الجمعة ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم موسى حوامده

في وصف حالتنا النقدية

سألتقط الخيط الواصل بين الماء والزمهرير، بين الحريق والبنفسج، بين أول الكتابة وأول السحر، هنا تقيم الأوهام ممالكها العالية، تمد جسور الوهم معموراً بالسكينة، والعلاقات البليدة، وضياع الخيط الفاصل بين الجد واللهو، بين الصحبة والعداوة، بين الكتابة واستجلاب الحروف من أوراق الآخرين، ومن فتات صفحاتهم.

سأكون أكثر توضيحاً، وأقول إن زملاءنا النقاد مشغولون بعروض الكتب، مشغولون بتلميع صورهم لدى محرري الصفحات الثقافية، والمؤسسات الرسمية، وبقية المشتغلين بالكتابة، بحثاً عن سمعة طيبة، وترويجاً لأسمائهم يحقق لهم مجداً مطموراً ومطموساً، ويعطيهم قيمة غير معترف بها، إلا نتيجة علاقاتهم، وكتابتهم عمن يردد أسماءهم.

قليل من النقاد من يجرؤون على التعامل مع النص مستقلاً: بعيداً عن صاحبه، ويدخل مباشرة للنقد، بعد أن يرمي، عن كاهله، كل عوامل المجاملة، وأدوات الطبابة والتزويق. وقليل من يدخلون غرفة العمليات من دون ضغوط الأسماء، ومصالح الكتابة وأسبابها ودوافعها، كل شئ تأخذ له العدة والعتاد، إلا الولوج في النص وإزاحة أسماء الاستعارة، بعيداً عن طاولة التشريح ومجهر كشف الجراثيم.

وكثير مما يكتب لا يتعدى تكرار المكرر، وتأكيد المؤكد، وإظهار المكشوف، وإعادة كتابة كل ما هو معروف، ولا جديد يغري القارئ بالاستمرار، ولا جديد يغري المتابع بالجدية، والتأمل والتفكير، لكأن ثقافة الطمأنينة، وطريقة الأميين، تسربت، أيضاً، إلى حقل الإبداع، وصارت الشطارة تتلخص في عدم تحمل المسؤولية المباشرة، واللف والدوران بعيداً عن الحقيقة. والمأساة تكمن في أنك، حين تسأل الناقد عن قناعاته بما كتب، يبتسم بخبث، وهو يعطيك انطباعاً بأن ما كتبه، لا يتعدى المجاملة، وأن الخروق تملأ الثوب، والأخطاء لا تحصى، والمثالب جمة، والعيوب ظاهرة للعيان، وتسمع من نقده الشفوي المغاير لما كتب، ما تستغرب من حجمه وثقله، ولما تسأله: ولمَ لمْ تكتب ذلك؟ يجيبك بتلك الكليشيه الممجوجة: إننا لا نتحمل النقد، ولا نقبل إلا المديح.

ولهذا نظل نكرر أنفسنا، ونراوح مطرحنا، وتظل الكثير من الأسماء تتصدر المشهد، ويظل النقاد يكتبون ما لا يقتنعون به، ويظل المبدعون غارقين في شؤونهم، وأوهامهم ونرجسيتهم.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن حالة النقد صارت مثل ماء آسن، عتق وكثرت طحالبه، وصار أغلب ما يكتب مقدمات واقتباسات مسروقة ومنقولة عن نقاد غربيين، ومن يتصدَّ لتطبيق المناهج النقدية الغربية على إبداعنا، يجدْ أن هناك ليّاً للنظريات لكي تتوافق مع النصوص، وذلك أشبه بالترجمة الحرفية للمترجمين المبتدئين.

وبينما يتقدم الإبداع والأدب، في العالم كله، نظل نلف في حلقة مفرغة نردد الأسماء نفسها، لا لأسباب نقدية حقيقية، ولا لتغيير ما قادته هذه الأسماء، ولا بسبب إنجاز إبداعي، غيَّر خريطة الإبداع، ولكن بسب اتفاق أشبه بالتواطؤ على أهمية بعض الأسماء، من دون أن تعرف الأسباب، فمن المفروض أن تتحقق الشهرة، والقيمة الأدبية نتجية تراكم إبداعي، لا نتيجة تراكم كمي، وعلاقات عامة، وأسباب جغرافية ضيقة، تساند بعض أنصاف الموهوبين، بحجة تمثيل بلدانهم، وإظهار أن هذا البلد لا يقل أهمية عن غيره، بينما تتعالى بعض الساحات الإقليمية العربية، كما تتعالى الطواويس، لا لقيمة إبداعية تحققها، ولكن بسب نظرة دونية لجيرانها.

هذه هي حالة النقد العربي، اليوم، فلا مناهج نقدية تقود العملية الإبداعية، ولا نظريات تتطور وتتبلور في بيئتها العربية، ولا تتعدى غالبية كتاباتنا النقدية عروض الكتب والإطراءات والمجاملات، حتى صار كثير من الكتاب والمبدعين يعتبرون أن الثناء على كتبهم وإنتاجهم واجب وطني، بل حق مقدس لهم.

في ظل هذه الأوضاع، في ظل هذا الفهم المخطوء المتبادل، ننام على حرير، ونظن أننا نحقق الكثير، والنقاد أنفسهم، يعانون سوء فهم نتمنى ألا يكون ما قلناه، بعضاً منه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى