الثلاثاء ١٣ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

المفتاح

خلع معطفه بعد أن أدار المفتاح في ثقب قفل شقته, التي هجرها طوال رحلته في متاهات وغياهب، عَلِقَ المفتاح بثقب تصلب وأسنان قفل صدأ من جلوس بلا حراك، طفق يحاول معه مرة واثنتان وثلاث حتى ضجر، أخرج المفتاح نظر إليه وقال: ما لك يا أنت! هل أنكرتني وأنكرت وجودي؟ هل غيرت السنين معالمي لتغير أنت نواياك معي؟ أم ترى أن ثقبك قد نكرك ولم يتعرف عليك كشأنك معي، رفع المفتاح واضعا إياه في فمه بعد غمرهِ بلعابه، ثم أخرجه وهمس له، الآن لابد لك أن تفتح الباب بعد عن تعرفت على مرارة جوفي وجفاف روحي من بقايا حياة أتنفسها، وضع المفتاح في مكانه ثم أداره، إلا أن المفتاح قضى قرماً بأسنان رفضت الاستجابة لركوب تروس لإدارتها، كما أنها تأبى أن تدور مخافة قضمة من كسر ترس، تأفف وأخرجه مرة أخرى تطلع إليه وقال لنفسه: أنه هو نفس المفتاح الذي تعودت أن أحمله ساعة خروجي من الشقة في الزمن الماضي، هل يمكن أن يكون قد أستبدل بمثله حين تسلمت متعلقاتي أثناء خروجي من السجن؟ لا أظن ودارت عيناه إلى فسحة الطابق، نعم انه هو نفسه ورقم الشقة كذلك، أفٍ لك من مفتاح أحمق لئيم، لبس معطفه متكئاَ على الحائط وأصابع يد تعمل فركا برأس مفتاح تمنى كسره، ونفس عفت الإلحاح من غضب، وضع المفتاح في جيب معطفه، شعر المفتاح بريبة ورائحة جيب لم يألفها من قبل، وهمس في نفسه ما لهذا الرجل هل هو مجنون؟ مرة يمضغني بأسنانه، ومرة يفركني، وأخرى يرميني في جحور ظلام مليئة برائحة الموتى، صرخ المفتاح يا.... هذا .. أنت ولكن لا مجيب لصراخه، أستقر إلى ركن قبع فيه دون حراك، حتى أحس أن أصابع تنتشله إلى الخارج فقال لنفسه: أقسم لو أدخلني في ثقب قفل الباب لأفعل المستحيل وأفتحه مخافة العودة إلى ذلك الجيب العتيق، يا الله كأن عمره دهرا إنه حالك الظلام، ولا أعلم كيف يرتديه هذا الرجل ورائحة الموت تقطن فيه.

كان صاحب المعطف في تلك الوهلة قد تنفس سيجارة مضى على عمرها الوهن، فمالت إلى الاصفرار من شدة اختناق في جيوب معطف أزلي، وما إن أخرجها حتى قام بقسمها إلى نصفين، راميا بالنصف الثاني نحو قعر ذلك الجيب، صارخا هو الآخر لا أرجوك .. ولكن من يسمع لأهات مبتورة الحياة، أما النصف الأخر فكان نصيبه النار تلتحف برأسه اشتعالا، فأحترق مبتسما كأن روحه قد جرت مسرعة، تخرج على شكل أنفاس دخان آسفة حزينة على نصفها الثاني، الذي لا يزال تحت حكم صاحب جيب سقيم.

أما المفتاح فقد أستعد شاحذا أسنانه، مقسما أن يحرك تروسا صدئة بكل ما أوتي من قوة، وما أن أدخل رأسه في القفل, حتى أمسك بتروسه الصدئة بأحد فكوكه, محاولا الدوران مع إدارة يد صاحب المعطف له, وصولا إلى الترس الثاني, لكن الصدأ قد منعه من ذلك, ومنع أيضا الترس الثاني من الدوران, شعر بأصابع الرجل تحاول إخراجه, فأمسك بفكيه على التروس الصدئة, ولم يخرج قائلا: لا .. لا يمكنني العودة إلى جيب ذلك المعطف القديم, رغم محاولة صاحب المعطف سحبه مرة بلين, ومرة بقوة, وثالثة بضربة على الباب, بعدها ساد هدوء وابتعاد يد وأصابع عن سطح رأسه, أرتكز معتدلا ينصت إلى خربشات في ثقب الباب, فقال المفتاح: يا له من رجل مخبول, هاهو يأتي بسلك قاس يحشره معي في نفس الثقب, وكأن المساحة تكفي لذلك, أعلم انك ستحاول إخراجي, ولكني سأتمسك حتى النهاية في مكاني, أو أموت كسرا في هذا الثقب ليكون قبري, على الأقل حتى اشعر أنني انتمي إلى أحد, فالتروس والثقب هما بيتي وسكني, لا ذاك الجيب فأموت خنقا في ظلام, قاوم المفتاح وخزا من سلك عصي قاس أراد خلعه عن تروس أمسكت به هي أيضا, وأحس بقسوة السلك كسياط جلاد سلخت جلده من كثرة حشرجة وخربشات موجعة, تراخى المفتاح قليلا من شدة ألم ووهن فكوك, أراد الخلاص لنفسه فقال لها: الخروج من المكان أفضل من تلك السياط, ثم تذكر المعطف فانبرى يشحذ نفسه عزما وصبرا على ضيم, وهناك أخرج صاحب المعطف السلك بعد عجزه, تنفس المفتاح غبطة بألم, خيم الصمت على المكان, وسأل نفسه أين ذهب هذا الرجل؟ رام يفكر وفجأة وعلى حين غفلة, وجد نفسه يُسحب بقوة بعد أن خارت قواه, مع شتم لاك الحروف نتوءات برادة حديد, صارخاً يا لي من ضعيف أدرك مصيري ألان , ولكن لا ضير, الكسر ولا العيش في جيب معطفه ذاك, كانت أصابع يد الرجل تدلك وتفرك جسد المفتاح جيئة وذهابا, كأنه يتوعد برميه في قارعة الطريق, ليبقيه بلا مأوى .

همس الرجل للمفتاح قائلا: لا أدري يا هذا فقد بقيت نصف نهاري محاولا فتح الباب بك, والآن أحس أنك بلا فائدة, كبقية الذين رموني في بطون سجون من أجل فكرة تحرير وتغيير, سأحطم الباب وأدخل, ثم أرميك الى غير رجعة, وسوف اشتري قفلا جديدا ومفتاح في هذا الزمن الجديد, قال المفتاح لنفسه: لا يهم سواء رميتني او جعلتني مشردا في حاوية نفايات على قارعة طريق, إنها أخير من العيش في جيوب معطفك العنكبوتي هذا الذي توسدته سنينك في قبور مظلمة, تردد الرجل أحس المفتاح بذلك, وسمعه يقول لنفسه سأحاول ولأخر مرة مع هذا المفتاح وذاك الباب, وما أن رفعه شاهد الاعوجاج في عمود المفتاح, ونتوءات برزت على سطحه جراء سلك الحديد الذي حشره لإخراجه, هنا عاد وأدخل الرجل المفتاح في فمه, وأطبق أضراس ورحي على عمود ورأس المفتاح, حتى قطع المفتاح النفس من رائحة أسنان نخرة, عشش السوس فيها وزحاما من ساكني أكلة الأضراس, وأنفاس أشبه برائحة جيبه المر طوب, مرت تلك اللحظات عليه تمنى فيها التشرد والضياع, أو العيش في جيب معطف ارحم من هذا المكان المقزز, أخرجه بعد أن أطاح بالمفتاح بللا ومضغا, ثم وضعه في ثقب الباب, قبلها كان قد بصق في داخل الثقب فأذاب صدأ تروس ساحت من لعاب, عمل المفتاح نطحا بتروس شعرت بالنحول والخدر, فتحركت عن مكانها وأدارها بصعوبة, حاول أكثر وهو يفكر في بقاء بجيب, أو مضغ في فم, لم يستسغ الاثنين معا, لذا قرر كسر رأسه بين تروس, ليموت بإرادته, بعيدا عن حياة بفم وجيب عفن, تعذر الأمر على الرجل, وبات الأمر صعبا أكثر, فأخرج المفتاح بلا رأس, كان فيها المفتاح قد قطع رأسه بإرادته على أن يعيش في عالم يكتسي بالعفونة والعنف, في تلك الثناء سمع الجلبة حاجب العمارة فجاء قائلا للرجل: ما الأمر ماذا تفعل ؟ فالتفت إليه صاحب المعطف وقال: لقد حاولت كثيرا فتح باب شقتي بالمفتاح بعد غيابي الطويل, لكن يبدو ان الصدأ قدر ركب تروس القفل فحاولت, ولكن لا جدوى فأنكسر المفتاح, فلا بد لك أن تساعدني على فتح الباب حتى ولو بكسره, فقال الحاجب: بالطبع سأساعدك, ولكن يا سيدي هذه ليست شقتك, يبدو إن المدة التي قضيتها بعيدا أنستك مكانها وموقعها, قال الرجل: كيف إنها هي!! أنا لا أتيه عنها, لا يا سيدي لقد تهت, صحيح أن شقتك في الطابق الرابع وعلى جهة اليسار, ولكن العمارة ليست العمارة, وصحيح أيضا أن العمارات متشابه في شكل البناء, ولكنك أخطأت, فمالك العمارات قد تغير, أيضا منذ فترة ووضع شروطا جديدة, بعد أن أعاد تأهيلها, وخَير بعدها المؤجرين للسكن بالأسعار الجديدة أو ترك المكان, أو الطرد لمن يعجبه الأمر, أما بالنسبة لمثل حالتك ومقتنياتك, فهي موجودة في المخزن بسرداب العمارة, فإذا شئت يمكنك استلامها, أما الشقة فلا أظن, لأن الوضع كله قد تغير, شعر بخيبة الأمل, وذلك الوقت وكسر المفتاح المسكين, لمجرد أنه قد تاه بين هذه وتلك من العمارات, فهو لم يكلف نفسه قراءة رقم العمارة, أو السؤال بل دخل إليها دون أن يتطلع ظنا، فقد ازدوجت الرؤيا لديه, بعد أن عاش في زنازين متشابه الشكل, فخرج هو أيضا وشعور بخيبة أمل متمنيا الموت، أو العيش في سراديب مظلمة، على العيش في الواقع الجديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى