الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم فاطمة السيد عبد الله مجيد

الغريبة وقصص أخرى

الغريبة

كما دائماً دخلت وهى تتجنب النظر للموجودات.. ألقت تحية سريعة دون أن تكسر حاجز الصمت.. اتخذت مكانها و حاولت أن تتشاغل بقراءة كتابها عما حولها لكنها عجزت عن هذا فكل ما حولها يستفزها.. وهذا الصمت الدائم يفقدها التركيز كم هو مزعج كيف يمكن لشخص ما أن يستطيع أن يذاكر وهذا الصمت الرهيب يلفه؟؟!

أحست بحركة مريبة خلفها فرفعت رأسها فى تحفز.. لابد أنهن يتحدثن عنها فهذا دأبهن منذ انضمت إليهن، وهذا ما دفعها لتجاهلهن وتجنب الاختلاط بهن.. إنها ليست بحاجة لهن فكل ما يهمها أن تكمل الدورة الدراسية بتفوق لتتقن الحديث بلغة شقيقتها الوحيدة.. عادت تقرأ فى الكتاب متظاهرة بأن شيء لم يحدث لكن تكرار الحركة أفقدها السيطرة على أعصابها فوجدت نفسها تصرخ دون وعى

أرجوكن كفى!!! كفوا عن النظر إلى بهذه النظرة المقيتة.. ما ذنبى أنا إن ولدت مختلفة؟؟

ذكرتها نظراتهن المستغربة، وحركات أيديهن المستفهمة بأنها استخدمت لغتها هى.. وأنهن لم يفهمن شيئاً مما قالت.. اعتذرت منهن بلغة الإشارات وعادت تدفن وجهها فى الكتاب

إنه الحب

إنه الحب

همست لنفسها بخجل وأحمر خداها وهى تعود بذاكراتها حيث التقته لأول مرة.. كانت تخطو خطواتها الأولى فى القاعة المزدحمة بالطلبة وشعور عارم بالغربة يحتل أعماقها ويزيده توغلاً وثباتا تلك العيون التى ترمقها بفضول.. ووسط تلك العيون وجدته.. كانت عيناه العسليتان ترحبان بها بمودة وتدعوانها للجلوس قربه فى المقعد الوحيد الخالي، ولم ترفض الدعوة! جلست بصمت استمر طويلاً قبل أن يبدده هو بصوته الواثق ولهجته الودودة.

مرحباً بكِ بيننا.. أنتِ طالبة جديدة هنا أليس كذلك؟؟

منعها خجلها من الإجابة لحظات فأحرجه صمتها ودفعه للقول: عذراً.. لم أقصد اقتحام خصوصياتكِ..

أنا من تعتذر.. شكراً لترحيبك ونعم أنا طالبة جديدة هنا لقد عدنا من الخارج مؤخراً ولم أنهى أوراق تسجيلى إلا منذ أيام قلائل.. ثم أضافت مبتسمة لتكسر حاجز الرهبة أنا هبة..

أفتر ثغره عن أجمل ابتسامة وقعت عليها عيناها وهو يقول: وأنا أمجد

شعور جميل سيطر عليها وهى تستعيد هذه الذكرى وعادت تهمس لنفسها ((أنه الحب ولا ريب)) وألا ما سر سباق الجرى المحتدم الذى تخوضه دقات قلبي، وألم المعدة، وهذا الأرق الذى يسلبنى النوم.. آه أيها الأرق أكان من الضرورى أن تتواجد أنت أيضاً؟! أننى أتوق للنوم بشدة فأنا بشوق للغد.. أوه أين أنت يا سيد نوم عندما نحتاجك، أحصت كل خراف العالم ونجومه، وقرأت كل ما وقعت عليه يداها من كتب علمية جافة لكن النوم أبى زيارتها.. كانت تستعجل الغد لتعيش أخيراً ذاك الإحساس الرائع الذى لطالما سمعت صديقاتها وزميلاتها يتحدثن عنه.. وحدها بينهن لم تجربه سابقاً.. كثيرون حاولوا خطب ودها لكن أحدهم لم يأسرها كما فعل أمجد.. وحده أزاح كل الوجوه ليحتل كيانها كله.. مرت ساعة واثنتان وثلاث وهى تتأمل عقارب الساعة فى لهفة وعندما غلبها النوم لدقائق معدودة أيقظتها دقات المنبه الرتيبة من حلم لم يكتمل فقفزت من سريرها بنشاط وهى تتساءل عن سر جمال صوت المنبه هذه الصباح.. لبست أجمل ملابسها.. وللمرة الأولى وضعت بعض المكياج على وجهها الجميل قبل أن تخرج للجامعة.. وهناك لم تهدأ عيناها كانتا تبحثان عنه فى لهفة محمومة.. وأخيراً وجدتاه.. كان يتجه إليها مبتسماً.. ها هو يقترب.. إنه أمامها مباشرة

صباح الخير.. كيف حالكِ اليوم؟؟

ها!! ماذا قال أنا لم أسمع شيئاً!! همست لنفسها.. ماذا سيقول عنى الآن.. حاولت رسم ابتسامة على شفتيها وهى تقول فى ارتباك لم تنجح فى إخفائه: مرحبا.. يوم جميل أليس كذلك؟؟

ابتسم بمرح ثم اتسعت ابتسامته وحملت شيء غريب لم تفهم كنهه وهو يشير إلى الفتاة التى تقف بجانبه _أكانت هنا طوال الوقت؟ كيف لم تتنبه لوجودها؟! _: هذه منى.. خطيبتى

خطيبته؟؟! تأملتهما بحيرة أقرب للذعر وكأنها تحاول استيعاب الأمر.. توقف الزمن _ أو هكذا خيل إليها _ وهى تنقل بصرها بينهما.. تأملت ابتسامة أمجد وتوقفت عند الإشعاع الغريب فى عينى منى مطولاً قبل أن تضحك فى مرح حقيقى وهى تقول: عينى خطيبتك رائعتان!!

الذكر

ستنجبين بنتاً!!

لا.. لا هذا مستحيل لا يمكن أن أنجب البنت الخامسة.. أرجوكِ أعيدى النظر لابد أن هنالك خطأ ما! أتوسل إليكِ.. سأعطيكِ كل ما تطلبين لكن أنظرى مرة أخرى

أنا آسفة النتيجة مؤكدة ولا مجال للخطأ.. انظرى أنها واضحة جداً.. هذا الخط هناك يعنى هذا تنظر إليها فى ذهول قبل أن تنهض فى تثاقل.. تمد يديها إلى حقيبتها لتمنحها المبلغ الأخير المتبقى من ثمن كل مصوغاتها.. لقد أنفقت الجزء الأكبر منه لتحقق رغبة زوجها وتنجب الذكر.. ألتزمت بكل البرامج الغذائية التى قرأتها فى تلك المجلة الطبية وفعلت كل ما قاله لها الشيخ المبروك وعلقت عشرات التمائم لكن لا فائدة كل شيء ذهب هدراً..، تنظر نظرة أخيرة يائسة للمرأة القابعة فى إحدى زوايا الغرفة تتوسلها بنظراتها أن تخبرها أنها أخطأت لكنها تردها خائبة فتخرج منكسة الرأس دامعة العينين ماذا تفعل الآن.. كيف تزف الخبر لزوجها لقد توعدها أن أنجبت البنت الخامسة فالطلاق مصيرها وكان جاداً فى وعيده.

أيعقل أن أم محمد أخطأت!! لقد تقدم بها العمر وضعف بصرها ربما لم تحسن قراءة فنجانها، لكن لا يستحيل هذا أم محمد لم تخطأ يوماً لقد أنذرت سميحة أن زوجها يخونها، وبشرت سماح بحملها بعد عشر سنوات زواج، وووو.. وكانت صادقة فى كل ما قالت.

يا الله ماذا أفعل الآن وأين أذهب.. أن عدت للمنزل فسيقرأ زوجى النتيجة فى وجهى أنه ينتظرها بصبر نافذ، أ أذهب لأمى لكن ماذا بيدها المسكينة لتفعله لي.

تسير حائرة غائبة الفكر.. تسمع صراخ وزفير سيارة فتتجاهلها فمصيبتها تكفيها.. ولا تفيق من تخيلاتها إلا عندما تشعر بقوة الاصطدام.. تحاول أن تصرخ.. أن تحرك جسدها لكن الدنيا تظلم
تفتح عينيها.. أنها عاجزة عن الحراك يبدو أنها فى مستشفى لكن كم مضى على وجودها هنا.. ساعة أو أكثر.. كل ما تتذكره هو الاصطدام لكن ماذا حدث بعد هذا؟؟، أنها تسمح بعض الأصوات.. أخيراً ستتمكن من السؤال عما أصابها.. أنهما ممرضتان أحداهما تشير لها وتردد:

مسكينة لقد فقدت جنينها.. كان ذكراً مكتمل النمو لكنها أنجبته ميتاً.

إصبع شكولاتة

هل أغسل السيارة؟؟

قالها بخجل وهو يلوح بخرقة مبللة.. فى العادة أكتفى بهزة رأس نافية لكننى لم أفعل هذه المرة لأنه كان واحداً منهم.. من مجموعة فتية تترواح أعمارهم بين الثامنة والثالثة عشرة أعتدت أن أراهم فى هذه الأنحاء يجمعون العلب المعدنية، أو يعرضون على هذا وذاك غسل سياراتهم، وعندما ينتهون أو تُرهق أجسادهم الصغيرة يجتمعون أمام واجهة محل للشكولاتة وكل منهم يشير باسماً للصنف الذى يتمناه

هذا أجمل.. بل ذاك.. هذا أكبر.. تلك المحشوة تبدو مغرية.. الكرات تدوم فى الفم مدة أطول!! هذه هى الكلمات التى تسللت لأذنى عندما مررت قربهم يوماً

أغسلها؟؟

شعرت بسأمه وهو يكرر سؤاله فأحسست بشيء من تأنيب الضمير لأننى غبت بأفكارى عنه كل تلك المدة (( آسف )) قلتها دون وعى فأسرع بالإبتعاد وقد ازدادت ابتسامته خجلاً

انتظر!! قلت وأنا أحث الخُطى بإتجاهه.. أدار إلى وجهاً خال من الانفعالات فأقتربت منه، ويدى مشغولة بالبحث فى كيس مشترياتى وأخيراً وجدت ما أبحث عنه إصبع شكولاته أعطيته إياه ثم أسرعت عائداً لسيارتى مبتعداً بها لحيث لا أعلم.. كان شعوراً غريباً هو مزيجاً من السعادة والفخر يسيطر على.. حاولت إقناع نفسى بأننى لم أفعل شيء ذا قيمة أو يستحق الذكر لكن عبثاً!! كانت كل خلجة من خلجات جسمى تشير بوضوح لاقتناعها بأن ما فعلت كان أمراً عظيماً

هيه أفق قبل أن تحسب نفسك حررت العالم، أو أنقذته من كل مشكلاته!! همست لنفسى لكن دون جدوى فقد كان جلياً أن الفكرة سيطرت على!! حتى أننى لم أنم تلك الليلة وعندما أطل النهار وجدت نفسى أتوجه لحيث أعتاد الفتية العمل.. كنت أعلم أنهم يبدأون نهارهم مبكراً فى الإجازة الأسبوعية ولم يخب ظنى.. كانوا هناك.. اقتربت منهم فلاحظت شيئاً غريباً كانت بضعة جروح تزين وجوه أغلبهم والنصيب الأكبر كان لفتى الأمس.. ولم يطل تساؤلى عن السبب فأصبع شوكلاتة مسحوق ممزق الغلاف من أكثر من جانب ملقاً فى مكان قريب من حيث اعتادوا التجمع شرح لى ما حدث.. شعرت بالكثير من الغضب ووجدت نفسى أندفع لمحل الشكولاتة وأشترى العديد من الأنواع.. هذا وذاك والمحشو والكرات!! وعند خروجى أشرت له فأقترب منى بهدوء.. أعطيته ما أحمل دون أن أتفوه بكلمة فأخذه ونظرة غريبة لم أفهم مغزاها ترتسم فى عينيه.. وقف أمامى لدقائق ثم ألقى قطع الشكولا بعيداً بكل قوته وعاد لأصدقائه ينظر للأصناف المعروضة ويشير لما يتمنى!!

أسبوعه الأول

ماما لا أريد الذهاب لتلك المدرسة مرة أخرى
أخيرا قالها! كانت تتوقع أن تكون أول ما تسمع منه حين عودته.. كل من تعرف ممن سبقنها إلى عالم الأمومة أكدن لها أنه سيقولها فى يومه الأول، وأعطينها عشرات الحلول المجربة ليمر الأمر على خير، لكنها لا تجد فى نفسها الرغبة لتطبيق ما قلنه.. يخجلها هذا.. علاقتها مع طفلها لا يمكن أن تخضع لتجارب الآخرين فهى مشاعر لا امتحان لا يعترف إلا بإجابة وحيدة.. احتضنته بقوة وكأنها تؤكد هذا لنفسها: لماذا يا صغيري.. كنت متشوقا ليومك الأول فيها.. ألم تمض الأسبوع الماضى فى الحديث عنه وانتظاره؟

دفن رأسه فى حجرها وقال وهو يغالب دموعه: لا أحبها! المعلمة مخيفة تشبه الشرير فى أفلام الكارتون.. و.. وأولئك.. الـ التلاميذ كبار جدا! أنا أبدو قزما بينهم!
كبار؟

نعم كبار جدا جدا.. أحدهم بطول.. بطول أبى رفع يديه عاليا وهو يصف طوله ثم انفجر باكيا، ربتت على رأسه بحنو ومسحت دموعه وهى تقول فى لهجة حاولت أن تكون مغرية: إذا كنت لا تحبها لماذا لا نتوقف عن الحديث عنها ونفعل شيئا ممتعا.. أنذهب للتسوق؟

هز رأسه موافقا وهو لايزال يبكي.. أخذته للمركز التجارى وحرصت على أن يكون أول قسم يمران به "بعد قسم الألعاب" قسم القرطاسية.. أسعدها الشكل المبهر الذى عرضت به، وللمرة الأولى لم تتذمر داخليا من الأشياء الكثيرة التى أخذها صغيرها من دون أن يكون بحاجة لها.. وماذا؟ ماذا أفعل الآن خاطبت نفسها بعد عودتهما للمنزل.. سأرى كيف أصبح الآن ثم أتخذ قراري.. ذهبت لغرفته فوجدته مشغولا بتفقد القرطاسية التى اختارها "فرصة": أشياؤك جميلة جدا هل ستريها لزملائك غدا؟
نظر لها بضيق وكأنه يقول "ظننت الموضوع حسم": لا أحب تلك المدرسة!

"لماذا الأمر صعب، ويظن الرجال أن التربية أسهل الأمور فى الكون!؟" لماذا لا نعطيها فرصة أخرى.. ستذهب غدا وإن لم تغير رأيك نفكر بشيء آخر.. ما رأيك؟

صمت للحظات وأطال النظر لقرطاسيته الجديدة قبل أن يقول: لا بأس سأذهب غدا.. غدا فقط.

وذهب للمدرسة وعاد كما فى اليوم الأول واجما، لكنه لم يعلن رغبته فى عدم الذهاب إليها هذه المرة.. وتكرر الأمر فى اليوم الثالث والرابع فبدأ القلق يتسرب إليها.. إنها تفتقد صغيرها الضاحك الذى لا يتوقف عن الثرثرة، لابد أن فى الأمر شيئا.. ربما تكون هذه المدرسة غير مناسبة له فعلا.. إن عاد اليوم كما الأمس ستخبره أنهم سيغيرون المدرسة "هذا هو القرار الصائب ولا ريب فكيف سيستطيع التعلم فى محيط يزعجه"..

ها قد عاد أخيرا.. "يا إلهى هناك جرح فى جبهته لن نغير المدرسة فقط سأرفع قضية عليها بل اثنتان واحدة على الإدارة والثانية على مدرسته " أسرعت إليه لتتفقد جرحه فوجدته يلقى بنفسه بين ذراعيها ويرفع إحدى يديه أمام وجهها "هناك شيء أحمر مريب فيها أهو جرح آخر؟": أماه أنظرى لقد وضعت ماما حنان نجمة على يدى لأننى شاطر.. أنا أحب مدرستى كثيرا.. لدى أصدقاء كثر.. اليوم لعبنا كرة السلة وسجلت 5 أهداف لأننى الأطول فى الفصل.. لقد سقطت أثناء اللعب، لكننى لم أشعر بأى ألم!!

المتسول

شددت جانبى الجاكيت الثقيل بقوة فى محاولة يائسة لمنع الهواء البارد من التسلل لجسدي.. كانت ليلة شديدة البرودة دفعت الكثيرين للاحتماء بمنازلهم طلبا لبعض الدفء.. همست لنفسى ساخرا: يبدو أننى المجنون الوحيد الذى وجد فى نفسه بعض الجرأة للخروج فى طقس كهذا.. لكن سرعان ما تبيت خطأ قولى حين لمحته.. كان طفلا لا يتجاوز عمره الثالثة عشر ينزوى قرب أحد المحال التجارية وهو يضم رجليه ويديه إلى جسده النحيل

لا شعوريا وجدت نفسى أقترب منه وعندما وصلت إلى حيث يجلس هالنى ما رأيت.. كان وجهه مصفرا بارز العظام، وشفتاه زرقاوين، وجسده يرتجف، وكيف لا يفعل وكل ما تستره ملابس صيفية بالية أخذ منها الزمن أكثر مما ترك.. أأنت تائه؟ سألته بصوت مرتجف.. لم يجب فكررت سؤالى بصيغة أخرى فمد إحدى يديه إلى ببطء ونظرة غريبة ترتسم فى عينيه الصفراوين.

أخيرا فهمت! أنه متسول، عادة لا أثق بكل من يمد إلى يديه طلبا لمعونة لكن وجهه البريء رغم الجروح التى تملأه، وجسده النحيل دفعانى لإخراج كل ما فى جيبى وأعطاه إياه
الجو شديد البرودة ألا تعود للمنزل؟ يمكننى اصطحابك إن شئت.. قلت بإلحاح، فازداد التصاقا بالمحل كقط مذعور، كررت عرضى بإصرار أكبر ولما لم أجد أى تجاوب اكتفيت بخلع جاكيتى وتغطيته به، وعدت أدراجى للمنزل _فلم يعد لدى ما يمكننى به شراء ما خرجت لأجله_ وأنا أدعو الله أن لا يصيبه أى مكروه.. وتلك الليلة لم أستطع النوم.. بقيت ساهرا ألوم نفسى على ترك ذاك المسكين وحيدا.. حتى آننى آمنت بأن الانفلونزا التى اجتاحتنى بقوة هى عقاب من الله على ما اقترفت يداى!! وكعقاب إضافى ((عله يوقظ ضميرى الميت)) قررت ألا أتناول أى دواء يمكن أن يخفف من إرهاقى وألمى!! لكن فى منتصف النهار بدأت مقاومتى تضعف وحاجتى للدواء تكبر فهمست لنفسى "وماذا كان بإمكانى أن أفعل.." وخرجت ملتمسا الدواء فى الصيدلية القريبة ووصلت إليها وأنا أجر جسدى جرا.. كان الصيدلى يتصفح إحدى الصحف باهتمام فلم ينتبه لدخولي.. أردت تنبيهه فاقتربت منه وفى نيتى هز الصحيفة لكننى رأيت فى الصفحة الأولى ما شد انتباهى ودفعنى للصراخ بلوعة وبصوت مبحوح: مات؟
رفع الصيدلى وجهه وتأملنى للحظات قبل أن يهز رأسه فى أسف ويقول: لا لكن جروحه بليغة.. المسكين ضربوه بقسوة شديدة
"ضربوه؟! حسبت البرد قتله! : يا للقسوة كيف استطاعوا ضرب طفل بريء.. أخلت الرحمة من العالم؟
طفل؟ عمن تتكلم؟! ألم تكن تقصد بحديثك البائع الآسيوى الذى سرق مراهقون مدمنون محله البارحة بعد أن ضربوه بآلة حادة.. قال لى الصيدلى فى دهشة، فنظرت مرة أخرى لصورة الفتى الذى ألتقيته ليل الأمس ويا للعجب لم تكن وحدها كما خيل إلى منذ قليل! كانت واحدة من مجموعة صور لمراهقين تتراوح أعمارهم بين الثالثة والتاسعة عشر!

لم يتغير شيء

شهر مر يا صاحبي.. شهر كامل.. أتساءل كيف أصبح العالم فى الخارج؟! هل كبرت فجر.. فجر صغيرتى من يذاكر لها الآن ويقرأ لها قصة قبل النوم.. أتذهب للمدرسة أم أقعدتها عنها تعليقات الأطفال اللاذعة؟ وحينا هل تغير أم بقى كما تركته؟!

والصحف؟ سئمت قضيتى أم لاتزال ترى فى طالب الطب الشاب الذى اعتدى على طفل فى السادسة وتركه مرميا على قارعة الطريق فى ليلة ماطرة ليعود إليه بعد 3 ساعات ويحمله لأقرب مستشفى متظاهرا بالجزع والألم مدعيا البراءة مادة دسمة للكتابة؟! ليتها لا تفعل علنى أصدق الأمر حين تتكرر قراءتى له فأتقبل وجودى هنا! أتعلم؟! حين قرأت القصة فى الصحف للمرة الأولى تمنيت أن يكون هذا الوحش الآدمى أمامى لأمزقه بأسنانى قبل أن أتنبه لكونى المعني!

ماذا تكتب، رسالة غرامية أو ربما هى رسالة الماجستير؟!

تعلقت عيناه بذاك الضخم الذى نطق العبارة بسخرية واضحة للحظات قبل أن يشيح ببصره عنه ويعاود الكتابة فى هدوء.. كان يعلم أن هذا قد يعنى المواجهة الأولى منذ دخوله السجن لكن من يبالي؟! عندما تكون لعشرين سنة مقبلة مجرد رقم متسلسل أى الأشياء تهم؟!

هيه أأنت أصم أو تتظاهر بهذا؟

عاد ينظر إليه بالنظرة الخاوية ذاتها ووجد نفسه لا شعوريا يمارس هوايته المفضلة فى تحليل الوجوه.. وجه مليء بالندوب العميقة والسطحية، أسنان صفراء تنقص الكثير من الأنصاف، عينان تقدحان شررا ولهجة خشنة عدوانية.. "وصبر نافد!" أضاف بصوت مسموع وهو يمسح الدماء النازفة من أنفه قبل أن يتجاهله ويعاود الكتابة للصديق الوحيد المتبقى له..

و.. وتمضى الأيام متشابهة.. كيف لا تكون كذلك وجميعها تولد وتموت بين جدران السجن.. أتذكر رسالتى الأولى لك قبل خمس سنوات.. تلك الرسالة التى كتبتها فى يومى الثلاثين هنا؟ لم يتغير شيء.. لازلت أشعر أن كل هذا مجرد حلم، منذ أكثر من أسبوع أخبرونى أننى قريبا جدا سأخرج فقد ألقوا القبض على المجرم الحقيقى بعد عدة جرائم مشابهة متسلسلة، ولم أشعر بشيء أى شيء لا حنق ولا فرح ولا.. أيكون كل هذا حلما حقا لذلك لا وجود للمشاعر فيه؟
ها قد جاءوا! سأكمل لك الكتابة لاحقا فأنا أرى الباب يفتح ولدى إحساس أنه يفتح لأجلي!

"أحمد عبد الله.. حان الوقت لتغادرنا.. احرص على ألا تعود مرة أخرى"

أغادر؟! واقع هذا إذا؟

وسار غائب الذهن حتى أنه يجهل متى وكيف غادر، كل ما يتذكره أنه وقع الكثير من الأوراق التى يجهل ما تحويه ثم وجد نفسه خارج القسم.. أخذ يتأمل السيارات.. لا يوجد من ينتظره، ومن سيفعل؟! أمه توفيت بعد عام ونصف العام من دخوله السجن وشقيقته فجر تعتقده ميتا وعمه أقنعه أن ينتظر أياما ليخبرها هو بالحقيقة تدريجيا، وخطيبته تزوجت، وصديقه يتابع دراسته العليا فى بريطانيا.. يبتعد عن السجن مسافة كافية ثم يوقف سيارة أجرة ويستقلها فى ثقة رغم أنه لا يحمل أية نقود.. يدخن سيجارة فى روتينه وهو ينظر للشارع باهتمام يستوقفه شارع مزدحم فيطلب من السائق التوقف لدقائق، يقفز من السيارة مسرعا فيصطدم بشخص ما يعتذر منه بكلمات مبهمة ويتابع سيره لثوان ثم يستدير ويسرع الخطى عائدا لسيارة الأجرة وهو يتحسس جيبه المنفوخ فى ظفر.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى