الأربعاء ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم فؤاد وجاني

أولى دروس الحرية

"طن... طن... طن... طن"، يرتج رأس ناقوس المدرسة طربا محتفيا بالتلاميذ الجدد ومبشرا بعام دراسي سعيد. المطرقة الكروية الداخلية للناقوس لاترحم رأسه ولا رؤوس التلاميذ الصغيرة. صفهم المتراص خلف المعلم، وهم ينتظرون تحية العلم على ايقاع النشيد الوطني، يحاكي ابتسامة موحدة ساخرة رسمتها شفاههم الساذجة. بذلاتهم الزرقاء ذات الخطوط البيضاء مسخت تنوعهم الطبيعي. كلمات النشيد الوطني لاتتناغم مع اللحن وكأنها تتبرأ منه. مخارج الصوت تقهقه خفية: "إنه لحن صنعه الاستعمار".

ينشد الأطفال غير مبالين، فالنشيد خليل الطفولة الأزلي: "وطني الغالي، وطني حبيبي، بالدم بالروح أفديه". الراية الذابلة أصباغها ترفرف كطائر مكسور الجناحين لايقوى على الطيران، والريح تهب هبيبا هائجا كأنها تسعى هباء لإسقاط العلم المصنوع من عمود صدئ وقماش رخيص.

تنفست صدور الأطفال الصعداء حين وصلوا آخر جملة في النشيد: "يحيا الوطن، عاش القائد، عاش، عاش القائد". نطقوها بسرعة مدغمين ألف المد: "عشعش القائد". هذا أول صباح، وعلى نفس المنوال ستبدأ باقي أيامهم الخريفية في المدرسة السعيدة. بدت التعاسة مزهوة متفوقة بعد أن اطفأت أول نور من بريق عيونهم.
دخل التلاميذ الفصل. حروف الهجاء أولى دروس الصف الأول الإبتدائي. ابتسم المعلم: "أهلا أعزائي". لم تفته الفرصة أن يذكرهم أنه الكبير وأنهم الصغار: "رددوا بعدي ياصغاري، رددوا فلذات أكبادي: الألف إستقلال، الباء بسالة، التاء تغيير، الثاء ثورة، الجيم جهاد، الحاء حرية...".

في آخر الصف رفع طفل أصبعه مقاطعا المعلم وحروف الهجاء. قطب المعلم جبينه مجحظا عينيه: "تفضل بني، مالديك؟". 

قفز الطفل في مكانه: "عيد الاستقلال بعد يومين يامعلم !".

دمعت عينا المعلم: "سيحضرون حافلة مدرسية اليوم تأخذنا لتحية موكب الزعيم".

هلل الأطفال وطبلوا على طاولاتهم: "هيه... هيه... هيه... هيه".

ضحك المعلم: "كفى... كفى... كفى...لن يقدموا لكم الحلوى...حسنا، لنعد الى التهجئة".

جمع الأطفال الأيادي، وأطبقوا الشفاه، وحملقوا في شفتي المعلم وصفحات القراءة.
ختمت حنجرة المعلم البحة حروف الهجاء حرفا حرفا على عجل. "طن... طن... طن... طن"، انطلقت مطرقة الناقوس فرحة تهز طبلات الآذان وتدمر خلايا الرؤوس إيذانا بموعد الذهاب لتحية موكب الزعيم.

غصت الساحة بالتلاميذ كحنجرة المعلم الغاصة بحروف الهجاء. تطايرت ألسنة البهجة المبهمة، وركض الأطفال في كل اتجاه بدون اتجاه، وتصاعد الغبار في فضاء المكان الرمادي. لاتُرى سوى أشباح أطفال في الساحة المغلقة.
 
خلف سور المدرسة السعيدة حافلة صفراء متربصة صدئة لايجيء بها سائقها الحكومي سوى في المناسبات "الوطنية". حضر المدير وأحضر جنود الرعب معه فتراصت صفوف الصغار ليصعدوها مرغمين.

في السور الخلفي للمدرسة السعيدة، طفل واحد عرف وجهته. وضع محفظته على ظهره، وربط منديلا على يديه تجنبا لأشلاء الزجاج الحاد البارزة فوق السور.

تسلق شجرة ومنها وضع يديه على السور. لم يأبه للدماء التي زينت ساعديه. قفز خارج المدرسة حرا طليقا بعيدا عن أسر الحافلة. في طريقه الذي اختاره ظل يردد: "الألف إستقلال، الباء بسالة، التاء تغيير، الثاء ثورة، الجيم جهاد، الحاء حرية...".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى