الخميس ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

استدعاء التراث الأدبي (القسم الأول)

في تجربة فوزي عيسى الشعرية

يعد التراث بمصادرة المتنوعة مورداً خصباً، ومعيناً دائم التدفق بإمكانات الإيحاء ووسائل التأثير؛ لما يحويه من فكر إنساني، وقيم فنية خالدة، ومبادئ إنسانية حية؛ «لأن عناصر هذا التراث ومعطياته لها من القدرة على الإيحاء بمشاعر وأحاسيس لا تنفد، وعلى التأثير في نفوس الجماهير وعواطفهم، ما ليس لأي معطيات أخرى يستغلها الشاعر، حيث تعيش هذه المعطيات التراثية في أعماق الناس، تحف بها هالة من القداسة والإكبار؛ لأنها تمثل الجذور الأساسية لتكوينهم الفكري والوجداني والنفسي» [1].

الواقع أن عملية توظيف الموروث داخل السياقات الشعرية هي مسألة غاية في الأهمية؛ ذلك بسبب ارتباطها بالمتلقي، إذ إن مقدار تفاعل المتلقي مع القصيدة يكمن في مقدار شعرية توظيف الشاعر للموروث، وبما أن الموروث مادة جاهزة للإفادة، فقد استطاع عدد غير قليل من الشعراء المبدعين توظيف الموروث العربي، بكل أنواعه داخل منظومة نصهم الإبداعي.

لا شك أن استيعاب الشعراء العرب المحدثين للتراث بأشكاله المتنوعة وتوظيفه في النص الشعري قد أصبح ظاهرة شائعة وسمة بارزة من سمات الشعر العربي الحديث، فما من شاعر عربي معاصر إلا ولجأ إلى توظيف معطيات التراث في أعماله، بحيث أصبح يشكل نظاماً خاصاً في بنية الخطاب الشعري المعاصر، فاتكاء الشاعر على موروثه وارتباطه به يكسب عمله أصالة وتفرداً، وأصالة الشاعر وتفرده يزيد بمقدار غنى التراث الذي يعتمد عليه ويربط أسبابه به.

ويعرف التراثُ اصطلاحاً: «ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد وعادات وتجارب وخبرات وفنون وعلوم في شعب من الشعوب، وهو جزء أساس من قوامه الاجتماعي و الإنساني والسياسي والتأريخي والخلقي يوثق علائقه بالأجيال الغابرة التي عملت علي تكوين هذا التراث وإغنائه» [2].

وأما التراثي العربي، فهو يتمثل فيما خلفته لنا الأمة العربية منذ القدم من عطاء المضامين، بإمكاننا أن نستعين به في مواصلة الركب الحضاري فهو «ما خلفه لنا السلف من آثار علمية وفنية وأدبية، مما يعد نفيساً بالنسبة إلي تقاليد العصر الحاضر وروحه» [3]

واستناداً للتعريف السالف للتراث، فإن بعض الباحثين يرى التراث على أنه" ليس مجرد تراكم خبرات ويرى بعض الباحثين أن التراث «ليس مجرد تراكم خبرات ومعارف وكتب، لكنه اعتراف أمام الذات والعالم، اعتراف بوجود.. اعتراف بشخصية لها وجودها التاريخي والنفسي، وهو ليس الماضي الحي من التراث فحسب، بل إنه يعكس فضلاً عن الخلفية الحضارية للمجتمع الاستعداد المتجدد في الأمة لتجاوز نفسها باستمرار» [4].

إن تعامل الشاعر مع التراث لا يعني نقله كما هو، أو إعادة صياغته أو تقليده؛ لأن مثل هذا العمل لا قيمة له، إنه يذكّر فقط بالماضي، ولا يقدم أي حلول للمشكلات المعاصرة. وإنما التعامل الحقيقي مع التراث يتمثل في استخدام معطياته وعناصره «استخداماُ فنيا إيحائياً وتوظيفها رمزياً لحمل الأبعاد المعاصرة للرؤية الشعرية، بحيث يسقط على معطيات التراث ملامح معاناته الخاصة، فتصبح هذه المعطيات معطيات تراثية ـ معاصرة» [5] .

وفي إطار هذا التعامل الإيجابي مع التراث، تأتي هذه الدراسة التي تتوقف عند تجربة أحد الشعراء المعاصرين الذين كانوا على صلة وثيقة بتراثهم، فأفادوا منه كثيراً في إغناء شاعريتهم, سواء على المستوى الفكري أو المستوى الفني، وهو الشاعر الدكتور فوزي عيسى [6].

إن الدارس شعر الشاعر فوزي عيسى يلحظ أن مصادر التراث التي استرفدها قد تنوعت وتعددت ما بين: مصادر دينية، ومصادر تاريخية، ومصادر أدبية، ومصادر شعبية، وقد كان لهذه المصادر أثر كبير في تعميق تجربته الشعورية، وإرهاف أدواته التعبيرية، ولعل استرفاده الموروث الأدبي بخاصة، واستخدامه له أن يكون قد برز واضحاً في صور تعامله مع التراث، حيث تتجلى طبيعة ارتباط الشاعر بالماضي، ومدى تفاعله معه، وقدرته على توظيفه وتطويره، والإضافة إليه.

بيد أن المتأمل في أشعار الشاعر فوزي عيسى يجد أن خيط التراث الأدبي خيط بارز في نسيج النص الأدبي الشعري عنده، وأنه مكون أصيل من مكوناته؛ فالموروث الأدبي يعد من أكثر المصادر التراثية صلة والتصاقاً بتجربة الشاعر الذاتية ورؤيته الإنسانية، التي وفر له غير قليل من الوسائل والأدوات الفنية الغنية بالطاقات الإيحائية، وكان أكبر عون له على الإبانة عن مواقفه وعواطفه. فلا تكاد تخلو قصيدة له من إحالة إليه، سواء على مستوى الصياغة والتشكيل أو على مستوى الدلالة والرؤية.

ويمكن تفسير رجحان كفة الموروث الأدبي لدى الشاعر فوزي عيسى بالعودة إلى المراحل المبكرة من عمره. فاهتمامه بالتراث الأدبي يرتبط بمحيطه الأسري، إذ كانت مكتبة الأسرة تعج بكتب التراث الأدبي، لاسيما دواوين الشعراء العرب القدماء والمحدثين، فضلا عن الثقافة الأدبية التي تشربها في مختلف مراحل تكوينه اللغوي، "فالموروث الثقافي للأدب العربي يتسرب إلى الشاعر من حيث لا يدرى عن طريق اللغة العربية إلى أرضيته الثقافية، ليتجلى فيما بعد في إنشائه الفردي في نصه الذي ينشئه ـ هذا النص ـ الذي هو في نهاية المطاف حصيلة تراكم النصوص المستوعبة في نفسه " [7] .

ويعد المصدر الأدبي من المصادر التراثية الأساسية التي عكف الشعراء العرب المحدثون على استدعاء عناصر منها يثرون بها تجاربهم ورؤاهم الفكرية المعارضة. فهو النموذج الذي لا بد لأي شاعر لاحق أن يلم به معرفياً؛ حتى يتسنى له إبداع الأدب، إذا أراد لأدبه ولغته النمو والتطور، ولا يخلو أي شعر عظيم في أدب أي أمة من الأمم من هذه الرابطة التي تشد الشاعر إلى " أجداده الشعراء " كما يقول ت. س. إليوت [8]. فضلاً عن كون التراث الأدبي يمثل خلاصة مكثفة لتجارب أجيال من الشعراء والحكماء التي تثري القصيدة المعاصرة بالدلالات والمعاني العميقة، وتوطد العلاقة مع المتلقي الذي يحس بانتماء القصيدة المعاصرة إليه.

ومن يدقق النظر في دواوين الشاعر فوزي عيسى الأربعة، يتبين له أن النص الأدبي يشكل المحور الرئيس في تضمينات الشاعر، فهو الينبوع الأول الذي نهل منه الشاعر نصوصه الغائبة، فالدارس يلحظ كثرة التضمينات الشعرية التي تكاد تستحضر ديوان العرب، وتفسر تجاربهم وأفكارهم وأحاسيسهم. فقد غطى الشاعر في تضميناته مساحة زمنية واسعة، وغاص بها في بحور التراث الأدبي العربي عبر العصور الممتدة من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث، وما زخر به شعره من تضمينات لهذا الزمن الممتد.

وممن وقف عليه الباحث من الشعراء الذين استلهم الشاعر فوزي عيسي أشعارهم نذكر منهم: امرأ القيس وعنترة، وزهير بن أبي سلمى، الشنفرى، والحارث بن أبي حلزة، وعمرو بن معد يكرب ومجنون ليلى، وعمر بن أبى ربيعة، وذو الرمة والعرجي والمتنبي، وأبا العلاء المعرى، ومن شعراء الأندلس مثل: ابن ماء السماء، وولادة بنت المستكفي، والأعمى التطيلي، ولسان الدين بن الخطيب، ومن الشعراء المحدثين إبراهيم ناجي، ونزار قباني، ومن كتاب الرواية العربية عبد الرحمن منيف.

ويبدو أن الشاعر كان مولعاً بالتراث الأدبي ـ قديمه وحديثه ـ فقد قرأ الموروث الأدبي واستوعبه حفظا ومحاكاة، فطفت ثقافته الأدبية على سطح شعره. وقد تطلب تتبع أنواع الموروث الأدبي وأشكال توظيف عناصره ومعطياته، وما تنطوي عليه من مضامين، أن يتناول هذا البحث بالدرس والتحليل تضمين النصوص الأدبية، واستدعاء الشخصيات التراثية، والمعجم الشعري، كما تطلب التنبيه على تداخل وتشابك عناصر الموروث الأدبي ببعض المصادر التراثية الأخرى: كالمصادر التاريخية والدينية الشعبية، حتى ليصعب التمييز أحيانا بين عنصر وآخر.

وقد اقتضت طبيعة الدراسة أن يسلك الباحث منهج التحليل الفني في دراسة الإشارات التراثية في النصوص الأدبية، ويبرز كيفية توظيفه لها، وتعامله معها، وأن ينظر إلى توظيف هذه الإشارات في ضوء "كلية" هذه النصوص، وليس على أساس أنها مجرد إشارات تنتمي إلى التراث، وتوظف نفعياً من جانبه.

وقد قسم الباحث التراث الأدبي في شعره ثلاثة محاور هي: النصوص الأدبية، والشخصيات الأدبية، والمعجم الشعري، وسيتم تناولها بالدرس والتحليل على النحو الآتي:

أولا - توظيف النصوص الأدبية.

يعد التضمين ملمحاً مهماً من ملامح تفاعل النصوص وتداخلها، ويقصد به «تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة أو حديثة شعرا أو نثرا مع نص القصيدة الأصلي، بحيث تكون منسجمة وموظفة ودالة قدر الإمكان على الفكرة التي يطرحها الشاعر» [9].

ومما يجدر ذكره هنا أن الموروث الأدبي للشاعر العربي يشتمل على الشعر العربي من الجاهلية حتى يومنا هذا ونصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والمقولات والأقوال المشهور والمأثورة والأدب الروائي وغيرها، كل ذلك يتسرب من حيث لا يدري عن طريق اللغة العربية إلى أرضيته الثقافية؛ ليتجلى فيما بعد في إنشائه الفردي ، في نصه الذي ينشئه [10].

ولما كان لكل شاعر مصادره الثقافية الخاصة التي تظهر من خلالها النصوص، فإن دارس نص الشاعر فوزي عيسي الشعري يقع في قصائده على مستويين:

أحدهما: التضمين المباشر، وهو أن تضمين النص بلغته التي ورد فيها مثل: تضمين الأشعار والأقوال المأثورة.

والآخر: التضمين غير المباشر، وهو تضمين النص بروحه ومضمونه عن طريق التلميح أو الإشارة أو الرمز.

وقد يبدو الشاعر من خلال توظيفه للنصوص التراثية في هذين المستويين متفقاً مع النص الموروث، أو معارضا له، وأحياناً يكون هناك تشابك وتلاحم مع النص في الدلالة، رغم تباعد المسافات الزمنية بين النصين.وسوف يتناول الباحث هذين المستويين على النحو الآتي:

أ ـ التضمين المباشر:

وهو متنوع يتفاوت بين تضمين أبيات شعرية بتمامها أو شطر بيت شهير من نص شعري أو تضمين جزء من بيت أو استدعاء لمقولة أدبية مشهورة.

تكررت صور هذا النمط من التضمين لدى الشاعر في غير مكان من دواوينه الشعرية، حتى كادت تشكل خاصية من خصائص أسلوبه الشعري، ما صنعه في قصيدة بعنوان «دع الآن ذكر الحمى» حيث جعل المقطع الأول من القصيدة ثلاثة أبيات للشاعر الجاهلي امرئ القيس في بحثه عن ملكه الضائع بعد مقتل أبيه، يقول في المقطع الأول منها يعبر فيها محنته وهوانه [11]:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنَّا لاحقانِ بقيصـــــــــرا

فقلت له: لا تبــــــكِ عينُك، إنـــما

نحاول ملكاً أو نموت فنــــــــعذرا

وكنـا أناساً قبــل غزوة قرمــــــل

ورثنا الغنى والمجد أكبـرَ أكبــرا

وظف الشاعر في هذه القصيدة نص امرئ القيس بتمامه دون تحوير، أو تبديل، وأسقط عليه ملامح تجربته المعاصرة، مستثمراً محور رحلته من أجل استرجاع ملكه الذي ضاع. وقد جاء تضمين الشاعر لأبيات امرئ القيس حاملاً دلالة مزدوجة: دلالة شخصية قائلها من جهة، ودلالة النص وما فيه من طاقات إنسانية وسياسية من جهة أخرى؛ الأمر الذي جعله يحقق بدلالاته «تفاعلاً حراً مع شفرات النص، مما ينتج عنه إثراء وتضميــن لدلالة النص الشعري القديم» [12].

والواقع أن شخصية امرئ القيس من الشخصيات التي حظيت بقدر كبير من اهتمام الشعراء العرب المعاصرين؛ «وذلك لغنى تجربته الأدبية والحياتية، حيث تحول إلى شخصية نموذجية في رحلة الشعر العربي القديم والحديث، إذ استلهم الشعراء أشعاره بأساليب مختلفة ومتعددة» [13].

وفي استدعاء شخصية امرئ القيس يتكئ الشاعر فوزي عيسي على ما تمتلكه هذه الشخصية من قيم عربية أصيلة تتمثل في التغني بالأمجاد والبطولات والمآثر الطيبة الموروثة عن الآباء والأجداد، وقد تعمد الشاعر فصل بيت امرئ القيس الثالث عن بيتيه السابقين؛ للإيحاء بأن هذا البيت هو بؤرة التضمين المقصودة.

ويقول الشاعر في المقطع الثاني من قصيدة «دع الآن ذكر الدمى» [14]:

دع الآن ذكـــــر الدمى

وخل الحنين ولا تبكيـــنْ

ولا تذكرنَّ الزمان البعـيــد

ولا تمدحن ولا تفخـــرنْ

فلن يرجع الحزن ما ضاع منا

ولن يدفع الفخرٌ عنـَّا المحن

فإنَّا نواجهٌ زحف التتــــار

وغدر الصغار ونار الفتـن

بيد أن النص الشعري في المقطع الثاني لم يأت متوافقاً مع دلالة أبيات امرئ القيس، ذلك أن حالة الإنسان العربي المعاصر وما يعانيه من العجز والهزائم المتلاحقة، وما ترتب عليها من جمود وتخلف في هذا الزمان، جعلته في غنى عن التغني بماضي الأمة العربية المزدهر الوضيء، وأن البكاء على ما ضاع من أمجاد الأمة التليدة، لم يعد يجدي شيئاً. وإنما المطلوب للنهوض بالأمة، واستعادة وجهها المشرق هو استثمار ما تمتلكه من قدرة وتصميم؛ لتواجه واقعها الكابي، وتتدارك ما لحق بها من ذل وهوان، وتنبذ التناحر، وتخلى عن المتاجرة بالشعارات الزائفة، فالغزاة والطامعون يتربصون بالأمة من كل جانب.

وإذا كان استدعاء شخصية امرئ القيس، والمفارقة التصويرية هما الأداتان الأساسيتان اللتان استخدمهما الشاعر في تشكيل البناء الفني لقصيدته، فإنه دعم هاتين الأداتين بمجموعة من أدوات الفن الشعري الجزئية من: صور شعرية متناثرة على امتداد القصيدة، واقتباس للآيات القرآنية، وتضمين للنصوص الشعرية، واستدعاء للشخصيات الدينية، والرموز التراثية، واستثمار للقيم الأسلوبية البلاغية، فضلاً عن استخدام أسلوب السخرية القاتم، بيد أن الشاعر يترك هامشاً للخلاص حتى يتمكن من تجاوز هذا الواقع الأليم، في الوقت الذي ينوء فيه كيان الأمة كله منسحقاً تحت وطأة الهزائم والفجائع، وأن يستشرف النصر، ويرهص به في أفق غامت فيه بيارق النصر، حيث يقول في خاتمة قصيدته [15]:

فبادرْ، فهذا زمان الصقــور

ومن لم يصنْ عرضه يمتـهنْ

وحاذرْ، فحولك تعـدو الذئاب

وتسعى الأفاعي، فلا تأمنـنْ

وكن أنت وحدك درعاً وسيفاً

وسدد سهامك لا تجبنـــنْ

فإما أن نكون أسود العريـن

وإما نصيـــر كأن لم نكنْ

وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر قد أشار في هامش الصفحة المعنية إلى نص الشعر الغائب؛ الأمر الذي يومئ إلى أن عملية التضمين ـ على الأقل ـ عملية مقصودة وواعية ذات منظور توظيفي.

وأما عن تضمين الشاعر بيتاً بتمامه، فقد تجلى هذا النمط من التضمين في غير مكان من شعره، حتى كادت تشكل خاصية من خصائص أسلوبه الشعري، ذلك أنه ضمن أربعة عشر بيتاً شعرياً كاملاً في دواوينه الأربعة، ومن هذا القبيل تضمينه بيتاً من أبيات الشاعر المتنبي - التي لفتت بدلالتها أنظار الشعراء العرب المعاصرين فوظفوها في أشعارهم - وهو بيته الشهير الذي يقول فيه [16]:

نامتْ نواطيرُ مصرَ عن ثعالبها

وقد بَشِمْنَ فما تَفْنى العناقيدُ [17]

فقد ضمن الشاعر بيت المتنبي في قصيدته "مكاشفة" التي يخاطب فيها محبوبته وطنه مصر حيث رمز بالنواطير إلى القادة والزعماء القائمين على تسيير الأمور، ورمز بالثعالب إلى المراوغين الذين نهبوا خيرات الأمة، وبددوها وحرموا منها أهلها. إنه يذم النواطير؛ لأنهم ناموا عن ملاحقة الثعالب، وقد جعلهم مشاركين تماما قي الجريمة مع هذه الثعالب.

لقد كان بيت المتنبي المكتنز بالدلالات مادة أساسية بنى عليها الشاعر فكرته المعاصرة، واستمد منها عناصر صورته التي تتمثل ملامحها في رسم صورة للواقع الراهن للأمة العربية. وبعد تضمين هذا البيت يأتي قول الشاعر في قصيدته "مكاشفة" [18]:

والآن يا حبيبتي أراكِ رثة الثياب

هتيــكة الإزار

يشل خطوك الثقيل ما حملته من الأوزار

وخلفك الجياع متعبين.. تائهين

وحولك الحراس نائمين.. متخمين

وعند بابك الثعالب المراوغة

فهل تراك ـ بعد ـ تبصرين.. تحذرين!!

يصور الشاعر في هذه الأسطر أزمة الإنسان العربي المعاصر، ذلك أن أمور الوطن أسندت إلى زعامات قد انغمست في الترف والملذات، فبددت خيراته ومقدراته، في الوقت الذي يعاني فيه أبناء الشعب حياة الشقاء والعوز. وقد عبر الشاعر عن تلك المضامين بإحساس صادق «تمتزج فيه ذات الشاعر بمحبوبته وطنه في حنان وارف الظلال، يتغنى بعذابات الوطن وجراحه، وبأشواقه وطموحاته، ويتشوف معه إلى فجر الخلاص» [19] .

إن رسالة الشاعر تتجسد في هذه الأسطر في تناوله قضايا واقعه وهمومه؛ قصد تعرية هذا الواقع تعرية تكشف مساوئه، انطلاقاً من التزام واضح للشاعر بقضايا أمته وعصره ومسئوليته تجاه وعصره وواقعه بغية التبصير والتحذير.

وقد يضطر الشاعر فوزي عيسى ـ حين يعمد إلى توظيف بيتٍ من الشعر بكامل كيانه ـ إلى اللجوء إلى نوع من التحوير مع النص الغائب، كأن يقوم بحذف بعض مفردات النص؛ لتكون أقدر على إنتاج الدلالة، وأغنى في البوح بتجربته الذاتية ، كما فعل في قصيدته «وهج الأسنة»، التي صور فيها تخاذل الأمة العربية عن نصرة المناضلين وتركهم وحيدين في ساحة الجهاد ، يقول في مطلع القصيدة مخاطبا أحد المجاهدين [20]:

ما دلّهم أحد عليكَ

وأنتَ في الميدان

تلعبُ بالأسنة

تستضئ بنور سيفكَ

والمها ترنو إليكَ

وذهب الذين تحبُّهم

وبقيتَ مثل السيف

يستحضر الشاعر في السطرين الأخيرين بيتاً للشاعر عمرو بن معد يكرب، وفيه يقول [21]:

ذهب الذيــن أحبــهم

وبقيت مثل السيف فردا

للتعبير عن إحساسه بالوحشة والوحدة بعد فقدان الأنيس والنصير، ويجد القارئ أن تجربة الشاعر المعاصر وموقفه النفسي والشعوري يتماهى مع تجربة الشاعر القديم وموفقة في إظهار الحزن على فقدان الأحبة؛ ليرتكز على ما يثيره هذا البيت من أحاسيس ومعان في التعبير عن تجربته الخاصة .

بيد أن النص الحاضر يغاير النص الغائب، إذ أسقط الشاعر المعاصر على تجربته بعداً سياسياً، يتمثل في تخلي الأهل عن مناصرة المجاهدين المناضلين في سبيل تحرير المقدسات وتطهيرها من دنس المحتلين، في زمن العجز والتخاذل العربي، زمن انحسار البطل العربي، وانحسار الكرامة والنخوة العربية.

وجاء حذفه للفظ «فرداً» من البيت الغائب؛ ليعبر عن موقف «الإنسان الوحيد» الذي يشبه السيف؛ دلالةً على الصمود والمضاء والقوة، إذ إن ذكره في النص الحاضر يضعف من قدرته على الإيحاء بالدلالة التي يريد الشاعر أن يبوح بها.

وقد وفق الشاعر في دعم توظيفه للنص الغائب، عن طريق انتقاء الألفاظ التراثية الخصبة بإمكانات الإيحاءات، ووسائل التأثير القادرة على البوح بالجو النفسي والفكري ، وتجسيد صورة المناضل المجاهد في هذا الزمان؛ لتضفي عليه قداسة وأصالة عراقة مثل تعبيرات : "أنت في الميدان، تلعب بالأسنة، نور سيفك، مثل السيف".

وقد يعمد الشاعر في هذا النمط من التضمين إلى اقتباس شطر بيت من نص شعري قديم، ويدخله في تفاعل نصيّ جديد ، وأمثلته عند الشاعر عديدة ، منها تضمينه قول الشاعر المتنبي في مطلع قصيدة " وصف شعب بوَّان " التي عبر فيها عن إحساس الإنسان العربي الغريب الوجه واليد واللسان في بلاد لا ينتمي إليها لساناً ولا يداً ولا وجهاً، حيث يقول [22]:

ولكنًّ الفتي العربَي فيــــــها

غريبٌ الوجِه واليد واللسـانِ

الذي استثمره الشاعر في التعبير عن تجربة الغربة التي تتماهي مع تجربة المتنبي، حيث يقول في قصيدة له بعنوان " الحب والرماد " [23]:

الحب في هذا الزمانْ

غدا غريب الوجه واللسانْ

يبدو كطفل تاه في الزحامْ وصار يبكي كاليتيم غربته

ولم يعد له في أرضنا مكانْ

يعبر الشاعر في هذه الأسطر عن تجربته الذاتية، حيث اتحد النصّ الحاضر مع النص الغائب في التعبير عن الإحسـاس بالغربة، وما يتولد عنها من مشاعر الحزن والضياع والتردد والتوتر. بسبب إفلاس القيم، وسيطرة المادة والآلة على عواطف الناس وعلاقاتهم الإنسانية.

وقد نجح الشاعر في تجاوز التضمين النصي، وحولّه إلى تفاعلٍ، وظف فيه التجربة القديمة، وأعاد خلقها من جديد بما يتناسب وتجربته النفسية. وجاء تصرف الشاعر في تركيب شطر بيت المتنبي موفقاً. حيث حفظ لفظه " اليد " ليستقيم الوزن من جهة، ولكون الاكتفاء بلفظي " الوجه واللسان " أقدر على البوح بمشاعر الحب وأحاسيسه لدى المحبين.

وقد تآزرت وسائل التعبير الفنية المتنوعة من: لغة موحية، وقيم موسيقية غنية، وصور شعرية مترابطة في رسم " صور كلية نامية تقدم مرحلة من المراحل الانفعالية للتجربة العامة، وهي تجربة " الحب والرماد " [24] .

ومن القصائد التي استدعى فيها الشاعر شطر بيت شعري شهير قصيده" خروج " حيث يقول فيها [25] :

تشوهت ملامحي

مُذْ تاه جَدي

واستباح سارقوه كرمتي

(هذا أوان الشد فاشتدي

ولا تتـشـتــتي)

هم باعدوا بيني وبينكِ

صادروا لغتي

أراقوا صبوتي

سملوا بوادي الخوف عيني

ألبسوني في ظلام الليل أطماراً

أباحوا غربتي

تقوم هذه الأسطر على استحضار قول الراجز [26] (24) :

هذا أوان الشدِّ فاشتدي زِيمْ [27]

قد لفَّها الليـــل بِسَّواق حُطِمْ

وقد جاء توظيف هذا الشطر؛ لتصوير واقع الأمة العربية الراهن حيث تشوهت هويتها، واغتصبت أرضها، وحادت عن القيم العربية الأصلية، واتبعت قيماً غير قيمها، وأصبح ضعفها وانحلال عزيمتها يغري بها كل طغاة الأرض.

وللخروج من الوضع الراهن للأمة يرى الشاعر أن هذا الوقت هو أنسب الأوقات للتخلص من الوهن والخوف والتشرذم والتناحر، والاتجاه إلى الوحدة، والأخذ بأسباب القوة والمنعة؛ لكي تستعيد الأمة هويتها ومقدساتها.

حاول الشاعر أن يدخل تغييراً طفيفاً على شطر البيت، فجاء بأسلوب نهى وهو"ولا تتشتتي"واستبدله بحذف لفظة" زيم"؛ لأنها أقوى في الدلالة على الوحدة، وتركيز المعنى وتعميقه؛ وفيها يجد المتلقي تجاوباُ نغمياً مع كلمتي: " الشد ، اشتدي".

استخدام الشاعر تقنية" القطع" الذي يعد شكلاً من أشكال توظيف التراث في نسيج القصيدة العربية الحديثةً، ويقصد بها: قطع نسق الصياغة بمقطع اعتراضي يتضمن إشارة أو حدثاً أو نصاً شعرياً تراثياً. ففي الأسطر السابقة نجد أن النص الغائب قد أحدث قطعاً مفاجئاً، إذ تحول الخطاب من الأسلوب السردي للمتكلم إلى أسلوب الخطاب المباشر، مستخدماً أسلوب التداعي الحر، حيث يتوجه بخطابه الشعري إلى أمته العربية. وما أن تنتهي تلك اللحظة حتى يلتفت فيها الخطاب مرة أخرى إلى أسلوب المتكلم الذي تحاصره الغربة والوحدة والخوف.

ويدرك المتأمل أن لهذه التقنية " قيمة أسلوبية من حيث يتولد فيه اللامنتظر من خلال المنتظر، كما تكون لها قيمتها الإيحائية في توكيد مغزى النسق الصياغي، وتعميق مراميه [28].

وأحياناً يعمد الشاعر إلى تضمين جزء من بيت شعري، ويتم التصرف من خلاله بما ينسجم مع موقفه وغايته، وفيه يترك الشاعر نظام دلالته الخاصة به يتحاور ويتفاعل مع نظام الدلالة الخاص بالقصيدة على نحوٍ يترك بصماته واضحةً على النص الجديد. وأمثلته عند الشاعر عديدة، كما نجد ذلك في قصيدته"طللية" التي نقرا في مقدمتها [29] :

قفا نبك أطلال الأحبة

والوطنْ

رحلوا

فاقوي القلب بعدهمو

وأرقة الشجنْ

يستثمر الشاعر في هذه الأسطر مطلع معلقة امرئ القيس التي يقول فيها [30]:

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فما أن يشدو الشاعر " قفا نبك " حتى نسمع الصدى القادم من أعماق الماضي الغابر، وتتجلى أمامنا صورة الشاعر امرئ القيس، وقد وقف على أطلال المحبوبة، بعد أن فارقت المكان، مستدعياً ذكر أطلال الأحبة، والأوطان التي ضاعت، وسلبت، وشرد أهلها واستوطنها الغرباء، بعد أن جرعوهم كئوس الذل والهوان، وأنه يبكي الأوطان التي قسمتها جراحات التناحر والاقتتال.

وقد استغل الشاعر هذا الجانب من ملامح شخصية امرئ القيس؛ ليصل من خلالها إلى الدلالة التي يسعى إلى البوح بها، وإلى تجسيد رؤيته وموقفه التي يعادل فيها واقع حالنا المعاصر الذي وسم في كثير من الحالات بالتراجع عن مستوى الحضارة التي ارتقت إليها الأمم الأخرى.

ويتفق النص الحاضر مع النص الغائب في اللفظ والدلالة، فإذا كان الشاعر امرؤ القيس يبكي فراق الأحبة وغيابهم، فان الشاعر المعاصر يبكي ماضي الأمة العربية وأمجادها التليدة، وما حققته من منجزات حضارية خالدة من ناحية، ويبكي الواقع الكابي لأمتنا المعاصر، وما آل إليه حالها من ذل وهوان وضعف وتفككٍ، جعلنا أيتاماً على موائد الطامعين في أرضنا ومقدراتنا، حتى غدا شرف الأمة وكرامتها مستباحاً من كل الغرباء، وقد عبر الشاعر عن هذه المفارقة في غير مقطع من مقاطع قصيدته " طللية " حيث يقول [31] :

وطني الذي قد كان ..

صار الآن غانيةً

تبيع وصالَها للروم

والغرباءِ،

تصبغُ وجهَهَا..

ما ضرَّها

أنْ تُستباح وتُمْتَهَنْ!

وقد اختار الشاعر لقصيدته عنواناً هو" طللية " وهذا العنوان يحمل دلالة تراثية خاصة تعكس غاية الشاغر من تضمين النصوص في إطارها الأدبي، وإعادة صياغتها؛ للتعبير عن رؤيته وتجربته؛ ليصل من خلال تضميناته العديدة المتداخلة إلى الدلالة التي يسعى إلى البوح بها، والموقف والرؤية في الواقع السياسي العربي الذي يسعى لربط الحاضر والماضي، " وهكذا يستطيع العنوان إذا اختير بدقة أن ينقلنا منذ البداية إلى عالم النص وأجوائه، وكأنه نص موازٍ للنص الأصلي" [32].

وفي قصيدة أخري يستثمر الشاعر جزءاً من بيت شهير، ويوظفه للبوح ببعد من أبعاد تجربته الشعرية المعاصرة، مستخدما في ذلك أسلوب الاستيحاء العكسي، يقول في قصيدة "هوامش على لامية العرب " [33]:

قيل: والبيدُ؟!

قلت: خلّوا مطيَّكُمْ..

ولا تُقيموا صدوَرها

لم تعد هندُ موطني..

شوَّهتْ وجهَها القبائلُ

ألبستْها عصائبَ الخوفِ

أرضعتها الخرافاتِ

أسكنتها الجحورَ

فاستكانتْ.

استثمر الشاعر في هذه الأسطر مطلع قصيدة الشنفرى التي يقول فيها [34]:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم

فإني إلى قوم سواكم لأميــل

استدعى الشاعر الملامح التراثية لشخصية الشنفرى التي ترمز إلى العزة والإباء ورفض الضيم، فإذا كان الشنفرى قد قرر الرحيل عن ديار قومه والانفصال عنهم، رافضاً بقاءه على الذل والمهانة، فإن الإنسان العربي المعاصر قد ركن إلى البقاء على ما هو عليه من ذل ومهانة وخوف ، فاستكان، ولم يفكر في البحث عن أسباب العزة والكرامة.

وقد وظف الاستيحاء العكسي عن طريق إدخال تحوير مقصود على النص، تحول به إلى نقيض مدلوله التراثي؛ بهدف توليد مفارقة تعبيرية يوظفها لإزالة وضع معاصر مناقض لمدلول النص التراثي، بأسلوب فيه تهكم مرير وسخرية لاذعة، وقد أسقط عليه دلالات معاصرة، تتمثل في إدانة تقاعس الأمة العربية عن اللحاق بركب الأمم المتقدمة، ورفع الجور عن كاهلها، ونزع الخوف من الأعداء من نفوس أبنائها.

ومن الوسائل التي وظفها الشاعر في إضفاء الطابع التراثي على نصوصه الشعرية اقتباسه نصوصاً من القرآن الكريم الذي يتمثل في توظيفه بعض المفردات والعبارات القرآنية، فضلاً عن استلهامه للنظم القرآني, وبناء الجملة القرآنية، يقول في المقطع الأول من قصيدته "ثقوب في ذاكرة النهر" بعنوان: "اشتهاء" [35] :

في البدء كان وابل.. فصيِّب..

فَطًل..

تبرجت حقول الشمس،

أورق الجماد

واخضوضرتْ في راحتي المروج

استلهم الشاعر في هذه الأسطر النص القرآني؛ الذي يتحدث عن الواقع الأليم واللحظة المأزومة التي تمر بها الأمة العربية في الوقت الحاضر؛ في قوله تعالى: )وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( [36] (34)؛ ليذكر من خلاله أمته بماضيها المشرق الوضيء، وبحضارتها الإنسانية القوية، لعله يبعث في عروقها الأمل؛ لتستعيد دورها الحضاري، وتنفض عن نفسها غبار الذل والهوان والتخلف، وتتبوأ مكانتها بين الشعوب الحية، لقد هذا الاقتباس الصورة الشعرية دلالات مشعة ومتشعبة، وفتحت النص على آفاق ممتدة واسعة، وبذلك يصدق على توظيف الشاعر للتراث قول أحد النقاد إن توظيفه للتراث يقوم على فلسفة ذات أركان ثلاثة متعانقة هي : الماضي والحاضر والمستقبل، أما الهدف الفني ، فهو نقد الواقع وكشفه والثورة عليه، والتطلع إلى المستقبل" [37].

إن الدلالة القرآنية في النص الشعري لم تكن دلالة محدودة، بل هي دلالة ذات إيحاءات ممتدة ورحبة شملت البنية الكلية للنص الشعري كله.

ويجد القارئ أن المفردات والعبارات القرآنية تتعانق مع الصور الشعرية البارعة؛ لتنقل تجربة الشاعر الخاصة، وموقفه من واقع الأمة المرير.

وفي قصيدة الغناء في غابات العوسج يتكرر لجوء الشاعر إلى استلهام النص لقرآني: مفرداته وتراكيبه بصفته وسيلة فنية تعين الشاعر على التعبير عن رؤيته الفكرية، وموقفه الشعوري، [38]:

لِمَن الغناء...

وهذه الغابات في آذانها وقرٌ

وفي قسماتها لغة التجهم،

وانبثاق العوسج الممتد في حلقومها

وهي لا تبالي بالغناء

وتنتشي لمصارع الأطيار،

تعشق آهة الغزلان وهي تجود

بالنفس الأخير.

امتص الخطاب الشعري في هذه الأسطر النص القرآني على مستوى الصياغة والتشكيل )وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً( [39]، بعد تخليصه من سياقه الأول، وتوظيفه في سياق جديد؛ ينتج المعنى القرآني مضافاً إليه لوناً مذاقياً جديداً هو إحساس الشاعر بالمرارة والحزن لواقع الأمة العربية الأليم، التي لا تستمع فيه لصرخاته ونصائح المخلصين من أبنائها، وكأن نداءاتهم صرخة في واد؛ الأمر الذي جعل المفردات والتراكيب الشعرية المستمدة من الجو الديني للنص تكتنز بكم هائل من الإيحاءات الخصبة، وقد دعم الشاعر النسق القرآني بالرموز والصور الشعرية والأنساق التعبيرية ذات الدلالات الإيحائية المتنوعة مثل: لمن الغناء؟!، والغابات في آذانها وقرٌ، لغة التجهم، انبثاق العوسج الممتد في حلقومها، مصارع الأطيار، عشق آهات الغزلان، تجود بالنفس الأخير.

وفي مكان آخر يربط الشاعر بين استيحاء المخزون الديني المستمد من النصوص القرآنية والموقف العام للقصيدة، يقول في خاتمة قصيدة " أقوال أخرى ..للحلاج " على لسان الحلاج [40]:

فلتحذروا غضب الجياع فإنها النيران ـ

لا تبقي _ إذا ما الليل طال ـ ولا تذر

أنذرتكم يوماً عبوسا يا بني قومي،

فهل تغني النذر؟!

وظف الشاعر النص القرآني الذي يتحدث عن الطغاة الظلمة من بني قومه الذي ضيعوا حقوق الأمة، تهانوا في استرداد أرضهم قي قوله تعالى: )وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر ً( [41]، وقوله تعالى: )أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود( [42]، وقوله تعالى: )حكمة بالغة فما تغن النذر( [43]؛ ليعبر من خلالها عن موقفه الغاضب على أولئك الحكام الذين وقعوا للعدو على خريطة الوطن ، وإباحتها للذئاب، وقد امتزج هذا الاقتباس للنص القرآني مع شخصية " الحلاج " التي رمز بها الشاعر للغضب والتمرد والثورة على الحكام الظلمة"، إلى جانب أن قافية الراء وهي صوت مرتعش انفجاري ارتعاشي يتماهي مع المشاعر الغاضبة المحتدة التي عكسها النص الشعري، وقد تعمد الشاعر جعل الاقتباس القرآني ختامة لقصيدته ؛ لأنه بهذا الاقتباس القرآني يعكس حدة الغضب وقوة التهديد والوعيد، ويعمق المعنى، ويرسخه في الذهن.

ومن يتأمل استدعاء الشاعر للنصوص القرآنية السابقة، يتبين له أنه لم يكن المقصود من استدعائها إبراز الأحداث المرتبطة دلالياً بها، أو استدعاء الشخصية الدينية التراثية، وإنما الهدف من وراء ذلك الإفادة من النهج القرآني في بناء الجملة والعبارة، وتجسيد صوره الشعرية؛ الأمر الذي يضفي على الخطاب الشعري نوعاً من القداسة والجلال والسمو، ومزيدا من الواقعية وجعلها أشد تأثيراً وأعمق نفوذاً .

وبالإضافة إلى تضمين الشاعر النصوص الشعرية التراثية، وبعض النصوص القرآنية ، فهنالك أقوال ومأثورات نثرية وظفها في شعره؛ لما تنطوي عليه من الدلالة التي تعادل واقعه المعاصر، ولما تكشف عنه من موافق نحن بحاجة إلى استحضارها من أجل شحذ الهمة، وأخذ الحيطة والعظة والعبرة من التاريخ.

ومن هذه المقولات مقولة طارق بن زياد في خطبته عندما هَمَّ بدخول الأندلس، حيث قال : " أيها الناس، أين المفر؟ البحر وراءكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر…" [44].

وقد وظف الشاعر هذه الخطبة في قصيدة " زفرة العربي الأخيرة ": [45]:

هذى خيولُ طارقٍ تعاودُ الصهيلْ

وصوتُهُ يزلزلُ البطاحَ والسهولْ

ـ البحر من ورائكم

وأسهم العدو في صدوركم

وليس ثمَّ غير النصر من بديلْ

هذه الأسطر تشابه في وظيفتها وشكلها عبارة طارق بن زياد مع إدخال بعض التغييرات في مفرداتها، لكنها لا تؤثر في الدلالة الوظيفية.

ومن العبارات المشهورة مقولة الأميرة عائشة أم أبي عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة، قالت لابنها:" ابك مثل النساء على ملك لم تحافظ عليه مثل الرجال" [46].

وقد استحضرها الشاعر مع بعض التغيير في قوله [47]:

ابكِ كما بكتْ من قبلكَ النساء

وهناك من المقولات النثرية التي أصبحت من كثرة دورانها على ألسنة الناس مثلاً شعبياً نظيـر" إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب " وقد حاول الشاعر أن يستخدم هذه المقولة؛ ليعبر عن تجربته الخاصة في مجال الحب، إذ يري أن الحب في هذا الزمان أصبح زيفاُ ونفاقاً؛ الأمر الذي جعل الشاعر يصاب بالسأم والضجر، فلم يعد أمامه من مفر إلا الهروب إلى عالم الصمت، يقول في قصيدة السأم [48]:

هذا زمان الزيف والنفاق

كلامنا نفاق

وعشقنا نفاق

وحزننا نفاق

****

آثرت أن أكون صامتاً

فإن يك الكلام فضة

فالصمت من ذهب

والصمت أولي الخطى

لأصدق الكلم.

والواقع أن هذه المقولة التراثية، لم توظف توظيفاً فنياً، بل إن الهدف من استدعائها قد اقتصر على كونها دليلاً لتوكيد الفكرة وتثبيتها، وهي تعد بذلك صورة من صور استخدام النص التراثي التي يحمل فيها النص دلالته التراثية لا يتعداها.

ومن المعطيات التراثية التي لجأ الشاعر إلى توظيفها كإطار فني لرؤيته المعاصرة فن الرواية، إذ حاول الشاعر أن يستحضر رواية " مدن الملح " للروائي السعودي عبد الرحمن منيف، الذي رسم في خماسيته الملامح الأولي للوجود الأمريكي في العالم العربي، هناك في جزيرة العرب حيث نشأت مدن الملح " مدن النفط " على أنقاض مدن قديمة وواحات رعوية وقد بنيت مدن الملح من الصفيح والأسمنت، وهي مدن هشة غير قادرة على الاحتمال وليست مكاناً طبيعياً لقيام حضارات تستطيع أن تستوعب البشر أو تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل يقول الشاعر في قصيدته " انطباعات عن مدن الملح " معبراً عن الإحساس بالخوف الذي يسيطر على نفوس سكان تلك المدن، ويحيل حياتهم إلى رعب وفزع [49]:

حاصرتني مدائن الملح,

روًعني بصمتها,

موحشاتُ بيوتها

كالقبور

نائمات نساؤها

في الخدور,

كامناتُ أنفاسُها

في الصدور....

النساءُ يُرضعن أولادهن الخوف

حولين كاملين,

والمماليكُ والكُهانُ

عقدين آخرين

ينبجسُ الخوفُ من ظهورهم,

من صُدورهم

من صنابير المياه

في البيوت,

من جًدرانها,

من أجهزة التبريد,

يتمثل تنيناً,

يختالُ على أوجه العسس,

في الطرقات,

والقراطيس,

في غرف النوم,

في بطون الحبالى

حاول الشاعر في هذا النص الحاضر أن يسقط أبعادا من تجربته الذاتية، وأن يستحضر منها ما يتماهى وتجربته الشعورية وموقفه الفكري، حيث عايش التجربة في تلك المدن معايشة واقعية ، إذ قضى فترة من عمره في إحدى تلك مدن الملح.

وفي المقطع الأخير من قصيدته السابقة يقدم الشاعر خلاصة مكثفة لتجربته الذاتية في هذه المدن، مستثمراً نهاية بطل الرواية " متعب الهذال" الذي لم يستطع البقاء والصمود في تلك المدن، فاختفى من النص تماماً، تاركاً البلاد لخرابها، وإن ظل شبحه يحوم في المكان، يقول [50]:

الزمْ دارَك

لا تقربْ مدنَ الملح

فتفقدْ ذاتَك

فالداخلُ فيها مفقودْ

والخارجُ منها مفقودْ

والحق أن الشاعر قد وصل من خلال تضميناته التراثية لنصوص هذه الرواية إلى الدلالة التي يسعى إلى البوح بها والموقف والرؤية التي يريد تجسيدها ونقلها إلى المتلقين.

ومن المعطيات التراثية التي عمد الشاعر إلى توظيفها نصوص نثرية وردت في كتب التراث الأدبي العربي، فقد ضمن مفتتح قصيدته "رؤيا " نصاً من كتاب السيرة النبوية لابن هشام الذي جاء فيه: [51].

".....ثم سار الطفيل بن عمرو الدَّوْسي مع المسلمين إلى اليمامة, فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة, فقال لأصحابه: إني قد رأيت طائراً قد خرج من فمي..وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في بطنها..." [52].

وقد حاول الشاعر أن يستثمر هذه الرؤيا، ويجعل منها بؤرة دلالية يعبر من خلالها عن تجربة شعرية ذاتية ـحمل بعداً من أبعاد رؤيته الشعرية، وموقفه الفكري ، فيقول [53]:

ـ هل ترى ما أرى

ـ ................

ـ تلك جنية شقتِ البحر،

وامتشقت أسمرا

ـ أنجزت وعدها !

ـ إنها الآن تدنو ...

تبصر خليلي ...

ـ وفي ناظريها سهام الكرى ...

ـ تناديك فاحذر.

حاول الشاعر أن يستثمر تلك الرؤيا التراثية، ويوظفها في البوح بتجربته الذاتية، مستثمراً الوسائل التعبير الفنية المساندة من حوار مكثف وسريع ، الأمر الذي يسهم تعميق المعنى، ويمد حركة القصيدة الداخلية بالتوتر الدرامي، فضلاً عن تضمينه أجزاء من أبيات شعرية تراثية دعمت الدلالة ، وأثرت المعنى وأكسبت التجربة أصالة وشمولا وأغنتها بإمكانات الإيحاء والتأثير، مثل تضمينه قول الشاعر عمر بن أبي ربيعة [54]:

ليت هندأ أنجزتنا ما تعد

وشفت قلوبنـا مما تجد

واستدعاء عبارة " تبصر خليلي " وهو جملة تراثية نمطية ترددت في مطالع كثير من الأبيات الشعرية لعدد من الشعراء العرب القدماء، مثل قول الشاعر زهير بن أبي سلمى [55]:

تبصّر خليلي هل ترى من ظعائن

تحملنَّ بالعليــاء من فوق جرثم

ومن صور تضمين النصوص الأدبية عند الشاعر فوزي عيسي استحضاره نصاً شعرياً غائباً، والصدور عنه في النص الشعري الحاضر، كما نجد ذلك في قصائد " مقاطع من رسالة حزينة" و"زفرة الفارس الأخيرة " و"اشتباك".

فالقارئ لنص قصيدته الأولى يلحظ بسهولة حضور قصيدة نزار قباني " اختاري" [56]، وكذا الشأن في نص قصيدته الثانية، إذ يقع فيه القارئ على نص شعري قريب العهد نسبياً هو قصيدة محمود درويش " أحد عشر كوكباً" [57]، أما نصّ قصيدته الأخيرة، فتتبدى فيه ملامح عدة نصوص شعرية تراثية أهمها قصيدة زهير بن أبي سلمي.

ففي المقطع الأول من قصيدة " اشتباك " نجد الشاعر يعبر عن تجربته ذاتية تأملية تذكرنا بتأملات الشاعر وفلسفته في الحياة، وهي توافقها في الوزن والقافية يقول الشاعر [58] :

ولما دخلت الخـدر يومـــاً بمفردي

تكشف بي ما كان من قبــل خافيـا

رأيت الذي ما لم تكن أعيـــن رأت

ولا فاح من عطـر أهاج خياليــــا

ألا ليت شعري هل يـرى الناس ما أرى

من الأمــر أو يبــدو لهم ما بدا ليا

تأبطت سري واختزنت معــــارفي

وسرت شريــد الفكر أرثي لحاليـا

يستثمر الشاعر هنا أجواء النص الذي يعارضه وقد تخلي عن ضوابط المعارضة وأخذ يعيد تشكيلها بما يتما هي وخصوصية تجربته، فهو لا يتتبع المعاني لينسج على منوالها، بل يتما هي وخصوصية تجربته، فهو لا يتتبع المعاني لينسج على منوالها، بل يستثمر تجربة النص المعارض وأفكاره وأحاسيسه؛ لخدمة ما يريد البوح به من قضاياه الشخصية.

وبعد أن انتهى المقطع الأول انتقل الشاعر إلى مقطع آخر يختلف عن سابقه في الوزن والصياغة، وهذا ما يؤكد أن المعارضة هنا لم تكن مقصورة لذاتها، يقول الشاعر [59]:

أية أسرارك تلك المَضنيـهْ

هلا وصلت حبلها بحبليـهْ

حتى أرى ما قد رأيت قبليه

لأستعيــد لحظتي الموليهْ

فإلى جانب المفارقة بين الإطار العمودي للمقطع الأول والإطار الحر للمقطع الثاني يرى المتلقي أن أولهما من وزن الطويل بإيقاعه الجليل ونبراته الرزينة التأملية في حين جاء الثاني من وزن الرجز ذي الطابع النثري، وقافيته المقيدة التي تشي بالأحاسيس والانفعالات المكبوتة التي لم يستطع الشاعر البوح بها، فتجذب صياغة أولهما المتلقي إلى عبق التراث وظروف تجربته، في الوقت الذي يومئ ثانيهما إلى معاصرة الشاعر وخصوصية وسائله وأحوال تجربته الذاتية .

ففي المقطع الأول تضمين صريح من معلقة امرئ القيس التي يقول فيها [60]:

ولما دخلت الحذر خدر عنيزة

قالت لك الويلات إنك مرجلي

وقد استدعى الشاعر البيت الثالث من مقطعه الأول بيتا تاما من أبيات زهير وهو قوله [61]:

ألا ليت شعري هل يري الناس ما أري

من الأمر أو يبـــدو لهم ما بدا ليا

وضمن بيته الأخير ألفاظا وتراكيب استوحاها من بيت الشاعر الأندلسي "يحي الغزال" الذي يقول فيه [62]:

ولما رأيتُ الشربَ أكدتْ سماؤها

تأبطتُ زفي واحتسبــتُ عنائي

من الملاحظ أن الشاعر استدعى النصوص التراثية في المقطع بشكل يكاد يتلاحم تماماً مع بنية النص الحاضر بحيث لا يستطيع القارئ معه أن يفصل بينهما وليس ذلك إلا نتيجة لكثافة الاستدعاء من ناحية وامتزاجه بنسيج الخطاب الشعري من ناحية أخرى.

ب ـ التضمين غير المباشر

تعد الإشارات والتلميحات من التقنيات الفنية في توظيف النص التراثي، وهو يتمثل في استيحاء النص بروحه ومضمونه عن طريق التلميح أو الإشارة أو الرمز، دون التصريح به تصريحاً مباشراً، وإنما يجعله الشاعر كامناً تحت سطح القصيدة " وفي هذه الصورة من صور التوظيف تظل المعطيات التراثية حاضرة في وجدان المتلقي لخلفية تراثية للتجربة المعاصرة خلفية تستدعيها القصيدة دون أن نصرح بها" [63].

وإذا كانت صور تفاعل الشاعر مع النص الأدبي فيما سلف ظاهرةً نسبياً، حيث كانت الصياغة الشعرية تتدخل تدخلاً ما في النص الحاضر، فإن ثمة صوراً أخري يكون فيها هذا التفاعل أكثر خفاء، ويمكن الإشارة هنا على سبيل المثال إلى قول الشاعر في قصيدة " لا تلمني" [64]:

يا رفيقي

طائر الأشواق

ما عاد يغرد

كل ما غناه بالأمس

تلاشى .. وتبدد

أصبح الآن وحيداً

شارد الخطوة مكمد

تائهاً يبحث عن ألفٍ

نسي ما كان أوعد.

يدرك القارئ أن النصّ الغائب الذي يكمن وراء هذه الأبيات هو نص الشاعر"إبراهيم ناجي" في قصيدته "الأطلال". وواضح أن التضمن قد تم على مستوي المعني وتجربة الحب، وعلى مستوي موسيقي الشعر، فضلاً عن أننا نجد لصياغة الشعر أو لغته أثراً في النصّ الحاضر، حيث يكون في مكنة المتلقي أن يستنبطه استنباطاً من إشارات النص وتلميحاته.

ويمكن الإشارة هنا على سبيل المثال إلى قول الشاعر في قصيدة "تحولات الطائر الغريب" [65]:

لم يعد في ثياب الكهولة

يبصر غير انكسار السؤالِ

يحاصرهُ الوقتُ

لا شيءَ ..

غير التقاطِ

الحصى

وافتيالِ الرمالِ،

وسربِ الغرابيبِِ

حول المدى وُقَّعُ..

إن النص الغائب الذي يكمن وراء هذه الأسطر هو قول ذي الرمة [66]:

أخط وأمحو الخط ثُم أُعيده

بكفي والغربان في الدار وُقَّعُ

وقد استحضره الشاعر؛ ليعبر عن تجربة ذاتية ذات أبعاد نفسيه وشعورية تتجسد في إحساس المرء الذي تقدمت به السن، ووصل إلى مرحلة الكهولة بالوحدة والفراغ، وما يتولد عنها من ملل وسأم.

ومن الواضح أن التضمين هنا جاء على صورة من صور الإشارة الصريحة، فلا يزال النص الحاضر يحتوي ألفاظاً صريحة، تدل على النص الغائب مثل: التقاطِ الحصى، افتيالِ الرمالِ، سرب الغرابيب، وُقَّعُ.

وفي مكان آخر يحاول الشاعر أن يستحضر النصوص التراثية مستثمراً أسلوب الإشارات والتلميحات. ناقلاً القارئ إلى أجواء الماضي التي تتناسب وحالته النفسية والفكرية، ففي قصيدة " هوامش على لامية العرب" يقول، [67]:

لم يعد يشغلُ القبائل

أن تلحق بالركب..

آثرتْ أن تهتك الشمسَ

بالحُداءِِ..

أن تشمَ العرار..

أسلمت وجهها

للظلام..

وأرخت سدولها..

ثم.. نامت..

حفلت الأسطر السابقة بأربعة نصوص تراثية مضمنة، سعى الشاعر من خلالها إلى نشر عبق التراث، معتمداً على الإشعاعات التي تحملها الإشارات والإلماحات اللفظية التي توحي بمضمون النص الشعري.

فحين يصور الشاعر واقع الإنسان العربي الراهن وتخلفه عن ترسم خطى الشعوب الناهضة التي تتسارع في سبيل التقدم والبناء فكرياً ومادياً، معتمداً في ذلك على ما له من تاريخ مجيد، وحضارة زاهرة مشرقه، فإنه يوظف بعض المعطيات التراثية توظيفاً عكسياً في صورة تهكم مرير، وسخرية لاذعة، مسقطاً عليها أبعاداً سياسية من أبعاد تجربته المعاصرة، بغية استنفار همم العرب المتقاعسة، واستنهاض عزائمهم الخائرة، فقول الشاعر:

لم يعد يشغل القبائل

أن تلحق بالركب.

مستدعى استدعاء عكسياً من قول الأعشى [68]:

ودع هريرة إن الركب مرتحل

فهل تطيق وداعاً أيها الرجل

وقوله : آثرتْ أن تهتك الشمس بالحٌداء..

مستوحي استيحاء عكسياً من قول بشار بن برد [69]:

إذا ما غضبنا غضبـة مضريــة

هتكنـا حجاب الشمس أو تقطر دما

وقوله: أن تشم العرار ..

مستدعى استدعاء من قول المتنبي [70]:

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

وقوله: أسلمت وجهها للظلام/ وأرخت سدولها " مستوحى من قول امرئ القيس [71]:

وليل كموج البحر أرخي سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبـــتلي

هذا الحشد من الإشارات التراثية التي تضمنها هذا المقطع قد اكسب تجربة الشاعر أصالة وقداسة، وجعلته أكثر التصاقاً وعلوماً بنفس المتلقي " كما يكسب الرؤية الشعرية نوعاً من الشمول، حيث يجعلها تتعدى حدود الزمان والمكان ويتعانق إطارها الماضي مع الحاضر" [72].

وهكذا يتبدى للقارئ أن النص الشعري في هذه القصيدة غدا على حد قول جوليا كريستفيا التي نظرت إلى النص الشعري بوصفه نتاجاً لنصوص سابقة، يعقد معها النص الجديد علاقة تبادل حواري، أو هو كما عرّفته بدقة : لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى " [73]؛ الأمر الذي يجعل من النص بوابة مشرعة على ما أنتجته الحضارة الإنسانية.

ومن الأبيات التراثية التي وظفها الشاعر في شعره بشكل جيد دون الإشارة إليها صراحة مطلع موشح لسان الدين بن الخطيب التي يقول فيها:

جادك الغيث إذا الغيث همى

يا زمان الوصـل بالأندلس

لم يكن وصــلك إلا حلمــا

في الكرى أو خلسة المختلس

فقد استدعى الشاعر مطلع هذا الموشح؛ لأداء وظيفة إيحائية وفق مقتضيات السياق الشعوري والنفسي الذي وظف النص في إطاره، وأسقط عليه بعداً سياسياً من أبعاد تجربته المعاصرة.وأدى رسالته في التبصير والإنارة، إنه يستشرف المستقبل، فهل هناك من يعي؟! إنها زفرة الشاعر الأخيرة. إن سقوط مدينة غرناطة وقبلها مدينة قرطبة بأيدي الفرنجة يعادل في زماننا سقوط القدس الشريف بأيدي اليهود، وبغداد بأيدي القوات الأمريكية، وإن لم تعِ الأمة العربية دروس التاريخ، فإن هناك عواصم أخرى ستسقط بعدهما لا محالة، يقول في قصيدة "زفرة العربي الأخيرة" [74]:

غرناطة هوتْ

كما هوت بالأمس قرطبةْ

وغيرها الكثير من حواضر البلادْ

سحابة عظيمة تمددتْ

وأرعدتْ .. وأبرقتْ

وجادت السماء بالبكاءْ

فقد مضى زمان وصلنا الرطيبْ

وضاع في الزحام صوتها الطروبْ

تلك الفتاة القرطبية المنعمةْ.

لقد تحلل مطلع موشح لسان الدين بن الخطيب في نص الشاعر بما يلائم شعوره بمرارة التاريخ، بعدما انكشف الحجاب مع مرور الزمن عن انهيار أسطورة الماضي التي تحطمت على صخرة الهزيمة الحاضرة، ويحس القارئ من خلال نسيج القصيدة وسياقها أن الشاعر وظفا لإشارة التراثية بطريقة بارعة جعلها تتميز بالتركيز والكثافة والاكتناز ، في الوقت الذي لا يفقدها هذا التركيز القدرة على البوح والإثارة.

وقد أدت البنية الإيقاعية في النص دوراً مهماً في تجسيد تجربة الشاعر، وقد انسجمت مع الإشارات التراثية التي وظفها لتجسيد موقفه من واقع الأمة المرير، فالقافية في المقطع بأسره جاءت قافية مقيدة؛ عكست إحساس الشاعر الداخلي بالكبت والحزن، في حين جاء اختياره قافية التاء المفتوحة المقيدة" هوتْ، تمددتْ، أرعدتْ، أبرقتْ"، والتاء صوت شفوي انفجاري، ولكنه في الوقت ذاته مقيد يشي بمشاعر جياشة وعواطف مكبوتة، وأحاسيس موارة تبحث عن جو مغاير يضمن لها التحرر والانطلاق، فلا تجد لذلك سبيلاً، فترتد إلى أعماق الشاعر؛ ليتولد عنها الحزن والأسى على زمان ضاع وخسرناه.

وصفوة القول: إن تضمين النصوص الأدبية يمثل لدى الشاعر فوزي عيسى ملمحاً فكرياً وجمالياً استطاع من خلاله أن يحول تلك النصوص إلى تجارب شعرية جديدة، والتحمت بنسيجها الفني ومضمونها الفكري التحاماً عضوياً، وتمكّن من التوحد مع التجربة الشعرية المضمنة، وتوظيف أبرز دلالتها، إذ جاء تضمينه للنصوص الأدبية بمختلف أشكالها متجاوزاً التضمين التقليدي؛ ذلك أنه حوّل تلك التضمينات إلى جزءً من تجربته الخاصة، وأسقط عليه أبعاداً سياسية واجتماعية من واقعه المعاصر.

وكشفت الدراسة أيضاً عن علاقة الشاعر" فوزي عيسى" بالتراث، وبينت أهم المصادر التراثية التي استقى منها، وتعامل معها في شعره، وهو التراث الأدبي، وتوصلت إلى أن علاقة الشاعر" فوزي عيسى " بالتراث كانت علاقة وثيقة، فهو ينظر إلى هذا التراث بصفته مصدر إلهام وإيحاء هام، لا غنى للشاعر عنه، وأن هذه العلاقة لا تقوم على المحاكاة أو إعادة إنتاج التراث كما هو، بل تقوم على التفاعل العميق مع عناصره ومعطياته؛ قصد تطويرها، واستغلال طاقاتها وإمكاناتها الفنية؛ للتعبير عن التجربة الشعرية المعاصرة، وإيصال أبعادها النفسية والشعورية إلى المتلقي.

في تجربة فوزي عيسى الشعرية

[1ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس، القسم الأول، المجلد الأول، دار الثقافة، بيروت، 1970 م

[2ابن جني: سر صناعة الإعراب ، دراسة وتحقيق حسن هنداوي، بيروت،1970

[3ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1968م

[4ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1980.

[5ابن الشجري: مختارات ابن الشجري ، تحقيق محمود حسن زناتي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1980

[6ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ابن قتيبة، دار الثقافة، بيروت،ط4،1980 م

[7ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ابن قتيبة، دار الثقافة، بيروت،ط4،1980 م

[8ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت،1994 م

[9ابن هشام :السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا ورفاقه، مطبعة الحلبي، القاهرة، ط2،1955 م

[10أحمد ، فتوح: التشكيل بالموروث في الشعر العربي المعاصر، مجلة شعر، عدد17، أكتوبر 1979م

[11أرسلان، شكيب: خلاصة تاريخ الأندلس إلى سقوط غرناطة، مطابع التبصير، الرباط، 1935م

[12إسماعيل، عز الدين: الشعر العربي المعاصر، ط 3، دار الفكر العربي، القاهرة 1978

[13اصطيف، عبد النبي: خيط التراث في نسيج الشعر العربي الحديث، مجلة فصول، مجلد 5، عدد2 يوليو،1996 م

[14اصطيف، عبد النبي: خيط التراث في نسيج الشعر العربي الحديث، مجلة فصول، مجلد 5، عدد2 يوليو،1996 م

[15الأعشى، ديوان الأعشى، تحقيق عمر فاروق الطباع، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت بدون تاريخ

[16إليوت، ت. س: مقالات في النقد الأدبي، ترجمة لطيفة الزيات، مكتبة الأنجلو المصرية، د. ت

[17امرؤ القيس: ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1958م

[18البياتي، عبد الوهاب، الشاعر العربي المعاصر والتراث مجلة فصول، م1، ع 4، ص 19 ، 1981

[19التوحيدي، أبو حيان : الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة، 1944 م

[20جبور، عبدالنور: المعجم الأدبي، دارالعلم للملايين، بيروت، 1979م

[21درويش، محمود: الأعمال الكاملة، دار العودة، بيروت، مجلد 2،ط1 ،1994

[22ديك الجن :ديوان ديك الجن: عبد السلام بن زغبان، تحقيق أحمد مطلوب وعبد الله الجبوري، دار الثقافة، بيروت، 1964 م

[23ذو الرمة: ديوان ذي الرمة، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1964 م

[24ربابعة، موسى: التناص في نماذج من الشعر العربي الحديث،مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية، الأردن، ط،2000 م

[25زايد ، علي عشري :استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط،1 ،1978 م

[26زايد ، علي عشري: توظيف التراث العربي في شعرنا المعاصر، مجلة فصول، مجلد 1، عدد1،أكتوبر، 1995

[27زايد ، علي عشري: عن بناء القصيدة العربية، مكتبة الشباب، ط 4، القاهرة، 1995 م

[28الزغبي، أحمد: التناص نظرياً وتطبيقياً، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع، الأردن ، ط، 2000 م

[29زهير بن أبي سلمى: ديوان زهير بن أبي سلمى ، تحقيق عمر فاروق الطباع، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، د.ت

[30الزوزني: شرح المعلقات السبع، مكتبة المعارف، بيروت،1983 م

[31عباس، إحسان: اتجاهات الشعر العربي، دار الشروق، بيروت، ط2، 1992 م

[32عصفور، جابر: أقنعة الشعر المعاصر، مجلة فصول، المجلد الأول، العدد الرابع، يوليو، 1981

[33عيسى، فوزي: ديوان أحبك رغم أحزاني: فوزي عيسى، مركز الدلتا للطباعة، الإسكندرية، 1984م

[34عيسى، فوزي: ديوان لدي أقوال أخرى: فوزي عيسى دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية،1990م

[35عيسى، فوزي: ديوان ثقوب في ذاكرة النهر، مركز الدلتا للطباعة، الإسكندرية، 1996م

[36عيسى، فوزي: ديوان لغة بلون الماء: فوزي عيسى، الدار المصرية 1999 م

[37عيسى، فوزي: النص الشعري وآليات القراءة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1997 م

[38عمر بن أبي ربيعة: ديوان عمر بن أبي ربيعة، تحقيق فوزي عطوي،الشركة اللبناني للكتاب والطباعة والنشر والتوزيع، بيروت،1971 م

[39عمرو بن معد يكرب: ديوان عمرو بن معد يكرب، تحقيق مطاع الطرابيشي، دمشق ،مجمع اللغة العربية،1974

[40الفاخوري، حنا: تاريخ الأدب العربي، منشورات المكتبة البوليسية، ط 12، بيروت، 1987

[41قباني، نزار: الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات نزار قباني، ط13، بيروت، 1993 م

[42مجاهد، أحمد : أشكال التناص الشعري، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة، 1998

[43المعري، أبو العلاء ، لزوم ما يلزم، دار صادر، بيروت، 1961 م

[44المتنبي: ديوان المتنبي، تحقيق عبد المنعم خفاجي وآخرون، مكتبة مصر ، القاهرة، 1964

[45المقري : أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهـرة،د. ت

[46المقري: نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس ،دار صادر، بيروت، 1988 م

[47نوفل، يوسف: أصوات النص الشعري، الشركة المصرية العالمية للنشر - لو نجمان، ط أولى، القاهرة، 1995

[48الورقي، سعيد: مقدمة ديوان لدي أقوال أخرى: فوزي عيسى دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية،1990م

[49وهبة، مجدي: معجم مصطلحات الأدب، ، مكتبة لبنان، بيروت، 1974م

[50ابن هشام : السيرة النبوية، القسم الأول ص 385

[51فوزي عيسى:ديوان لغة بلون الماء قصيدة "رؤيا "18

[52عمر بن أبي ربيعة: ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 156

[53زهير بن أبي سلمى: ديوان زهير بن أبي سلمى ص 66

[54نزار قباني: الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات نزار قباني، ط13، بيروت 1993 م ص 460.

[55محمود درويش: الأعمال الشعرية، دار العودة ، بيروت،ط4 ،1994 م ،مجلد،2 ص 473

[56السابق ص86

[57زهير بن أبي سلمى: ديوان زهير بن أبي سلمى ص 89

[58امرؤ القيس: ديوان امرئ القيس 115

[59زهير بن أبي سلمى: ديوان زهير بن أبي سلمى ص 89

[60المقري: نفح الطيب ج 2 ص 205

[61علي عشري زايد : توظيف التراث العربي في شعرنا المعاصر،ص 111

[62فوزي عيسى: ديوان أحبك رغم أحزاني قصيدة "لا تلمني" ص 43

[63فوزي عيسى:ديوان لغة بلون الماء قصيدة " تحولات الطائر الغريب ص 50

[64ذو الرمة: ديوان ذي الرمة ص89

[65فوزي عيسى: ديوان ثقوب في ذاكرة النهر قصيدة " هوامش على لامية العرب" ص

[66[الأعشى: ديوان الأعشى ص56

[67أبو فرج الأصفهاني: الأغاني، دار الكتب المصرية، القاهرة، ج 3ص 162.

[68ديوان المتنبي ص39

[69امرؤ القيس: ديوان امرئ القيس ص 78

[70علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية ص 137

[71شربل داغر ـ التناص سبيلا إلى دراسة النص الشعري وغيره، مجلة فصول ،مجلد 16 ، عدد 1 ـ 1997 ص 127.

[72المقري: أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض: طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة. ج 2 ص 213.

[73فوزي عيسى: ديوان لغة بلون الماء، قصيدة زفرة العربي الأخيرة ص 72،73


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى