الاثنين ٥ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم محاسن الحمصي

وبي رغبة في البكاء 

شاحبة الوجه، تدور مترنحة كعصفور جريح بين جدران الغرفة المعتمة إلا من ضوء تسلل خلسة عبر ستارة خضراء شبه مسدلة، يسمح لي بالقاء نظرة على ساقها المتورمة، وذراعها المصبوغة بالبقع الداكنة الزرقاء، خلفتها آثار حقن الفحوصات المخبرية التي أجرتها على مدار يومين بعد تعرضها لتخثر دم في الساق تشير الى جلطة مرت بسلام.

كم من الوقت مضى على ذرف دموعٍ ساخنة أحرقت الوجنة وفتحت أخدودا على خدها الطري..؟

 لمَ لا تستلقين على السرير حسب أوامر الطبيب، وتدعين الدواء يسري في الشرايين تخلدين بعدها الى الراحة، مع كأس من العصير يعيد الى وجهك بعض نضارة وتتناولين قطعة بسكويت بعد إضرابك عن الطعام؟

 أخلد الى الراحة..؟ ومن أين أشتريها لو كانت تباع، وهذا الأسود، الصامت، الأخرس القابع على سريري يزيدني توترا، تشنجا، وعصبية، يأخذ ما تبقى لي من هدوء، يحيلني الى بركان ملتهب يحرقني، يصهرني، يجرفني نحو سفح عذاب مهلك؟

 ماذا دهاك وأنت الصلبة القوية، المتزنة، العاقلة، الناصحة والمرشدة التي تضم صبرا إلى صبر توزعه وصفة طبية ، وأنت من يتحدى الصعاب، يتجاوز المحن، يصغر المشاكل، يبدد الهموم، تواجهين بالعقل والمنطق نوائب الزمان؟

 لا داعي لهذا الموشح، أدرك من أنا، وأدرك قدراتي، أعلم من أكون وماعلي التصدي له في ممرات حياتي لكن في وضعي الحالي أشعر أني هشة، ضعيفة،مستسلمة لا أملك بصيص نور لخلاص..!

 أي خلاص وعن أي وضع تتكلمين وكأن العالم أطبق على من حولك وكل ما تمرين به لا يتعدى موقفا لا يذكر مقارنة بشريط عمرك الحافل، اجتزت من الأحداث الأكبر والأصعب وخرجت أصلب وأقوى..!

 وحدكِ تعرفين أني منذ وعيت على الدنيا، وأنا أبحث عن الصداقة الحقيقة مع الرجل وأسعى لتمتينها ولتغيير مفهومها في مجتمعنا أوعلى الأقل في مفهومي، فصداقته تعطيني نوعا من القوة والعزيمة، تمنحني الراحة،الفائدة العلمية،التعليمية، الثقافية، لا مجال بها للغيرة،الحسد، الأحاديث العشوائية أو المنافسة،وإن جلسة مع مجموعة رجالية من اي طراز او مركز هي الأحب إلى نفسي، اخرج منهاعلى الاقل بفكرة،معلومة،حوار هادف سواء أكانت سياسية،أم اقتصادية، أم اجتماعية.

قد أكون نجحت في إقامة بعض الصداقات ولكني فشلت في أغلبها، والسبب طبعا أن ذلك الرجل يعود الى شرقيته في السأم والملل من صداقة خالية من المتعة، لا تثمر ولا تغني من جوع، فيتوقف العقل وتتجمد الأفكار، ليبدأ في استخدام سحره وتوظيف أعضائه العضوية والذكورية والعزف على أوتار العواطف كنوع من التغيير، التحدي، أو الإخضاع للتجربة في إثبات رؤيته الاجتماعية أن المرأة العربية هي المرأة مهما وصلت الى مركز،علم أو ثقافة، تحتاج إلى صدره، قلبه، وفحولته!

وعلى مدار أعوام وبحكم مهنتي اكتشفت أنواعا شتى من هؤلاء الظرفاء أصحاب المراكز،القيم، المباديء التي تتلون حسب التيار والمصلحة العامة والخاصة.

نوع يتعاطف،ينادي بإعطاء المرأة حقوقها غير منقوصة، وإفساح المجال لها على كافة الأصعدة، وعلى المحك، هو أول من يهاجمها ويحاربها، ولا يؤمن أنها قد تكون الأفضل أداءً وعطاءً فيحاول كسرها وإعادتها إلى عالمه بأقصر الطرق..الحب والعاطفة وإن كانت واجهة أو تمثيلا..

نوع ثان منفتح فكريا، صاحب مُثل وشعارات رنانة، يشغل العالم بطلاقة لسانه، إبداع قلمه، ووجهه المقنع والمقنع، وتنطبق عليه صفة المنافق.. "وآية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، واذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" وهو الذي غالبا ما يخدع ويجرف المرأة بأسلوبه الرقيق، الناعم، المبتكر برفع راية الصداقة الخالصة،الأخوة، والمشاركة في اهتمامات وطنية،بطولية،ثورة حضارية، تقدم وتغيير، فتكون تلك العلاقة درسا قاسيا وجرحا لا يندمل ومجرد استعراض عضلات للوصول الى هدف وغالبا ما يكون الوصول بالحيلة والتحايل على قلب المرأة، خصوصا إذا كانت تلك المرأة مثلي تغري بالقطاف ،أرملة، جميلة، حبل الحرية لديها طويل ومرن، وإن كنت أضع ضوابط وروابط على تحركاتي وسكناتي، فهو سيرضى بالصداقة في اليومين الاول والثاني وفي الثالث تبدأ أسطوانة الإطراء، الغزل،والاقناع بحاجتي لرجل يدعمني يقف الى جانبي، يحميني من الذئاب والأطماع..وهو الشخصية الفذة، المنقذ العظيم ،الخل الوفي، والعاشق المخلص ..! 

 أتذكرين كلمات الشاعر كامل الشناوي ؟

"كلما فقدت صديقا بكيت عليه ودفنته في قلبي، فتحت قلبي اليوم وجدته مقبرة للأصدقاء"

خلال اعوام فقدت أصدقاء إما بالموت، المرض، أو بالرحيل عن تراض دون خلاف أو سوء تفاهم ..! ممن وضعتهم في منخل، مصفاة ، كان الاحترام متبادلا بيننا دون مصالح، استغلال، أو أفكار ملتوية، وقد نجحت تلك الصداقات وتركت بصمات في كتاب عمري، أعود إليها كلما شعرت بوحدتي وعزلتي الداخلية..!

وخلال أعوام وضعته في حقل تجارب، راقبته، قرأت أفكاره، مكانته، أخلاقه، سمعته، ما قيل ويقال عنه، درست شخصيته من خلال تعامله مع الغير وعرفت أنه الصديق الحقيقي الذي قد أتوافق وأنسجم معه عقلا وفكرا وليست لديه أطماع في ضمي الى خيمة الحريم، إذا ما اقتنع ومد لي كف سلام..!

هل تتخيلين معنى التحرش..لا اقصد الجنسي..؟ أنا ذات الحسب والنسب، الجاه والشهرة، الجمال والجاذبية، الكبرياء والغرور لأول مرة أسعى إلى التحرش برجل..!! بعد أن جبت الهند والسند، بحثت بين أكوام القش نقبت عنه كحقول النفط في صحراء قاحلة، غصت بحار العالم والمحيطات المظلمة، فتشت عنه في جدب الأرض، بين الوجوه الطيبة والمقنعة،حتى التقيه وأسكن اليه؟ لالالالا..لا أريد أن أخسره، أن أدفنه في قلبي ليصبح مجرد رقم وذكرى..!

 أيستحق منك هذا العناء والبكاء؟ ولم تخسرينه ما دام يحمل ميزات وعلامات تفوق أقرانه، تضعينه في مصاف أولياء الله الصالحين، تحيطينه بهالة، حتى القمر المنير له جانب مظلم لا نراه كيف حكمت انه الأفضل،الأحسن، الأجدر بصداقتك؟

 حاستي السادسة لاتخيب، نظرتي الثاقبة، وخبرتي الطويلة في العمل جنبا الى جنب مع الرجل، تجعلني أثق بحسن اختياري..هو مختلف قلبا وقالبا، مهذب وخلوق ويخاف الله، ومن يخاف الله لن يؤذي امرأة، وهو ابن بار يكرّم والديه بعد رحيلهما يحفظ صلة الرحم ويقدس الأسرة وهذا دليل على وفائه ومصداقيته..والأهم أنه لا يؤمن بالتواصل عبر التكونولوجيا الحديثة والعالم الافتراضي وهذا ما يقربني لعالمه الناصع.
حياته الخاصه ملك له، أتلقف ما يقول و يبوح به فقط ولا أسعى لمعرفة المزيد إلا في العموميات، مجال العمل، الهوايات ، تبادل معلومات، استشارة، نصيحة، وأتتلمذ على يده في خبرة واستفادة 

 عذرا..أنت إذن من يخلط الاوراق، حالتك الراهنة، الثورة والغضب، الصدمة، القلق، وهذا الانتظار والترقب،الاضطراب، خوفك عليه، قلقك من غيابه، يأخذ من وقتك الكثير رغم الفوارق بينكما، وتدورين في فلكه، كيف هو بيته، أين يجلس، لون مقعده الأثير، الستائر، مكتبه،كتبه ماذا يفعل، يأكل، من يقابل، يحادث، هل يتنقل حافيا بين الغرف، مرتب، نظيف، تشير وتنبي أنها أعراض مرض حب وليست صداقة ..!

"وكأن لدغة أفعى أو قرصة عقرب تجعلها تهب وجلة، مرتجفة، متألمة، من صراحتي تقذف بالكتب إلى أعلى، تبعثر الأوراق، تكسر زجاجات العطر، تحطم إطارات الصور، وتعود كالاطفال لموجة البكاء." 

 طبعا أحبه ومعجبة به لكن بطريقتي وأسلوبي. أحبه حبا روحيا وليس حسيا،حبا يغذي النفس، العقل، المعرفة، يوسع المدارك، وإن كنت أفكر في ما ذكرت فلأني امرأة وككل النساء لدي فضول!

كل ما اعرفه على الصعيد الشخصي، أنه يمارس الرياضة في المساء، نتشارك في بعض الهوايات كالمطالعة،الشعر، الادب، ومتابعة كرة القدم. يستمع إلى عبد الحليم حافظ، يشاهد البرامج والأفلام الأجنبية، لا يدخن، لا يشرب، يتحدث بصوت ذي نبرة هادئة. يحاورني، يناقشني بعقل متزن وأسلوب محبب. مستمع جيد وموجه ناصح.. ومع ذلك أقف عند الحدود والخطوط التي رسمتها لأبقي على احترام متبادل يدوم، رغم أنه كثيرا ما تتوهج أفكاري، أحلامي، تنتابني لحظات ذهول، شرود، وأشعر بعد كل حديث يدور بيننا، أن قطعة من قلبي تذوب، ونبضة منه تضعف..! لك أن تتخيلي أني منذ عرفته لم أنطق باسمه احتراما وتقديرا سوى مرتين مصادفة عن غير قصد، وقد علق ضاحكا بأن اسمه بدا ملحنا.

 إحساسه، مشاعره، تفكيره، نظرته إلى العلاقة التي تسمينها صداقة كيف يتقبلها..؟

 لا أدري سوى أنه يعطيني الوقت، الرعاية والاهتمام، يقدر عملي، يرشدني، يدفعني إلى الحركة والاستمرارية في العطاء الدائم وعدم التوقف عند حد الرضى بل في طموح للوصول إلى القمة. أحيانا تتحول أحاديثنا، نخرج عن المألوف، أروي له بعض الأحداث العائلية اليومية التي أمر بها، طابور المعجبين، القلوب المصطفة في الطريق، رسائل الحب، والعروض المستمرة، نضحك، ونتبادل النكات..

 اتفقنا على كونه يستحق.. لم إذن البكاء والخوف وتلك الجلطة المفاجئة من كلمات ألقاها بدربك و غاب؟ والحديث عن المعجبين أهو لإثارة غيرة، لإلهاب مشاعر جس نبض أم بوح لسماع نصيحة؟

" ترمقني بنظرات كراهية واحتقار، أتراجع أمام تلك النظرات فالكراهية قد تتحول مع حسن المعاملة، الاحتكاك والرقة إلى حب مع الأيام، أما الاحتقار فلا يمكن تحويله وتصنيفه تحت أي بند أو اسم ، يبقى عالقا ويلازمك مدى الحياة."

 بل أنتِ من تغار وتريد دفني في الحياة، وأنت من يضع العراقيل في طريقي. تكبلين يدي، تعدين أنفاسي، تفرضين قيودا على قلبي وعقلي، لا للصداقة، لا للحب، متزمتة، رجعية الأفكار، تدعين الحرية وفي داخلك عقد ورواسب ماض تخيفك تمنعك من التعبير والتقدم نحو الرجل، تبنين جدارا من الممنوعات والمحظورات، تمسكين أوهاما، أحلاما لكنها كسيحة لا تمشي ولا تسير، صادقة وفية مع الغير، كاذبة مع..وعلى نفسك..!

"تعاود الدوران بساقها المتعبة وكأنها ترقص على ايقاع حزن، لعل الخطوات، تتعب الجسد وتسكن الألم، وتنتابها نوبة هستيرية من نحيب موجع..!"

أرفع كفي، فتهوي صفعة مؤلمة على خدي...!

أنظر حولي.. لا أحد سواي في هذه الصومعة وذلك الأسود الصامت على السرير..!
التقط انفاسي، أجفف الدموع، أعود من رحلة هاوية حافة الجنون..!

اجل يستحق. كم أحتاج هذا الصديق..يحضنني بالكلمات، يدثرني بالحروف، أنقر بأصابعي المرتجفة على الأرقام. يأتيني صوته المتزن والحنون، يعاتب فأبكي. يشرح فأبكي. يبرر فأبكي. نتصافى.. يستمر البكاء..!

أتوضأ. أصلي لله نذرا تحقق. ألتقط الكتب المبعثرة. أضم أحدها إلى صدري. يطمئن قلبي، أستكين بين السطور.. وأركن إلي لتعلو فضاءَ الصومعة ابتسامة ولكن بها بقايا من رغبةٍ في البكاء.. 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى