الثلاثاء ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

دِمَـاءُ الـورد

كان لزاماً علي أن أمشي بمحاذاة ذلك الجدار الطيني يومياً عند ذهابي إلى المدرسة التي تقع في الطرف الأخر من القرية.الجدار يعلو إلى مقدار نصف قامة الإنسان،لا يحجب الرؤية لكنه صُمم للحيلولة دون دخول الماشية والدواب إلى ذلك الحوش الواسع،المزروع بالكامل بشتى أنواع الأشجار، تمنع أشجار الكينا والسرو على جانبيه الرؤية،إلا إذا كانت هناك فـُرجة بين الشجر.

يقفز من فوق الجدار كلب أملح، جُدعت أذناه، وبُتر ذيله،ألبسه أصحابه طوقاً حديدياً، تبرز منه أشواك فولاذية،لا تقل شراسة عن أنياب ذلك الكلب،الذي ينبح ويهاجم بشكل هستيري، ربما إظهاراً للولاء أمام أصحابه، أو هي فطرة في نفس الكلاب.

يقترب مني جداً ينبح ويكاد يمسك بطرف بنطالي، فأكبح جماح خوفي وأتظاهر برباطة الجأش، على الرغم من أني أرتجف من داخلي،لكن لو ضربته مدافعاً عن نفسي تعتبر تلك إهانة لأصحابه، في عرف القرويين، ولو أني وليت هارباً لزاد من شراسته ومنعني من أن اسلك هذا الطريق البتـّة.

تذكرت صديقي خليل" أستاذ الفلسفة" حيث كان يقول: إن الحيوانات والضواري عند مهاجمتها للإنسان تعرف إن كان خائفاً أم لا؛ لأن جسم الإنسان الخائف يفرز رائحة، يترجمها الحيوان ويحصل على النتيجة.

مضيت في سبيلي بعد أن تجاوزت الحوش،وتخلصت من رفقة الكلب غير السارّة، وأخذت أفكر ثانيةً في مقولة الأستاذ خليل عن إفراز جسم الإنسان لرائحة الخوف، فقفزت إلى ذهني فكرة مفادها؛ هل رئيس قسم المباحث في المدينة أدرك تلك الرائحة لدى هؤلاء السكان، عندما يجمع اتاواته في مواسم الحصاد، مرغماً الجميع على دفع"الجزية" مع أنهم سواسية أمام القانون، سوى فارق بسيط؛ وهو أن أي واحد منهم ربما يكون متهماً في أي لحظة.

وصلت إلى المدرسة صاعداً التلّ، فتحت الباب، واصطف الطلاب أمام الغرفة الطينية الوحيدة أو ما يسمى مدرسة، ولا يدل عليها سوى ذلك العلم المرفرف فوقها، مشدود الوثاق إلى عصا أصبح لونها رمادياً بفعل العوامل الجوية، وعِظم ما تحمّله من مسؤولية، عند انصراف الطلبة في الظهيرة ونزولي إلى حيث أسكن في الطرف الآخر من القرية، كنت أفكر في سيناريو الكلب اليومي، الذي أصبح جزءاً من مجيئي وذهابي.

لم يحدث ما كنت أتوقعه، لم يقفز من فوق الجدار يرمقني- كعادته - بعينين تقدحان شرراً، ربما لأني غريب عن القرية، أو أن له عداوة أو ثأر مع معلم ما، عند وصولي إلى سكني أحسست في انقباض في صدري، إذ لم أستطع التأقلم مع جو هذه القرية والعيش فيها،على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على تعييني فيها، ربما لأني لا أعرف أحداً، أو أني أعتدت العيش بشكل مغاير في المدينة.

جاء أحد الطلاب يدرس في الصف الرابع, يحمل صينية نظيفة عليها الغداء المعتاد يومياً، كونه لا يوجد في تلك القرية مطعم أو حتى دكان، ربما يكون السبب كرم أهلها، وأنهم يعدون ذلك منقصة بحقهم، لأول مرة أرى الأكل هنا مرتب بهذه الطريقة، أعادني إلى مائدة والدتي في المدينة، لأول مرة أتلذذ وأنا أبلع الطعام في هذا المكان، كنت في المرات السابقة أزدرد طعامي بسرعة، المهم أن يكون قوتاً يملأ البطن، حمدت الله على نعمه الجمّة، بعد الانتهاء من الأكل، وقررت أن أكافئ صنيع أهل البيت على ما قدموه لي، فقمت بغسل الأواني لإعطائها لمن يأتي بالغداء في اليوم التالي كي يوصلها إلى أصحابها. ذهبت في صباح اليوم التالي إلى المدرسة، محاذياً الجدار الطيني الطويل، لكن المشهد كان ناقصاً, لم يقفز الكلب الأملح..؟؟ نظرت إلى داخل الحوش متفحصاً، خشية أن يكون كميناً مقصوداً، إذ أن للحيوانات حيلاً تفوق بني البشر أحياناً، كما قال الأستاذ خليل.

شاهدت فتاة داخل الحوش، تبدو من لبسها وهيئتها دون العشرين من العمر، فارعة الطول، تعتمر على رأسها" شيلة" سوداء مزركشة, ومزينة بفصوص فضية، تحفّ بخديها، تلبس ثوباً أزرق سماوياً، وقد علقت طرفه السفلي في حزام أسود ترتديه، خشية أن يلامس طرف ثوبها الطين أو الماء أثناء سقاية الأشجار، تخيلت بأن ذلك الحزام ربما يكون" ناسفاً" لمن يحاول الاقتراب منها، أو مد يده إلى تلك الوردة الحمراء التي علقتها في طرف" شيلتها" ملاصقةً لخدها، تشم تارة وتلثم تارة أخرى، دونما خوف أو وجل.

وردة حمراء هامت ببحر من الجمر واللُجين..تجاور عينين، ترمي سهاماً من نور ونار...ثغر يفترّ عن ابتسامة خفيفة على استحياء، وقد لمحت ذلك بإغضاء طرفها، والتظاهر بالانشغال من حركة يديها، زينت خديها غمازتان، زاداها عذوبة وجمالاً، بحيث لا يمكن لك أن تخفي إعجابك بها،أو تواري سوءة حبك حتى بورقة التين وليس ورقة التوت،كما يتردد دائماً، بما أن ورقة التين أكبر من ورقة التوت بكثير، ولو تستـّر بها بعض الناس في أيامنا، لكنّا بخير ويحسدنا أناس كثيرون على الاحتشام.

دعني أرجع إلى ذلك الوجه الأنثوي، ذي المسحة الطفولية، بعنفوان الفتاة الناضجة، وصدرها الناهد وقد زاده بروزا وتحدياً حزامها في وسط جسدها، حتى بتّ أتخيل نهديها كطائري"كـُدري" يرقدان متجاورين، متوفزين ومتحفزين لآي طارئ... ففكرت:هل سيأتي فتاها يوماً و"يفزز" هذين الطائرين، بفضاضة وجلافة، أم يكون قادرا على تدجينهما، وجعلهما يشربان الماء من فمه؟؟؟ اقتربت من الجدار أكثر، لا أبالي حتى لو قفز ذلك الكلب الأملح، ولا أكتمك سراً بأني نسيته في تلك اللحظات، كانت هي بمحاذاة الجدار، فاقتربت منها، وقلت دون أن أنظر إلى وجهها:

 صباح الخير.

ردت بصوت رخيم، خافت:

 صباح النور.

قلت بسرعة، خشية أن يرانا أحد:

 أين الكلب ؟ هل حصل له مكروه؟ لم أره منذ مدة؟؟

ردت قائلة:

 لا، لكن رأيته كل يوم يقوم بمضايقتك، فتعمدت أن أعطيه رغيفاً من الخبز لحظة مرورك، وتمت الصفقة بهذا الشكل.

كلامها ينّم عن ثقافة، ربما تكون التحقت في الجامعة، ليس لدي الوقت الكافي، لأسألها أكثر.. قلت على عجل:

 أنا رشاد.

ردت بصوت يبتسم:

 أعرف، الأستاذ رشاد.

تجرأت في هذه اللحظة أن أنفض عن لساني بحيرات الملح، وأقول لها:

 ما اسمك ؟

ردت، بتردد.

 بسمة.

مضيت في طريقي، التفت يميناً وشمالاً، أحس بأن أقصى أصقاع الأرض قد سمعت حديثنا، وربما خبراً عاجلاً... فتحت المدرسة ودخل الطلاب كعادتهم، طلبت من طلاب الصف السادس فتح كتبهم، ما أن فتحت الكتاب حتى رأيت وجه بسمة، وشعرها تدفق موجاً أمامي نظرت إلى الصف فإذا لا يوجد فيه طلبة وقد تحولت الطاولات والكراسي إلى أشجار خضراء تفتحت على أغصانها زهور حمراء كتلك التي تضعها بسمة في"شيلتها" فتحت نافذة الصف وتنشقت نسيم الصباح، ورائحة الزهور، ورائحة أخرى لم أعهدها من قبل.

رجعت إلى سكني وقت الظهيرة، ولأول مرة لم يشكل الكلب لي هاجساً على الإطلاق... يحدوني أمل أن أراها وسط مملكة الورد، التي أضفت هي عليها جمالاً وعذوبة.

مررت كعادتي بجانب الجدار الطيني،لكن ظني خاب، لم تكن تشتغل أو تشغل نفسها في الحوش، حتى الكلب لم يقفز من فوق الجدار وينبح، على الأقل تتنبه هي لمروري، وتحس بوجودي.

ذهبت أجر الخطى، أحلم برؤيتها في الصباح التالي، نزعت ثيابي، وأكلت وتمددت دون أن أشعر بذلك، وأصبحت أفكر هل أنا فعلت كل ذلك! تماماً كما يحدث لأناس في عصرنا الحالي، يذهب أحدهم لعمله يقود سيارته وعند وصوله، يفكر: يا إلهي كيف وصلت!!

ربما أنني لم أقف على الإشارة الحمراء!!!

كنت مسترسلاً وغارقاً في أفكاري.

يوم الغد يذهب معظم أهل القرية من الرجال وبعض النساء إلى البازار في المدينة للتبضّع، وبيع بعض منتجاتهم، وبعضهم يذهب لأنه أدمن ذلك فقط، ولو سألته لما عرف الإجابة. لذا بدت القرية هادئة ذلك الصباح، إلا من أصوات عصافير الدوري على الأشجار، و"المطاويق" و "الهدهد" ...الهدهد!!! نعم، ليتني أعـُطيتُ ملكة التحدث للطيور، لأعطيته خطاباً لبسمة.

اقتربت محاذياً الجدار في مشيتي، والتفت ورائي لأني أحسست بخطوات أحدٍ يركض خلفي، ولكن لم يكن كذلك.. إنها دقات قلبي، رأيت بسمة بمحاذاة الجدار بوردتها الحمراء، ولا أعلم أتعطر خدها بالوردة أم الوردة تعطرت بها.

دنوت منها وقلت متلهفاً:

 صباح الخير

ردت بسمة:

 صباح النور.

قلت:

 كيف حالك؟

ردت:

 الحمد لله بخير.

قلت:

 ما شاء الله جميل هذا الورد في حوشكم، هل لي بواحدة إن أذنت لي.

قالت:

 نعم، لكن حاذر الأشواك، تجرحك.

رددت:

 مع أن لا سابق خبرة لي بالتعامل مع هكذا نوع من الورد، لكن موافق.ضحكت وضحكت هي، وكانت دهشتي كبيرة عندما استلت الوردة الحمراء من"شيلتها" وناولتني إياها أخذتها على عجل وخبأتها خشية أن يراني أحد، ومضيت في طريقي إلى المدرسة.أمرت الطلاب بالدخول إلى الصف دون اصطفاف صباحي، وطلبت من طلاب الصف السادس فتح دفاترهم، لكتابة موضوع في مادة التعبير، عن الورد، ووضعت الوردة في الكأس الوحيدة على الطاولة. ووضعت فيه بعض الماء، نظرت إلى طالبين شقيين من الطلبة يتبادلان نظرات غير بريئة ويبتسمان بخبث... كنت طوال ذلك اليوم أشرح الدروس للطلبة وأنا أنظر للوردة، فأرى وجه بسمة وابتسامتها... حان وقت الظهيرة وانصرف التلاميذ يركضون مسرعين إلى بيوتهم، كأنهم فروا من قسورة، سيّما وأن يوم عودة الناس من"البازار" يكون حافلاً بما لذ وطاب... بالفعل كان يوماً حافلاً... جلست على الكرسي متأملاً وردة بسمة... وهي تتأملني أيضاً، تختبئ بين وريقات كعصفور خائف أيام الثلج.... انفرط عقد أفكاري فتبعثرت على صوت رجل يزبد ويرفع صوته عالياً، ويشتم ويلعن، استل مسدساً وقال:

 يا أستاذ أنت يجب أن تغادر القرية الآن، ولا ترينا وجهك، حتى في الدار الآخرة، فهمت؟؟

رددت متعجباً ومستفسراً:

 لماذا ؟؟!!

قال:

 أنت تعرف السبب، والمثل يقول:" يا غريب خلك أديب"،وأنت لم تكن كذلك.

وحلف بالطلاق،إن لم أغادر الآن سيفجر رأسي، قلت له:

 لكن لا توجد سيارة الآن، لأذهب إلى المدينة،قال:

 بجهنم، تروح للطريق العام، ومنها تتدبر أمر نفسك.

عندما رأيت حزم الرجل وإصراره، قررت الخروج فوراً ولكن طلبت منه أن أجمع أغراضي. جمعتها وحشرتها في حقيبتي، وطلبت منه أن يمهلني حتى أخذ الوردة معي... فالتفتُ إليها، فإذا بها قد سقطت وريقاتها وبقي الساق مغموساً في كأس من الدم... وأحسست برائحة الدم تملأ المكان.. وتناهى إلى سمعي نباح الكلب، يهجم بكل شراسة، فأدركت أن الرجل والد بسمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى