الخميس ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم أسمى وزوز

عناق حزين

لم تكن فجيعتي بك منذ خمسة وعشرين عاما قد غيّرت في عمقي شيئا من إحساسي نحوك ، لأننا حين نُفجع في مشاعرنا اتجاه شخص لا يعني ذلك أنه لم يعد في الذاكرة بعد أن احتل كل ركن فيها .

هذا ما كان حقاً عندما التقيت بك ذلك اللقاء الدافئ الذي أشجاني بعد أعوام من البعد والحرمان . وكانت ساعاته وميض برق خلاب بعد أمل بات يائسا من أن يكون هناك لقاء بيننا بعد الخيبة التي فرّقتنا.

حقا كنت أراك كل عام أو عامين لساعة أو ربما أكثر في ظل واقع فرض علينا الاستسلام والإذعان لحماقتك التي أتاهتنا عمراً أضنانا وأرهقنا، وما برئت جراحنا طوال هذه السنوات التي كان كل ما فيها يستوقفنا ويُبكينا ويبعث الحنين في قلبينا، يهاتفنا: أن قفا واحضنا الذكريات ، فهنا كنتم، وهناك مشيتم ، وفي كل بقعة لكم ذكرى حنين .

وأصبح كل منا سائرا في طريق ، لا أعرف إن كانت طريقك وعرة وشائكة كطريقي ، أم سالكة ممراتها لعبورك فيها ، فلم يكن بُعدك عني بالشيء المحتمل ، بل كانت الهزيمة تلاحقني لكي تجردني وتعرّيني من الصبر ، ولولا الكتابة ما استطعت تحمّل ألم الحرمان منك ، فكنتَ الجلاد وكانت هي العزاء.

كثيرا ما قلتُها لك : بأنك قدري ولا مهرب من ذلك ، ولو كان الزمن ناطقا لاعترف بكل الحماقات التي نرتكبها حين نحب، ويكون دافعها الجنون والوفاء لإنسان استوطن داخلنا وما استطاعت ريح الحزن انتزاعه ولا ضبابية الألم إتاهته عن كل ركن في الذاكرة.

هكذا كنت أنت ، وهكذا كان جنوني بك، فالعمر بدأ بك وربما ينتهي على صدرك بدمعة الموت.

ربما يكون القدر قد تواطأ معنا في ربيع هذه السنة التي أخذنا نسلب فيها من الزمن حقنا في الحياة والحب والدفء، وقد كان كل منا يحمل في سراديب ذاكرته الكثير من حميميات الذكريات ، من سنين تعمقت مع أخاديد الزمن ، وحفرت أنفاقا سرية فيها، ولا مناص لأي منا إلاّ العبور فيها يوميا ، وبعدما يحتّم علينا الخروج منها ونصطدم بصخور الواقع تأخذنا الحيرة والضياع .

عشرون عاما وأنت تحتل عمقي! جاريت الواقع وكنت معتقدة نسيانك لي ، ولكن بذلك اللقاء ذوّبت كل الظنون التي كانت تجتاح ذاكرتي .

أذكر عندما كنت ألتقي بك لقاءاتي العابرة التي كانت تأتي ربما مصادفةً، أو بتخطيط عابر، وكان كل منا كغريب يطأ أرضا لا يعلم عنها شيئا، سلامنا سلام الغرباء، و كل منا يرمق الآخر بعيون حزينة، حيارى نجتمع على مأدُبة الواقع، وكل منا بطل لمسرحية هزيلة يمثل دوراً ليس له، وبعد أن تنتهي أدوارنا على خشبة مسرح اسمه الواقع ، تحتلّ ذاكرتنا الآلام على ماض لم يجرؤ حتى الوقوف معنا لحظة ، كم كانت هذه اللقاءات تترك في العمق غصّة وحسرة .

بقينا أعواما نتغيّب عن ذاتنا، ونتغرب عن ذاكرتنا، إلى أن كان لقائي بك على رصيف مقهى يبدو أنك اعتدت شرب قهوتك فيه منذ وقت ليس بالقصير ،فأخذت تسألني :
ما آخر أخبارك ؟
أي أخبار تريد ؟
التي تودين إعلامي بها ؟
كانت طريقتك في الدخول إلى أعماقي ذكية، وغالبا ما تدخل إلى سراديب ذاكرتي بطريقة لا أستطيع مقاومتها .

أخبرتك ما رغبت إعلامك به : انهزاماتي وانتصاراتي، مع أني كنت عازمة على أن تراني بعيون الماضي لا بعيون الحاضر ورغم ذلك أحسست بفرحتك الغامرة وأنت تقرؤني وتخبرني عن إنجازاتي في الصحف والمجلات من تقارير ومقالات وأدبيات وقلت لك بعفوية : هل تقرأ أشعاري التي تنشرها الصحف ؟
 أجل أذكر كل شيء ولا أنسى حرقتها وحزنها ، ولا أنسى لوعتي وأنا أقرؤك فيها .

طال الحوار يومها حتى شعرت أنك أقرب لي من كل اللقاءات الماضية .
وسألتك عن روايات كنت تقرؤها ، فذكرتَ لي الكثير مما أفاض داخلي لهفة لقراءتها وقلت لي بإمكانك زيارتي في البيت، والاطّلاع عليها، فهي في البيت القديم في بيت لحم . ربما تأتين في أي يوم وتختارين كل ما تريدين .

لم يأت في خاطري أنّ هذا اللقاء سيكون منعطفاً يغيّر طريقنا معا ، ومحطةَ نضع فيها أثقال الماضي، وننفض غباره المتراكم فينا منذ أعوام ، وودعتني على أن نلتقي بعد أسبوع في مكتبتك .

كثيرٌ من الأحاسيس انتابتني ، وأسئلة كثيرة اجتاحت ذاكرتي ، دوارٌ كدوار البحر يأخذني من خيبات الواقع وثقله إلى محطات الماضي الجميل الذي عشناه معا ، وذاكرتي الممتلئة بغبار الزمن الذي أثقلني وأتاهني بغربته وضبابيته التي غيّرت عناوين كثيرة في حياتي وأشدّها حزنا وضياعا كان بُعدك عني .

مرّ اليوم الأول وكان ثقيلا ، أسئلةُ كثيرة ٌتجتاحني، لأول مرة سنلتقي وحدنا بعد سنين من البرد والصقيع والغربة، ففي كل مرة كنت أراك فيها يكون الكثير من حولنا، وبالطبع هم فضوليون يجعلونك متحفظاً في كل كلمة ، لا تتحدث إلا ما يرغبون، وأنا أكتفي بأن أراك .

رغماً عني كنتُ أتظاهر أمامك بالرضى ، لكن ذاكرتي تدخلني في عتمة الرفض، وكنتُ في كثير من اللّقاءات أودّ أن أقول لك لا يمكن لحب أن يموت في يوم من الأيام، ولا يمكن له أن يتحوّل إلى صداقة في لحظة من اللحظات .

كنت تتهرب، أشعر بك كلما كانت تلتقي عيناك بعيني، تهرب بهما بعيدا لتبدوَ أمامي بمظهر البطل الذي لسان حاله يقول : لا جدوى من ماض رحل وحمل حقائبه من زمن بعيد ، ولا أمل لنا في حب أثقل الأعوام وأشجاها .
كل هذا آلمني وأدخلني في عُمق خيبتي معك، ولكنني في مرحلة انتظار يوم لقائك شرعت بأن أتحرر ولو قليلا من ظنون كثيرة تملكتني بأن تغيّر بمزاجيتك موعدنا أو تلغيه .

كم قلت لك أحبك دون تلك المزاجيّة التي كثيراً ما تقلقني في إلغائك لمواعيد كثيرة ، أو تؤخرك عن مواعيد بيننا ، وفي كل الأحوال هي لا تتناسب مع شخصيتك الجذابة ولكني اليوم كنت إيجابية اتجاهها ، وحاولت أن لا أشرع نافذتي لأطلّ على ما بعد غد، وأخذت نفساً عميقاً لاستقبالي اللحظة التي تلي ما بعد الانتظار لموعدك في بيتك ومكتبتك التي احتوتك في سنين غربتك وضياعك عني ، كنت بحاجة إلى أن أحدثك عن عذاباتي طوال السنين التي ا فترقنا فيها ، بحاجة لأن أبكيك وتبكيني، قد آن لك أن تسمع آهاتي التي صاحبتني عمراً عبر غربتك عني .

وانتهى اليوم دون أن يرنّ جرس هاتفي ، فحدّثتني نفسي بأنك ما زلت على موعدنا .

وكانت حنين صديقتنا التي وُلد وجودها معنا يوم تعرفت عليك في ذلك المقهى الذي تميّز بلذة فنجان القهوة فيه ، وأصبحت علاقتها حميمية بك رغم معرفتي بها من عامين فقط ، ولكنها كانت كالغواص الماهر الذي احترف سرعة الغوص في الأعماق ، كان انتظارها للقائي بك مقلقا ومشجيا، وذلك لأنها حملت معي ألم حرماني منك وعذاباتي معك.

أذكر يوم بُحت لها بسرّنا وعرّفتها بقصتنا، كان في يوم ضبابي يثير المشاعر ويلهبها، وقد كنا نتمشى معا في طرقات المدينة، سألتني عن قصة أنت بطلها ، فشعرت بمتعة كبيرة وفرحة ينتابها حزن، وأنا أتحدث لها عنك ، فأنت المغامر الذي تحديّت السطور لتكون صاحب قصة أخذت عمري كله .

يومها كنتَ حاضرا في عمق ذاتي، مستحضرةً ماضيك المحتل ذاكرتي ،- ومن قال أنك غبت يوما منها؟- ولكنّ هذا اليوم كان الضباب يأخذني إليك ،ويعيدك إلي. وبعمق سألتني حنين ؟
منذ متى استوطن ذاتك؟
 لا تقولي منذ متى؟ لأنه كان أول من عرفت، ؟
 وكيف كان ذلك ؟
 منذ طفولتي وصباي الذي بدأ به ومعه.

 وكل تلك السنين التي عمرت قلبيكما بالحب ، لماذا تركتكما على مفترق الآلام ؟
 لست أدري ؟ هل هي حماقة الغدر ؟ أم واقعه المؤلم بعد خروجه من السجن وقد أحسّ بأن كثيراً من العمر فات، ولن يستطيع اللحاق به، بعدما أعطب السجن والوطن أحلامه وآماله . لم يكن يعلم الوطن أنّ حبه وعشقه لي مستمدٌ من حب هذه الأرض، ولكن ماذا نفعل ؟ كثير من الأشواك تنبت في طريقنا دون إرادتنا.

كيف كانت البداية ؟
 منذ كنا أطفالاً . حيث كان يسكن في حيّ قريب من حيّنا وكبرنا، وكبر حبنا .
ففي ذات يوم أعطاني مذكراته الخاصة لأطّلع عليها، وكانت تحوي قصائد نظمها لتبوح بعشقه لي ، وكان عمره آنذاك خمسة عشر عاماً ، وكان هذا أول مكان التقت قلوبنا فيه عبر درب طويل، وأنا كذاك كنت أميل إليه وأشعر بتميزه عن غيره، في كل شيء : بهدوئه ومشيته المنتصبة وعيونه التي تحمل كل ما بداخله ، وثقافته وقراءاته ، كل شيء فيه ينطق بالإحساس .

 والأعوام التي بينكما أين ذهبت ؟
 أعوام من العشق وإخلاص لا حدود له ، حب تعمّق في ذات كل منا ، وقد أحبني بجنون وأحببته بذلك الجنون وافترقنا كذلك بجنون .

 افترقتم ؟ بعد كل هذه الأعوام الجنونيّة التي بينكما ؟
 نعم المحطة التي كانت فيها خيباتي وكل انهزاماتي! صحيح تبدّلت المحطات كلها
وتغيرت ملامح الزمان والوجوه، ولكنه بقي معي رغم كل شيء ، كما هو معي الآن طيفا وروحا لا جسدا.

لم تستطع حنين أن تسمع أكثر من هذا ، فقد أجهشت بالبكاء وغاب صوتها المتقطع بحزن دموعها ، فقد أضحت المركب الذي يضم قلبينا وينقلنا في ذلك البحر المتلاطم من مرفأ إلى مرفأ .

وكانت هي القلب الأول الذي حمل جراحنا وخيبتنا، ودخل إلى سراديب ذاكرتنا ، فلم يكن سهلا عليك بعد عشرين عاما أن يدخل أحد أنفاق ذاكرتك ولكنها استطاعت . ربما لأنها تتميز بخفة ظل وبراعة في الحديث ، وتنقلك من مكان إلى مكان وهي تتحدث إليك . وربما لأنها تملك قلبا واسعا وحنونا فهي صديقة في زمن صعُب فيه اختيار الصديق . كم أحبها! فهي لا تجعل لك اختياراً آخر .

عندما سألََتكَ يوم لقائنا في المقهى : ما الذي غيّرك يا هيثم بعد خروجك من السجن عن حبيبتك ؟

لم تستطع الإجابة يومها ، لأنه أصبح لديك قناعة بعد كل تلك السنوات أن كل أعذارك التي قدمتها لي هي ضعفٌ وخيبة وعطبٌ نفسيّ أقنعت نفسك فيه لترحل بعيدا عن درب سرنا فيه، وعشتَ بعدها سنوات طويلة بعذابات الضمير وعذابات النسيان . ولكنك عرّفتني بها بعد فوات الأوان ..!

كم كنت محتاجاً بعد كل هذه الأعوام إلى من يبحث عنك في ذاتك وفي عمق ذاتي كذلك ، ربما لأننا منهكون من المسافات التي تُهنا فيها وكل منا يحتاج لمن يداوي جراحه. وكانت صديقتنا حنين حقا خير مداو لجراحنا .

هذا اليوم أحسست بالضجر ، صباحه كان مملاً ، والوقت يمر بطيئا ، كنت جالسة على مكتبي المكدس بالأوراق والكتب والمجلات ، فالعمل الصحفي يغرقك بالأوراق وكانت حنين تعمل معي في القسم ذاته، كاتبة صحفية، وقد أثقلها الانتظار لموعد لقائي بك، وأظهرت لي تخوّفها من مزاجيّتك، وكلما غابت بعض الوقت تسألني إن كنتَ قد اتصلت بي أم لا ؟ وبعد غياب ساعة، جاءت مسرعة، وأخبرتني بلهجة لم أعهدها من قبل قائلة:
 جوى . عندي خبر حاولي أن تحتمليه ولا تحزني . إنّ هيثم اتصل بي وأخبرني أنه اضطر إلى إلغاء الموعد الذي بينكما .
 كنت متوقعة ذلك .
أشعرتها أني غير مكترثة، وببرود كاذب قلت : ربما يكون ذلك أفضل .
تعمقتني بنظراتها وضحكت وقالت : كذبة نيسان يا جوى .
 كذبة نيسان! استفزتني حنين بتلك الكذبة، أذهلتيني وتقولين كذبة نيسان؟ وهل نيسان المسكين بربيعه ونسماته يحتاج إلى كذبة، كم تقهرني تلك الطقوس .

ضمتني إليها واعتذرت لي. وهكذا مر اليوم بصباحه الضَجر وبكذبة نيسان ، آه! حتى الأشهر صارت تكذب .

اليوم الخميس، عادةً تكون صباحاته مثقلةٌ بالعمل والاتصالات وأجندة ملأى بالمواعيد واللقاءات ولكني حاولت أن أتعايش معه لأحتضن دفء مساءا ته التي تشعرني بالحميمية وأنا بين كتبي ورواياتي وأوراقي وأقلامي .

وجاء المساء، كان لا بد من الاتصال بك لتأكيد الموعد والساعة التي نلتقي بها ، حاولت أن أكون هادئة حتى لا تلحظ اضطرابي .
مرحبا. هل سنلتقي غدا كما اتفقنا ؟
وهل حصل شيء حتى نلغي الموعد ؟
 لا .
تفاجأت من ردّك ! شعرت بارتياح بدّد مخاوفي وظنوني وحاولت الاختصار معك، لأن ما يهمني الآن تحديد الوقت .

 الساعة الثامنة صباحا سأنتظرك في البيت .
 حسنا ، وما العنوان ؟
 شارع المهد، المفترق الثاني، عمارة 1 الطابق الثاني .
 أراك بخير .

أخذت أرسم المكان في ذاكرتي في المدينة التي سكنتك سنوات بعد فراقنا، وأسكنتني فيها بعمق ذاكرتك في شقة عزلتك ووحدتك إلا من الذكريات. وقضيت الليل في عزلتي وأنا أحادث نفسي: بعد كل تلك السنين من الغربة التي عوت في أجسادنا سنلتقي ؟!

هربت إلى سراديب ذاكرتي التي احتوتك أعواما وأعواما ، أدخل سرداباً سرداباً ، وأنت في كل مكان تستوطنني، وجدتك صبيا تلاعبني بالكرة تارة وبالثلج تارة، وبالركض والمشي فوق الجدران تارة أخرى، وجدتك عاشقاَ متيّما أدرك أعوام العشق واهبا ذوب روحه لحبيبته .
ووجدتك مناضلا عشق الوطن الذي عذبك جرحه بين سجن ومنفىً وليال في العراء لا تعرف راحة ولا هدوءاً حتى قطّع أوصالك وأعطب أحلامك .
وجدتك مودعا لي بعد سنين من العشق ومفارقا لحب لم يقدّر له أن يرى النور .
ورأيتك الراحل الحامل حقائب الذكرى على كتفين متعبين متعثراً تحمل ذنب خيانتك لي و الذي طالما أرّقك طويلا. رأيتك ووجدتك في كل تلك السراديب، لكن لم أجدك بعد الرحيل الذي غيّبك عني، بحثت عنك ولم أجدك .

آه ، عزلتي كبُرت ، لا بدّ أن أخرج منها وألجأ إلى فراشي لأستعد للقائك في الصباح . أدخلت نفسي في الفراش بأحاسيس كلما حاولت تنويمها أيقظتني ولكن استرحمت النوم أن يغالبها، وأخذت أغمض جفوني إلا عن طيفك حتى أخذني النوم .

ها هي أشعة الشمس بخيوطها التي تتسلل عبر نافذتي ، كم كانت تستفزني في صباحات كثيرة، لكنها اليوم تحمل لي دفئا وحنينا .

نهضت من فراشي وفتحت النافذة، تأملت زرقة السماء التي تتبعثر فيها غيوم صغيرة وخرجت إلى شرفتي وعبير أزهارها يعبق بالمكان . استهوتني منتورة فيروز البنفسجية لأقطفها إليك. لم أستطع مقاومة عشقي للمنتور ولا لفيروز .

مارست طقوسي الصباحية بسرعة أكبر من المعتاد، كان لا بدّ من مسابقة الزمن هذا اليوم، قاربت الساعة على السابعة، فتحت خزانة ملابسي وتأمّلتها كيف سأكون اليوم معك؟ وكيف ستراني؟ بأيّ مظهر تحبّ أن أكون؟ إلى أن اخترت الفستان الأسود الذي كان يحمل حزني على بعدك، واليوم اخترتُه يعيش فرحة لقائي بك.

حملت حقيبتي ومنتورة فيروز ورواية كتبتها في سنوات البرد والصقيع وكنت أنت بطلها.
وأثناء سيري أخذت أحادث نيسان: فيك يا نيسان كانت بدايتي مع الحياة، وفيك بدأت رحلتي مع هيثم، وفيك يا نيسان فقدتُه عندما سجن، وفيك التقيت به بعد غياب سنوات ، وفيك كان الفراق، وها أنذا فيك سألتقي به بعد خمسة وعشرين عاما! ما قصّتي معك يا نيسان ؟

وصلت المرآب، وكانت نسمات نيسان تلامس وجهي وشعري، ركبت السيارة ، لم أدرك معالمها ولا من فيها، كل ما كان يشغلني هو أنت، لم تكن عندي شهية للقراءة شهيتي كانت لرؤيتك فقط ، استأذنت روايتي أن أعيش مع طيفك فقط.

وصلت مدينة بيت لحم بذاكرة ممتلئة بك، وأخذت أسترجع صوتك وأنت تصف لي الطريق، سرت على بعد أمتار حتى تراءى لي شارع المهد، بدأت ضربات قلبي تتزايد أريد أن أركض، أصرخ، أضحك، أبكي، أو أكون طفلة .

وقفت عند المفترق الثاني، فإذا بالسور الذي يحيط ببيتك وتغطيه شجرة ورد كبيرة بنفسجية اللون، تمدّ أغصانها على كل ناحية فيه، وباب عريض مقفل، حاولت فتحه فلم أستطع، وكان لا بد من الاتصال بك، فإذا بهاتفك مغلق، حينها انتابني شعور بالخوف، بالمقت ، بتبدد الأحلام، هذه إشارة، كثير من الأشياء تعطيك إشارات بحدوثها بعد برهة من الزمن، ربما لا يأتي، ولكن وصولي بالوقت المحدد كان كافيا لأن يخيفني أكثر.

وبينما أنا بظنوني تلك، إذا بصبيّ يمر في الطريق، فطلبت منه مساعدتي في فتح الباب وصعد فوق السور، وعندما فتح الباب شعرت ببعض الانفراج، فأنا أكره تلك الأبواب المغلقة العالية الضخمة التي تشعرني بانغلاق الحياة خلفها .

فدخلت مسربا فيه حشائشُ وورودٌ وأشجارٌ صغيرةٌ وشجرةٌ بنفسجيةٌ وارفة الظلال تغطي السور من الخارج والداخل، فإذا بعجوز تخرج مرحبة بي، فسألتها عنك؟ فأخبرتني بحضورك بعض قليل حسب اتفاق معها، وفهمت منها أنها جارتك وقد ربطتك بها علاقة ودّيّة.

رحبت بي وأدخلتني إلى حجرة الجلوس التي تدلّ على فقر ووحدة وعزلة، تأملت الحجرة وهي تجلس جانبي مشعلة سيجارتها، وأخذت تروي لي اتصالك بالأمس معها وأنك من فترة لم تحضر إلى البيت بسبب مشاغلك في الأردن، حاولت أن أستمع إليها دون أن أتحدث فقد كنت مرتبكة، وكل ما في داخلي يُستفز، أترقّب بخوف عقارب الساعة .

استأذنت مني لتعدََّ لي فنجان قهوة، وحتى تلك اللحظة لم أكن أعلم سبب تأخيرك.

اتصلتُ بصديقتي حنين التي حاولت تهدئتي، وبينما أنا في عباب هذه الفوضى من المشاعر والأحاسيس، فإذا بصوتك اللاهث المتقطع يهاتفني معتذراً عن التأخير، وتطلب مني الانتظار عند العجوز، وستصل بعد نصف ساعة.

كنت أعلم أن نصف ساعتك تربو وتزيد، والطريق الواحد عندك طرقات، كان هذا ما يزعجني فيك، ورغم ذلك هدّأت نفسي .

وجاءت العجوز بفنجانين من القهوة ، وأخذت تقصّ عليّ حياتها وموت زوجها تاركا لها ولدين، الكبير يعمل في الدّير والآخر في حانوت بمدينة القدس، وحدثتني عن عوزها، وعذابات الفقر بعد موت زوجها وأنا أستمع إليها، لم تسألني إلا عن اسمي وعملي .

في هذه اللحظة استوقفتني شهية الصمت، واقترحت عليها أن تكمل عملها في البيت .

وأخذت أتأمل جدران الحجرة ، صورة لزوجها على جدار، وعلى جدار آخر صورة للعذراء وعيسى عليهما السلام .
لم أشرب القهوة، اكتفيت بلذة الصمت، وما أن وصل عقارب الساعة على العاشرة حتى سمعت الباب الخارجي يفتح، فإذا بك تأتي، من بعيد تأتي، بقامتك المعتدلة ، بكتفيك المسنودين، بشعرك القصير المرتب، بلباسك الجميل، قميص رمادي وبنطال أسود، جاءتك العجوز مصافحة إياك عند باب مطبخها، وأنا أتأملك بشوق ولهفة وحنين احتضنتني عيناك، أشعلتني بوجد ، اقتربت مني، تأملتني بعينيك الحزينتين وناجيتني بصوت مفعم بالشوق والفقدان، وهتفت : كم أشتاق إليك، وعانقتكَ عيناي زمنا ودهراً في لحظات .

اشرب قهوتك يا ولدي، بهذه القهوة أفاقتنا العجوز من احتضان عيوننا وقلبينا وأرواحنا وأخذتَ تشربُ فنجاني الذي انتظرك مثلي .
شربتَه بارداً لانتظاره وتوتره مثلي، وأخذتَ تسألني عن أخباري حتى يكون كل شيء عادياً ، فالأيام التي افترقنا فيها علّمتك الكثير، علّمتك كيف تخرجُ من المواقف وتروّضها مثلما تريد، لم أكن أنا بعد قد تعلّمت هذا الشيء، وبعد جلوسنا بعض الوقت مع العجوز محدثا إياها عن أخبار العمل، ومشاغلك التي لا تنتهي، وأنا صامتة انتزعتَني من شرودي، واستأذنتَ منها، لنذهبَ إلى شقتك، فكم كنتَ حذراً لأن لا تلفت انتباهها لأي تفكير، وخرجنا مودّعين شاكرين لها حُسن استقبالها.

وسرنا معا بعض خطوات، وكان أول ما قابلنا سلّم ليس بالطويل وإنما بالضيق ، مما اضطرني إلى أن أصعد قبلك وأنت ورائي ، حتى وصلنا باب شقتك، فأخرجتَ المفتاح من جيبك وفتحت الباب، كم كنتَ حزيناً بصمت، ومبتسما بحيرة وعمق ألم، شعرت ُ بخيبات الزمن التي حرمتنا من أن يكون هذا البيت في يوم مرفأً وحضناً دافئا لنا، آه يا هيثم! كم مسّنا بَردُ الغربة بعد فراقنا.

ودخلنا البيت، حجرة صغيرة فيها أريكة عريضة، وطاولة تتوسط الحجرة، ومكتبة تزخر بالكتب القديمة والحديثة، روايات ودواوين شعر هي أول ما نهب نظري، أخذت أتأمل في كل ناحية في الحجرة، وأقرؤك في كل شيء فيها، فوضعت حقيبتي على الأريكة، وما أن التفت إليك حتى تأملتني تأمل العائد من خلف جسور الأزمان، ولحظات فإذا بك تضمني إلى صدرك، وأغرقتني بدموعك التي احتضنتها عيناك منذ سنين، ووضعت رأسي على صدرك بعد أعوام من الغربة، وأنت تحضنني بيديك الدافئة وحنوّ صدرك، وحنينك الكبير، بأنفاسك ودفء قلبك ودموعك وتنهداتك، لم أستطع منع نفسي من البكاء في أدفأ لحظة عشتها منذ خمسة وعشرين عاما، حقا بردٌ وصقيعُ جمّدَ أوصالي وأنا بعيدة عنك، وبكيت وأخذت تجفف دمعي بكثير من الحزن والندم ، وهمستَ في أذني: لم يتغير بك شيء، شعرُكِ ولمسة يديكِ وأنفاسك، كما أنتِ بعد كلّ هذا الفراق يا جوى
شعرت أنك أنت كما كنتَ بروحكَ وقلبكَ وإحساسك، وأمسكتَ بيديّ، من زمن طويل لم تلتق أيدينا فقد أمحل طراوتَها ريحُ الغربة وصقيعُها

وجلسنا على الأريكة ، كل منّا يتأمل الآخر ويقرأ ذاته ويتعمق في أنفاق ذاكرته، آه ما أحمق الزمن الذي أتاه خطواتنا عن مفترق واحد، آه ما أقسى الاغتراب الذي غيّر محطاتنا، آه آه ...زفرات وصمت وحزن انتابنا ، لم يكن من السهل علينا تحمّل العذاب كل هذه السنوات، ولم يكن سهلا كذلك تحمل هذه المشاعر والذكريات التي تتلاطم في أعماق كل منا .

قصة أسطورية كنا بطليها عبر زمان ومكان اختلفت فيهما مشاهد اللقاء والافتراق نضبت فيهما دموعنا ودم قلبينا، والآن كلّ ما يشغلني حنينك وحبك الذي لم أشعر بأنه تغير رغم كل الهروب الذي كنتَ تتظاهر به، والنسيان الذي طالما تظاهرت لي به من قبل.

بحرٌ من الحنين عمتُ معك فيه، حب ودفء وأمان. أين الزمن الذي فرقني عنك، أين الأعوام التي فجعتني بك، أين المفترقات التي ضيّعتني عنك، فلتأتِ جميعا وترى قلبينا وعشقنا رغم ضياعنا عن عهد اللقاء.

وهتفتَ قائلا: بماذا يشردُ فكرُكِ؟
 بالزمن الذي أبعدني عنك، بحبكَ الذي لم يتغير رغم زواجك، بحزني الذي لم يمت رغم زواجي، كلّنا يَنعى أمل اللقاء ثانية يا هيثم ، فلنبكِ على كل شيء، على العمر الذي ضاع بالحرمان، على الحب الذي ما زال وسيبقى في العمق، صعبٌ علينا أن نتعايشَ مع زمن الموت فماذا سنختار لحبٍ محكومٍ عليه بالقهر والسجن.

 أنا لم أتزوج لأنني نسيتكِ، أو لأنّ ذاكرتي فرُغت من ذكراك، لا وألف لا، فقد حملتُ ألم خيانتي وحماقتي ببعدي عنكِ خمسة عشر عاما، عشتُ فيها مثقلا بالزمن الذي ما رحمني بَعدكِ، لا أرى أمامي إلا أنتِ، الحزن رفيقي، والطرق في قلبي جميعها مغلقة أمام أي إنسان، لم تزل ذكرياتكِ حتى هذه اللحظة هي نافذتي التي أطلّ بها على عالمي في صباحاته الشتوية والخريفيّة، فأنت أنتِ لم يضيعك الزمن من ذاكرتي، وإحساسي بك ينبض رغم أن الحزن يطرق أبوابنا كل يوم .

 ولكنك تزوجت لتنساني، اخترتَ طريقا وسرتَ به رغم كل ما يسكن أنفاق أعماقك ولم يبق منفذا واحدا لأن نلتقيَ ثانية، و لم أكن على علم بذلك إلا بعد سنوات، لم تكن معرفتي بزواجك أمراً أستطيع تقبله رغم حبي لسعادتك، بل أتعبني كثيراً وأدخلني في متاهات الضياع، شيء عظيم انكسر في داخلي، ربما الأمل بأني ما زلتُ ساكنة في ذاكرتك ومقيمة فيها، أو ربما الأمل بأننا سنلتقي مهما افترقنا، لأن حبنا سيبقى أسطورة.

وقد دعاني حزني عليك لأن أقيم مأدُبة أبكيك فيها بدمع لم ينضب يوما، وكنت الحاضر في عمق ذاتي تصارع ذكرى الماضي بوجود الحاضر، وبكل العذابات التي احتملتُها من أجلك، وبهذه الخيبات التي أضحتِ الذاكرة مثقلة بها، أفتش عن ثقب أمل لعلني أجدك فيه فتأخذني الخيبة بأن محطاتِنا تعبت وخطواتِنا تعثرت في طريق المستحيل .

 وأنتِ كذلك تزوجتِ، ولم أعرف ذلك إلا بعد حين، لقد نعيتُ حبي، ونحبتُ طويلا يا جوى! بوحدةٍ وعزلةٍ وعتمة، عاماً بعد عام ، وكبُرت وحدتي وأقمتُ مأتماً لنفسي، وأخذ الزمن يصرّ علي بالزواج، وفعلت ذلك بعد أن تقطعت كل خيوط الوصل بيننا، ولم يعد لنا أي أمل باللقاء، وها أنا أراك وأسمعك وألمس يديكِ وخصلات شعرك، فهل ما زال شك يراودكِ بأني نسيتُك يوما! قولي شيئا، أدخليني إلى سراديب ذاكرتك لأرى اسمي واسمك محفوراً بقطرات الدم الذي حفرتُه يوما على جدار قلبك.

 كلّنا يحفر في عمق ذاكرته اسم حبيبه، ويعيشُ زمناً حاضناً دفء حروفه، هارباَ إلى ذكراه من حاضر مثقل بالألم .

 سأودعك الآن بكل ما في الوداع من ألم ، سأهبك عمراً وحباً لن يموت في يوم ، فنحن بطلان سكنا سطور روايتك، وأبطال الروايات لا يموتون.

وداعا حبيبتي ! فأنا الدرب وأنت بكل خطوة ستكونين.
 وداعا ! بصوت مخنوق قلتُها ، بعناق حزين .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى