الخميس ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم نوزاد جعدان جعدان

قرية الشوارب

(المسكينة) قرية صغيرة تقع على سفح جبلي حاد، يجري بين بيوتها نهر معطاء خصب و منظرها خلاب ذو طبيعة ساحرة، حيث أن منظر الشفق في الصباح يبدو كلوحة تشكيلية من إبداعات بيكاسو و مساؤها رائع و ساطع، فالقمر يتدلى بين جبلين عملاقين ليبدو و كأنه المسافة الفاصلة بين نهدي حسناء جميلة، و بدرها ينير شوارع القرية و يهدي من ضلّ السبيل من العاشقين العائدين من مواعيدهم الغرامية..

بالمقابل من هذه القرية تقبع قرية (المتخلفة) القرية الكئيبة المنظر و الشحيحة المياه ، حيث موقعها الجغرافي السيئ المتوضع في منطقة منخفضة أثر على جماهيريتها، فتبدو للرائي من الأعلى كقن دجاج صغير ..

في قرية(المسكينة) يعار المرء من شاربه فكلما زاد طول الشارب فهذا شخص مثقف و عاقل مهذب و لا يهمهم أناقته و نظافته أو حسن حديثه و ثقافته بل ما يهمهم هو المحافظة على الشوارب طويلة محمية من الأوساخ ممشطة..

ففي كل عام تحتفل(المسكينة) باحتفال رسمي يحضره أئمة القرية، الاحتفال عبارة عن مسابقة رسمية لانتخاب الأكثر رجولة في القرية ألا وهو الأطول شاربه و يمنح الفائز جائزة نقدية..

في هذا اليوم الموعود، يتوافد الناس للتفرج على المتسابقين و كل يبرم شاربه و يمشطه متبخترين في مشيتهم كالطاووس.
(باسم) شاب في العشرين من عمره وسيم، مفتول العضلات، له شعر أسود كسواد الليل، مفعم بالحياة نشيط، يكره التقاليد البالية و لكن ما باليد حيلة..
في إحدى ليالي الشتاء حيث الغيوم حجبت وجه السماء و غطتها تحت كنفها، قرر (باسم) حلق ذقنه و التخفيف من شاربه ليقابل في غروب الغد ابنة المختار عند عدوة الوادي، فبدأ بتخفيف شاربه بالمقص و آه ما فعل قد أزال الجزء الأيمن من شاربه و علا صوته في القرية وهو ينادي (ضاع شرفي ..تدمر مستقبلي ..كيف سأظهر للعامة بهذا المنظر المخزي ..لن تتزوجني بنت المختار).

سجن (باسم )نفسه في البيت و لمدة يومين رافضا الشراب و الطعام و أسودت الدنيا في عينيه ..
فكر والده بحل للتخلص من الأزمة العويصة، فقرر أن يرافق( باسم) إلى مختار القرية مستسمحا منه طالبا العفو .. في طريقهم إلى المختار التم الأولاد من كل غور عميق و لحقوا بباسم و أبيه مرددين عبارات الشتائم و السخرية

يا حالق الشارب
يامفتوك الجانب
ما هذا القالب؟
اخرج من قريتنا ..يا أيها السالب
بنفيك نحن..نحن نطالب

و هكذا وصل (باسم) إلى الزعيم ملتمسا منه عفوه و رضاه إلا أن الزعيم ذو القلب المتحجر و العقل اليابس أبى ورفض ثم أمر بنفي (باسم )خارج القرية و فعلا طردوه من القرية.. اتخذ(باسم) من البراري مأوى له والتحف أغصان الشجر و شعر بفضاء الطبيعة والحرية إلى أن اتخذ طريقه إلى قرية (المتخلفة)، فرأى فيها الناس تجمع التبرعات لبناء مدرسة ابتدائية و استقبلوا (باسم) أفضل استقبال و أسكنوه عندهم حتى أمنوا له عملا، ثم بنيت في القرية مدرسة إعدادية تلاها ثانوية و أخيرا بنيت جامعة (المتخلفة) للآداب و العلوم الإنسانية، أصر (باسم) على متابعة تحصيله العلمي في القرية فنال الدكتوراه في التاريخ من جامعة (المتخلفة) و أمسى شخصية مرموقة لها وزنها في المجتمع.

كان الناس في قرية (المتخلفة) يهتمون بالفعل لا بالكلام و يحترمون الإنسان بفعله لا بشكله لا يهمهم إن كان أسود الشكل أو له شارب أم لا، و يقدسون الوقت.
مع مرور الزمن، مُدت الكهرباء و شقت الطرق و تم تمديد أنابيب المياه و أ صبحت (المتخلفة) حضارة يشع منها العلم و المعرفة و قاربا يهدي الجاهل إلى ميناء العلم و أسموها قرية الحضارة.
قرر (باسم) أن يزور قريته(المسكينة) بعد غياب دام ثلاثين عاما -و بعد أن أمسى مختارا لقرية (المتخلفة) و غدا في خريف العمر -لعلهم نسوا القصة الماضية -..عند مدخل قريته شاهد (باسم) النهر الجميل و قد شحت مياهه و الأشجار يبست حتى الكهرباء لم تر النور بعد، استغرب لمنظر الناس وهي تتلمظ المكسرات فاتحة أفواهها تنظر إليه بدهشة و كأنه زائر من المريخ..
تقدم باسم إلى الأمام ثم سأل رجلا عجوزا يمشط شاربه الطويل عن مقر المختار فدله العجوز إلى مقره ، في طريقه إلى المختار وجد (باسم) بيته مهدوما بقي من آثاره حائط واحد مكتوب عليه بالخط العريض (يا حالق الشارب.. أين أنت هارب؟)..و سمع صوت أغنية من شباك بيت مفتوح (يا حالق الشارب..يا مفتوك الجانب..).

ثم تابع سيره فوجد لوحة معلقة مكتوب عليها (مسابقة أطول شارب تقام غدا).. وصل (باسم) إلى المختار فاستقبله المختار و قاموا بعزف النشيد الرسمي للقرية و ليت أذنيه لم تسمعا هذا النشيد الذي لحنه كبار موسيقي القرية و أصبح أنشودة في ثغور الأطفال تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل .. النشيد عبارة عن الأغنية المعروفة

يا حالق الشارب
يامفتوك الجانب
ما هذا القالب؟
اخرج من قريتنا يا أيها السالب
بنفيك نحن..نحن نطالب

دارت الدنيا بباسم و رأى أنه سيرجع ثلاثين عاما للوراء ويمسي متخلفا جاهلا فقرر قراره التاريخي و رجع للخلف متطلعا للأمام تاركا الحفل متخذا من قرية (الحضارة) هدفا له و مأوى يحميه من أنياب الجهل و فكي التخلف..

حلب 20-6-2004

أقصوصة ممتعة ذات مغزى أخلاقي تربوي ولكنها تنطوي على أبعاد سياسية كما أن ميسمها الرمزي لا يخفى لذلك كان في الإمكان أن تكون موجهة لجمهور الكبار


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى