الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم رياض أبو بكر

قصة نسيم

الفقرُ ليس عيباً، لكن كيف يغدو مثاراً للفخر والاعتزاز؟! ذلك نسيمُ الذي كان دائماً يفتخر ويشوبه الكبرياء حينما يصفه أقاربه وجيرانه بالفقير، كان يحيا بكنف وأروقة الفقر بعيداً وخارجاً عن نسق الحياة وفيزياء البشر، لم يكن لديه شهادةُ ميلادٍ أو كواشينُ امتلاك، عمره بين العام والسابعة الخمسين والحكم في ذلك يرجع إلى الشخص الذي يتحدث معه أو يراه أو يسمع عنه .

لا أحد كان يدرك مدى وحجم العلاقة التي تربط نسيم بالطبيعة، فصوتُه حفيفُ الشجر ولونه أخضر وعزمه ثبات الصخر، تلقى علومَه الابتدائية في مدرسة الوطن وهي مدرسةٌ تقع على سفح جبل القيم وهو جبل راسخٌ في حدائق الأخلاق، كان نسيمُ الطالبَ الوحيد في صفّه، ومدرسته مكونة من أربعةِ صفوف أو خمسة وقد أقيمت تلك المدرسةُ بعد هدم العديدِ من المدارس السابقة بدعوى الترميم.

عندما كان يتحدث نسيمُ عن ذكريات الدراسة يتمتم هامساً " ما أجملَ تلك المدرسةَ !لم أشعر بالفقر في أرجائها بالرغم من عدم توفّرِ قرشٍ واحدٍ في جيبي " أما أبناءُ حارته وأترابه في السن فقد اختلفوا عنه كثيراً هم بوادٍ وهو بآخر ، هم يدّعون بأنه مجنونٌ وهو كذلك ويتحدث عنهم بسخريةٍ و يوحي لهم بعدم امتلاكهم لأي من سمات العقل والمنطق، و نساء الحي الذي يقيم به نسيم يوجهن اللوم لأمه وأبيه لعدم اهتمامهم به وتركه بملابسٍ مهترئة ونعل ممزقٍ وجوده وعدم وجوده سيان حتى أن باطن قدمه يكتنف الشوكَ المكسّر فيه كالسنابل تكسو السهل .

في ذات صباحٍ مشمسٍ بلا شمس ونديٍّ بلا ندى غادر نسيم منزله إلى البريّة المجاورة ولدى خروجه لقيه أحدُ مسني الحي فقال له " إلى متى ستبقى على هذا الحال " لم يأبه نسيم لما قاله الرجلُ وتابع مسيرَه قاصداً الجبال التي تربّى بين شروخِها وسفوحِها ، بدأ بالبحث عن أعشاش طير "الحسّون" وقد كانت هذه الهواية من أبرزِ وأجملِ هواياته و أكثرها متعةً، حيث يمتّع نسيمُ أنظارَه برؤية فراخ الحسون داخل أعشاشها، مرّ النهارُ سريعاً ولم يدرك الوقت دون جدوى حيث لم يعثر على أيّ واحدةٍ منها بالرّغم من سهولة ذلك في الماضي وكأنها اختفت عن ناظرِه وكأنّ الأشجارَ قد وُضع عليها لجام يمنعها من الإيحاء لنسيم بضرورة مغادرة المنطقة ، ولحظة ساوره اليأسُ وهاجمه العناءُ، فجلس يستظلّ بشجرة زيتون يستجدي قسطاً من الراحة متوسداً قبّعتَه المهترئة وقد كان عليها ملامحُ لكتابات تعود إلى تسعة أعوام سابقة حينما وُزّعت كدعاية انتخابية لأحدِ زعماء الحارة.

حان موعدُ الغروبِ بعد الغروب ، الجوُّ هادئ والرياحُ خبت، الحساسين وحدها تصدح في السماءِ دون غيرها من الطيور ، نظر نسيم إلى أعلى الشجرةِ بحكم موضعِ رأسه، فرأى عشاً على أحد الغصونِ لشجرة زيتونٍ بريّة، مما أثاره مع أن الغصنَ يختلف عن غيره من الغصون فهو مركبٌ بلون ونوع آخرين، كذلك العشُّ كان مصففاً بنسقٍ غريب عما عهده نسيم من أعشاش الحسون .

لم يرَ نسيم الطيرَ صاحب العشّ راقداً فيه مما زرعَ في نفسه الشكَّ باحتوائه على فراخٍ ناضجة ذهبت أمها لتحضر لها الطعام، فتسلّق الشجرة دون تردّد أو ريب، و أثناء صعوده قاصداً العشَّ رأى عدداً من طيور الحساسين تحيط به،كانت تهاجم العشَّ و لم تهاجم نسيم وكأن نسيم هو أحد فراخها والعش نسيم ، وعندما وصل إلى العش الذي يرومه أحس بثقلٍ في جسده جعله غيرَ قادرٍ على ملاحظة ما بداخله، فمد يديه وفجأة صاح: آآآآه، تفتت المنطقةُ وتكسّر السكون ، عندما صرخ نسيم وسقط عن الشجرة، يبدو أن أفعًى سامةً لدغته ، نعم فقد كان ذلك ، تلك الأفعى ابتلعت فراخ الحسون أو بالأحرى لم يكن هناك عش، بدأ وجهُ نسيم بالاحمرار واجتاحت جسده رعشةٌ قوية ويده تضخمت بشكلٍ كبيرٍ فأحس ببداية النهاية، بقي جسدُه لوقتٍ طويل وهو ممددٌ ومستسلمٌ للموت.

صعب حال نسيم على كافة الحيوانات والطيور التي تسكن المنطقة ذلك لأنه صديقٌ حميمٌ لها، لذا اجتمعت لإنقاذه بكلّ الأضداد ، الأرنب والثعلب، البلْبل والبوم، الأفعى الغير سامة وفراخُ الحجل، قد تخلت جميع الحيوانات عن العداء بينها وجمعها حالُ نسيم الفقير الذي بدأ يحتضر، الجميع يحاول البحث عن السبل الكفيلة لحل أزمته ، الأفعى التفت على يده لحجب الدمِ المسمومِ عن باقي أجزاء جسمه، والصقرُ أخذ بتفتيت مكان اللدغ وفراخ الحجل تمتص الدماء بدورها، كلُّ ذلك العمل من أجل أن يبقى نسيم حليفَ البرية والغابات و زهرةً تزيّن أرجاءها.

خيّم الظلامُ، خبا الصداحُ ، تهدّجت الأصوات، انكسرت البسماتُ، تحطمت الجبالُ وتفتت الصخرُ، ناح الطيرُ وتبعثرت أوراقُ الربيع، مالت السنابلُ أمام رياح الخبر ، تلوّع اللوزُ، جف الغديرُ، أنزلق النهرُ عن مسار الحياة، كل ذا وأكثر عندما خرجت روحُ نسيم إلى خالقها تاركةً جسدَه بين الأحبّة، وبعد طولِ نواح حاولت الطيور بحكم سهولة تنقّلها إخبار ذوي نسيم عمّا نابه لنقل جثته إلى قبورهم بالرغم من الرغبة الشديدة بإبقائه ماثلاً أمامهم كصورة من نتائج الظلم والغدر والقهر، حاول الصقر مراراً أن يوصلَ الخبر وذلك من خلال التحليق في سماء حارة نسيم والتي يعرف سكانها أن ذاك الطير تربطه صداقةٌ قوية وعلاقة وطيدة بنسيم، لم يكترث أحد لذلك بل حاول صبيان الحارة اصطياده، و أخيراً حاولت كائناتُ الغابة والطبيعة أن تجدَ حلاً لذلك فقال الصقر يائساً عابساً " المشكلة أن نسيم فقير حسب قوانين البشر"

فردت الحيوانات " ما معنى ذلك "

قال " أن يأكلَ النملُ حثّته"!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى