الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم تيسير الناشف

لتحقيق النهضة يجب اتخاذ رؤية اجتماعية نقدية شاملة

لا يمكن تحقيق التقدم الاجتماعي والسياسي الحقيقي والاسهام الحضاري العربي دون اضفاء الطابع الديمقراطي على الحياة الاجتماعية والسياسية العربية ودون توفر الفرصة لممارسة النقد الذاتي في شتى المجالات ودون الاعتماد الفعلي للمنهج العلمي وليس التشدق بذلك الاعتماد. وتوجد في كل مجتمع بشري، وعلى وجه الخصوص المجتمعات النامية، قوى اجتماعية وسياسية تحاول الحيلولة دون اشاعة الديمقراطية.

ويمكن للكتاب ان يدبجوا عشرات الآلاف من المقالات المنتقدة لهذه الحالة دون ان تحقق تلك المقالات قدرا يستحق الذكر من الفائدة المتوخاة ما لم تصغ السلطات الحاكمة الى انتقادات اولئكم الكتاب.

ان اسباب التخلف في العالم النامي باتت معروفة. لقد قتلها المحللون والمفسرون كتابة ودراسة ووصفا وتحليلا وتعليلا. ان ما تحتاج البلدان النامية اليه، فيما اعتقد، لم يعد تبيان اسباب التخلف ولكن الاتيان بطرق تجعل الاوساط المتولية للسلطة تتخذ مواقف اكثر ايجابية من الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي وحرية ممارسة النقد وتجعل تلك الاوساط تهتم اهتماما ايجابيا بتشجيع نشوء المجتمع المدني.

وهذه الحالة البائسة في العالم النامي تتطلب اتخاذ رؤية كلية شاملة، رؤية تشمل كل الجوانب المتعلقة بحياة الشعوب النامية: المجتمع والاقتصاد والسلطة الاجتماعية والمالية والسياسية.

ومن الطرق التي من شأنها ان تفضي الى اتخاذ الرؤية الشاملة الطريق النقدي، اذ عن طريق النقد (والمقصود هنا النقد الموضوعي الجاد البناء وليس البهلوانيات اللغوية المرائية) تكتشف العلاقات السببية بين كل ظواهر حياة الشعوب النامية، وتستخلص الاستنتاجات، وفي ضوئها تقدم اقتراحات العلاج.

وعن طريق النقد الفكري تمكن الاشارة الى الفوائد التي تجنى من شتى الوسائل التي تسهم في اصلاح المجتمع برمته. ومن هذه الوسائل التنشئة والتربية السليمتان، ومحو الامية وتقليل الفقر او القضاء عليه واضعاف او ازالة الاستقطاب الاجتماعي ومقاومة العدوان الخارجي والاحتلال الاجنبي. عن طريق المعالجة النقدية يمكن البدء بتنفيذ اهداف كثيرة في الوقت نفسه. فلان الظواهر الاجتماعية بالمعنى الاعم تترابط الواحدة منها بالاخرى ترابطا وظيفيا وبنيويا فلا بد من البدء بتنفيذ الاهداف حسبما تقتضيه استنتاجات النشاط النقدي. بسبب الترابط الوظيفي والبنيوي بين هذه الظواهر لا يصح الاهتمام بظاهرة، مثلا التنشئة السليمة، دون البدء بتحقيق محو الامية او بتحقيق نسبة عالية من محو الامية، ومحو الامية الوظيفية للرجال والنساء، وتحسين الوضع القانوني والاقتصادي والاجتماعي للمرأة. اذ كيف يمكن تحقيق التنشئة الصحيحة اذا كانت عقلية المرأة عقلية الخضوع بسبب تدني وضعها القانوني والاقتصادي والاجتماعي؟

والحل التربوي لا يتمثل في انشاء المدارس والكليات والجامعات وفي زيادة عدد الطلاب والطالبات. هذه التطورات طيبة، ولكن لا يتجسد الحل التربوي في هذه. الحل التربوي يتكون من اشياء اخرى كثيرة اهم من ذلك كثيرا. يتكون الحل التربوي من الغاء طريقة تلقين الطلاب والطالبات وطريقة الاستظهار وطريقة الارسال من المعلم الى الطالب والطالبة وطريقة تلقي الطالب والطالبة للعلم من المعلم. ويتكون الحل التربوي من التأكيد على تنمية ملكة التفكير، وتعزيز التفكير المستقل وعلى الحوار بين المعلم والطلاب وعلى الحوار بين الطلاب دون تدخل المعلم ولكن بتوجيهه عند الحاجة، والتأكيد على اهمية الخلوص الى الاستنتاج، وتحرر الطالب من الخوف من عاقبة رفضه لرأي المعلم، والتأكيد على معرفة العلة والمعلول وعلى الوصف والتحليل والتفسير. ويتكون الحل التربوي من عدم هدر طاقة الذاكرة بان يطلب من الطالب وهو في المدرسة الابتدائية استظهار قصيدة تتكون من عشرات الابيات كل اسبوع.

وهذه الطريقة التربوية لم تجرب، حسب معرفتي، في البلدان العربية. فاذا كانت هذه الطريقة لم تجرب فكيف يمكن ان يقال عنها انها فشلت؟ وما قلناه بالنسبة الى الطريقة التربوية والحل التربوي يقال مع بعض التعديلات التي يستلزمها الموضوع عن مذاهب وتيارات اخرى قال عرب انهم يتبنونها، من قبيل النزعة العلمية والتكافل الاجتماعي والتضامن العربي. وفي الحقيقة ان السبب في عدم تحقيق العرب للنهضة عن طريق بعض هذه التيارات لا يكمن في عيب يعتور تلك التيارات ولكن في عدم تجريب العرب لها او في عدم احسانهم لتطبيقها. ولا يمكن لشعب ان يحقق اهدافه عن طريق تبني تيار من التيارات الفكرية دون تطبيقه السليم له، والشرط الاول في التطبيق الصحيح هو اعتماد النهج النقدي مما يتضمن الاخذ بالديمقراطية الاجتماعية والسياسية، مما يستلزم اجراء الحوار. ومن الجهل عزو الفشل في تحقيق هدف الى تيار فكري معين دون تطبيق ذلك التيار.

والشعب العربي افرادا وجماعات وحكومات ودولا، شأنه شأن الشعوب النامية الاخرى، يواجه مهمة شاقة في تحقيق التخلص من الحالة البائسة التي يعاني منها. وتعمل جهات داخلية وخارجية اجتماعية باتجاه معاكس لاتجاه تحقيق النهضة العربية. ويؤدي عمل هذه الجهات الى تأكل بعض ما يتم تحقيقه في مجال النهضة.

والعرب، شأنهم شأن بشر آخرين، بحاجة، لتحقيق نهضتهم، الى نهج شامل يشمل الحل التربوي والحل القومي والحل الاقتصادي والحل الانمائي، نهج يأخذ ويطبق ما هو طيب بالنسبة الى العرب من كل من هذه التيارات. ولا يمكن ان يحقق ذلك الا باعتماد النهج النقدي الذي يضع اصبعه على الجرح، على مكان الالم، على الدمل.

ولن تحقق النهضة الا عن طريق اتخاذ الرؤية الشاملة النقدية. والمقصود بالنقد النقد الهادف البناء. فعن طريق هذا النقد يجري الكشف عن العلاقات السببية بين الظواهر. الرؤية النقدية لا تقبل التجيب الفكري: لا تقبل وجود الجيوب الفكرية التي ينفصل فيها الجيب الواحد عن الآخر. في هذا العالم الذي نعيش فيه تقوم علاقات بين كل الظواهر وكل الاشياء. لا يوجد شيء لا علاقة له بالاشياء الاخرى. وفي هذه العلاقات هناك التأثر وهناك التأثير، وهناك التأثر والتأثير في الوقت نفسه. وشمول الرؤية معناه القبول بفكرة قيام العلاقات بين الاشياء. وشمول النهج معناه ان الطريقة في تناول القضايا تعترف بقيام العلاقات بين الاشياء وتراعيه. وشمول الحل معناه انه لا حل دون مراعاة قيام العلاقات بين الاشياء. والشاملة في هذا السياق تعني التوازن. والتجزيئية تعني عدم التوازن. شمول معالجة ازمة المجتمع يعني مما يعنيه مراعاة جميع جوانب الحياة والوجود والثقافة والاقتصاد والتاريخ للمجتمع. وعن طريق الرؤية التجزيئية يجري الالتفات الى جانب على حساب الجوانب الاخرى، ويسبب اهمال الجوانب الاخرى تعطيل ما حقق من انجاز في تناول ذلك الجانب.

ومعنى الازمة في اي مجال من مجالات الحياة هو اختلال التوازن وفقدانه. وانعدام التوازن ينشأ عن اختلاف سرعة حركة العوامل الداخلة في الظاهرة واختلاف اتجاهات تلك الحركة. فالطائرة بجناح واحد لا تطير، واذا تحطم احد جناحيها وهي طائرة سقطت. والانسان الذي تتحرك قدمه الى الامام وقدمه الاخرى الى الخلف حتى النهاية ينفلق. الازمة في الاقتصاد، على سبيل المثال، معناها انعدام نوع من التوازن بين العوامل المختلفة التي تدخل في وجود ظاهرة الاقتصاد. والحاجة الى الرؤية الشاملة اكبر في اوقات الازمات او المنعطفات او التحولات لان سمة انعدام التوازن اقوى في هذه الاوقات.

يوضح ذلك انه لتحقيق النهضة تبني مذهب او تيار واحد لا يراعي او لا يتضمن الرؤية الشمولية النقدية لن يمكنه ان يحقق النهضة. وبالنظر الى وجاهة واهمية الرؤية الشمولية النقدية في تحقيق الاهداف المنشودة فان التخصصات العلمية لا بد من ان يكمل بعضها بعضا في وضع مداميك الرؤية الشمولية النقدية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى