الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٥
خماسية
بقلم رأفت دعسان

وراثة الذكريات

* القرية *

أنا فلاح بسيط الى نهايات البساطة ابن فلاح حدود أحلامه وأفكاره لا تتجاوز أسوار بستاننا الملقى على ذلك الجبل في وسط قريتي العتيقة المنسية خلف جدار الزمن.

في قريتي تدرك معنى اللاشيء أو عدم الاهتمام بمعطيات الحاضر ولا حتى بذكريات الماضي وليس هناك مكان لكلام الإنشاء بأن هناك رؤية مستقبلية للتطور السياسي والإقتصادي للقرية من خلال أطر شعبية وجماهيرية يكون لها دور فعال في ذلك.

نعم إنها الموطن الأول للهدوء والسكينة فالهواء هنا ليس كهواء المدينة إنه هنا ناعم منعش وكأنك تشرب كأسا من العصير البارد منتصف تموز.

تقع قريتي جنوب الوطن نهاية الريف وخضرته الغناء وبداية البادية وأصالتها وكرم أناسها، وهي تدعى الظاهرية ويقولون انها نسبة الى الظاهر بيبرس حيث أنها كانت قاعدة إنطلاق الجيوش الاسلامية ضد الصليبين وهي أصلا قرية كنعانية تدعى جوش.

عائلتي الكبيرة أو ما يسمونها عندنا الحمولة عائلة بسيطة نقية القلب مع الكثير من الطيبة التي تجعلها منسية مع انها من الحمايل الأصيلة في القرية.
بيت العائلة أو ما يسمى بالعقد يتوسط القرية بيت قديم تشم منه عبق الماضي وتسمع من بين ثناياه أصواتا لأرواح كانت هنا ولولاها لما كنا هنا.
هذه قريتي بكل ما فيها وما هي في مخيلتي وذاكرتي.

* الوالد *

كان يجلس هناك جلسة طويلة تحت شجرة الزيتون العتيقة حاضنا بين يديه لفة من الورق يلف بها التبغ أو ما نسميه عندنا (الهيشة) سابرا بأفكاره غور تلك الحياة رافضا لكل متعها راضيا بمتعة هدوء وبساطة الحياة.

كان يجلس أمامي كالجبل الشامخ وكالقصر العالي وكنجم سائر في الأفق تسحر بجماله ووقاره ولكن لا تستطيع الوصول إليه هيبة وروعة وعجزا.
كنت الأخير من اولاده فكنت رفيقه المدلل والشيء الاخير الباقي لغرس خلاصة خبرته الطويلة وشريط حياته الممتد.

فكنت أنا وريث تلك الخبرات والتجارب وكأن حياة كاملة جمعت ونسخت في ذاكرتي ومنها بدأت حياتي الجديدة فكنت حلقة الوصل التي من أجلها أبي لم يزل يعيش وإن لم يكن يعيش بجسده فحياته وخبراته وتجاربه ترقد هنا في الحجرة الأولى في الطابق السفلي التي بنيت عليها اللبنات الجديدة التي تشكل حياتي الجديدة.

* الحبيبة *

لا زلت اذكر تلك النهارات الجميلة الصافية النقية وتلك الابداعات الالهية في فن الحياة، لا زلت اذكرك يا محبوبتي واذكر ذلك الوجه ذا التفاصيل البسيطة الذي ترى من خلاله ابعاد السعادة وامتزاجها العجيب بهذا الوجه الجميل.

هناك وفي تلك الايام خطوت أولى خطواتي في رحلة الحب وادركت معنى الجمال في الاشياء ومعنى السعادة في اللاشيء، فانا سعيد، لماذا ؟ لا ادري، وكيف ؟ لا أدري، المهم اني حين أقابلك أكون سعيدا، وحين اتركك تبدأ رحلة إنتظار لقائك والاشواق التي تجتاحني الى أن ألقاك.

الحب، الحب، سخرية الجنة من النار، سخرية السعادة من الحزن، الحب، تحرير الروح من الجسد واندفاعها الى ابعاد الكون اللامتناهية، الحب مدنية الانسان وتحضره وانفصاله عن البهيمية.

كنا هنا في طرف ذلك البستان نلتقي ونتبادل الكلمات التي تتدفق من قلب هائج كالبركان في ثورانه، تقول لي أحبك، فكأن صاعقة من السماء اصابتني وكأني بلا وزن اسبح في ذاك الفضاء كسمكة في عمق البحار، يالها من كلمة لا ادري، اهي جميلة، لا تكفي، أهي رائعة، لا تكفي، هي كلمة وفقط.

وانا احبك يا معشوقتي يا قطعة مني يا دنياي، يا فضائي، يا كوني، لا أتصور الحياة بدونك حياة ولم تكن أصلا حياة قبلك، فعمري بلقائك ابتدأ، فلن نفترق مهما كان وومهما سيكون.

* الكارثة *

كان يوما حزينا بائسا، لم ارى يوما في حياتي اسوأ منه، كله ذل وعار وانهزام وكل المعاني البشعة في تاريخ البشرية تجتمع فيه، في هذا اليوم ولدت حياتي التعيسة وبدأ مشوار الغربة وماتت كل معاني الحياة والرغبة فيها.

لا ادري ما حصل، وكاني في حلم، لا بل كابوس، فالكل هنا يرحل هاربا من الدمار من المجازر من سفك الدماء وانا معهم !!!!!!... لماذا انا معهم ؟ يجب علي أن أبقى، لكن لا ادري انا معهم !!! ونتجاوز نهر الاردن تاركين وراءنا وطنا سليبا حزينا لفقد ابنائه، حاملين أثقال الذل والعار والحزن والتعاسة.

لي أخ قبل الكارثة في الاردن، تاجر، ساذهب اليه وابقى عنده. ويا ليتني ما ذهبت ويا ليتني ما بقيت، وعدت، نعم عدت، ولكن هيهات فقد جرتني الحياة الجديدة معها وانستني ما كان، وكأنه حلم جميل أفقت منه على واقع الحياة الاليمة ومعطياتها الجديدة.

كارثة، نعم كارثة لم يشهد التاريخ لها مثيلا، اخراج قوم من وطنهم بهذه البشاعة وامام عيون العالم كله وكأن العالم كله في حالة سكر واندهاش من الذي يحصل. لا استطيع لها وصفا، لساني عجز عن الكلام، افكاري تشتت، لا ادري ما اقول، إن الكلمات تهرب مني، إذن أسكت.

* الذكرى *

وتمضي الايام وتمضي السنون ويشيب الشعر ويوهن الجسد ويكبر الاولاد ولا يبقى من الماضي سوى الذكرى، ذكرى وطن يعيش في مخيلتي، لم يبارح عقلي منذ افترقنا، ولن يبارحه إلا بموتي، ذكرى ايام جميلة وحياة سعيدة وأناس طيبون ونسائم عليلة وليال هادئة وووو.......

شريط الحياة يمر بناظري كل يوم، والدموع ازورها كل يوم، والاحزان لا تفارقني والتعاسة هي زادي.

يسألني الاولاد عن الوطن، ولماذا الناس لهم وطن ونحن بلا وطن ؟ ولكني لا أستطيع الاجابة، أو أني لا أقدر على الإجابة، ولكني سأورثهم نعم سأورثهم، سأورثهم تلك الذكريات الجميلة وتلك اللحظات الجميلة التي لا زالت تجوب ذلك الفضاء معلنة انا هذا الوطن هو وطني، نعم سأورثهم الذكريات لكي أبقى على وصال معك يا وطني حتى بعد موتي، فلعل يوما تعود هذه الذكريات اليك فتدفن هناك في مهدها الذي خلقت منه.

وأظني قد نجحت فمن كتب هذه الكلمات ليس أنا وإنما وريث تلك الذكريات، ولدي...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى