل شئ .. لم يكن امامهم سوى الموت في النهر، لحظات وسمعت ارتطامهم بالماء .. لم استطع البقاء فهربت خشية الايقاع بي .. رايتهم كيف القوا بأنفسهم ، كان المشهد مفزعا وسمعت دوي اطلاقات كثيفة ..
لم اكن بمفردي حين حدث المشهد المروع ..

كان المعتوه ذو الأسمال واقفا يطلق ضحكاته المجلجلة وسط لعلعة الرصاص ..
كنت عاجزا عن فعل شئ سوى الهرب وها انذا اقف في نفس المكان ثانية ..
فرك يديه الواحدة بالأخرى .. اغتاظ كثيرا وهو يرى المعتوه يعود ضاحكا بخبث ، صفن بوجهي وقلت مهدئا .. انه رجل معتوه لا يؤخذ على أفعاله ..
الرجل المسن تقدم نحو الماء ينظر إليه بعينين دامعتين .. دخل فيه.. المعتوه يضحك كأنه ينعب ..

خمنت بان المسن سيخرج ان اشبع رغبة تجيش في نفسه ..
ابتعد الى حيث غطى الماء كل جسمه إلا رأسه .. فجأة دوت اطلاقة ..
انبطحت أرضا ولم اعد أرى شيئا ..
بعد لحظة ترقب مخلوطة بالذعر نهضت ..
لم أر رأس الرجل المسن الذي اختفى تماما في حين صمت المعتوه المتمدد على الوحل
الممتزج بالدماء وسط حيرتي وخوفي وأنا اسمع صوت الآلية المخيفة تقترب مني ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى