الاثنين ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

أجساد... وهمسة شيطان

لم يبقى لديها احد من أهلها، حصدت الحروب والتحرير الجديد، والإرهاب المستورد المآسي بكل أفراد عائلتها، فقد جمع الزمان همومه ونوائبه، وسقى كل أوردتها عذابا وحرمان، تلقفتها الأيام بين عشير في دنيا الأنا، جميلة الملامح، تقاطعت الأحزان على وجهها، فأضفت مسحة حزن ملائكي على عينيها الواسعتين الناعستين، تشربت سمرتها خيوطا شمسية، روت مسامات جسمها، ولف الجوع خصرها، فجعل منه غصن بان، ممشوقة القوام مكسورة الجناح.

في ذلك المكان الذي سكنت وأحاسيسها كهفا من الظلام الدنيوي، ملتفة بمرارة العشرين عاما من بقايا سنين، لم تركن لها يوما في محطة وقوف، سكنت مع أناس هم فرع من عشير أهل، أقصاهم الدهر بعيدا في حياة أهلها، وأدنتهم النوائب في رحيل بلا عودة، قسوا عليها، بين صفعٍ وضربٍ ومراودة نفس أمارة بالسوء، كثيرا ما تلحفت أيديها، ذلك الجسد ليلا، وتركت لأظافرها العنان، أسلحة خفية لأيدي غادرة في غفوة جفن أرهقه التعب والسهر هلعا من سارق في ظلام، لم تدرك الحياة بعد، ولكن جسدها أدرك الأنوثة، فكساها رونقا قاتلا لناظرها.

همس شيطان في ليل حالك إلى نفسها ذات ليلة، وسهل لها الأمر، فجعلها تتلمس جسدها وتضاريسه ونعومة أرضه، غَضٌ كل شيء فيك، يقول لها: انكِ فتنة سلاحك جسدك، فليكن سبيلك إلى رفاهية وحياة، إنها فانية كفناء اهلك، وها أنت بلا رقيب، أو حسيب، دعي الكبرياء والخوف من الله والخجل والعار، فما هي إلا مفردات تتوارى الناس خلفها، في زمن خلع الحياء من ناموس البشر، الناس أمست تقيس وتقاس بكم لديك.. وكم هو النفوذ والجبروت والقوة، قلبت نفسها على جانبها الآخر، موشحة بوجهها عن همس ووسوسة شيطان, وما هي إلا لحظة، عاود الصوت همسا مع برودة، سرت بقشعريرة في رغبة أنثوية مكبوتة، وسؤال لماذا تهربين مني؟؟ ألا تريدين الخلاص مما أنت فيه؟ أو ليس الحياة أجمل من أربعة جدران وعذاب سرمدي؟ دعي فحيح الأفعى بداخلك يرشدك، اتركي نفسك لشيطانية الدعر أن تلبسك من جلودها الناعمة رداءً، ومن دموع التماسيح خزينا لأكاذيب الوصول إلى مُراد، لن تكوني كغيرك، وما كنت إلا لي وشياطين البشر، غانية في زمن الضياع.

جاء الصباح، وقد أثقل السهد جوفنا ألفت السهر وكثرة الدموع، فما كان منها سوى أن ذبلت، وتركت مسحة أرق، أكملت بها شفاها طرية جفت أرضها العطشى لشربة ماء، أسرعت تغسل وجهها، علها تصحو من حلم في يقظة، جاء اليوم كغيره، عملا في عمل ومضايقات, وكلمات حب وترياق شيطان من جَارةً لها، ركبت سفينة الرغبة وغادرت، ثم عادت محملة بزهوٍ كطاووس، تبحث عن بضاعة رائجة، في زمن الأجساد ارخص من علب السجائر، غنت لها وشيطان الرغبة بداخلها، عزفا بأوتار وأسورة ذهبية، انظري.. كل هذا من عملي، ولا يسأل احد، وإن سأل؟؟ فهي كلمة تقال وبعدها أنت في واد، وهم في واد، الدنيا تتقلب، وسيصبحون خدما لك حين تكوني صاحبة جبروت ومال، إن جمالك مفتاح لأرصدة مجمدة تنتظرك، إن اسمك مكتوب عليها، غزلت وشيطان الزمن جدارا ضبابيا، تطلعت إلى ماض كانت فيه بين أب وأم وإخوة، واليوم فقدت كل شيء، فلا رعاية ولا تعويض، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، أنا والحياة...

بعد أن تركت المراجعات لدوائر حكومية، من اجل استحقاق قانوني للقمة عيش شريف، حتى صاروا بصدهم ورفضهم وصمة عار، في جبين الحياة الجديدة والانفتاح، والغريب لا راعي لرعية، أنها مجرد عناوين وهمية، كتبت في أروقة ليلية، وطنية لما يسمى التحرير والديمقراطية، وذات يوم استيقظت وقد انزلق غطاء الفراش من على جسدها، نسمة باردة سارت بخطوات متأنية على مسامات جسمها، ترتشف هوسا، عذوبة وطراوة جلدها، تتزحلق تيارات الهواء منتشية، بين خبايا وتضاريس جبلية وسهلية, فتحت عيون تتغزل بأروقة الغرفة التي تسكنها،غصة في رمق حياة تحياها، ودموع حزن على ماضٍ وأهل ووطن.

دقت الجرس جاءت الخادمة لتقوم على خدمتها، أمرها مجاب، فتحت شرفة غرفتها، أطلت على عالمها الجديد، حياة في حياة، وصخب في صخب مع هوس في هوس، عالم دنيوي، تذوب كل الأقنعة في خُدر ليلية، تحت براثن الخطيئة الأزلية، جاءت من همست في ضياء ليل، وعتمة نهار في شهور ماضية، قائلة: كيف أنت اليوم؟ أوليس الحياة هنا جميلة، حيث لا قريب ولا رقيب، سوى أنت والدولار، والليل الدوار، بين خامرٍ وخمار، وطبل ورقص ومزمار، إن الحياة الآن للشياطين، فالملائكة قتلوا صلبا، في مسميات الأديان والبراقع الملونة، لنحيا للحياة اليوم، أما الغد ليكن في عالم الغيب، تبسمت في بادئ الأمر، ومن ثم أطلقت ضحكة رن صداها، فعاد حزينا على ضياع شرف في لحظة عَوز بغرور، وقالت: مع من اليوم؟ ومن هو الضحية؟؟ أجابتها: انه رجل أعمال كبير، سمع عنك، ورآك مرة ترقصين، وركب الهوس والشغف رأسه، بعد أن أدخلت في نفسه هواك، فصار كلبا يسعى لنيل لحم وعظم، اليوم هو كلبك المطيع، امضغي عقله، كعلكة ومن ثم ارميه بعيدا ...

دقت دفوف الرقص طربا، لأرداف أذابت من نَظر اهتزازها، فسلبت ناظريها، وأسالت لعاب لاعقي أجساد البشر، وأكواب تريق الخمر، في أجواف ابتلعت الرذائل قيما الشيطان الذي بداخلهم, تتمايل.. فترى الأجساد قد مالت معها، تراقصت بنهود تساقطت منها قطرات عرق، تجمعت بينهما فوقعت على وجوها ارتشفت تلك القطرات خمرا جسديا، أسكرها نشوةً، ورغبة في جسد متراقص، هام جنونا وحبا في غرس نفسه في أرض بورٍ موتاً، تلك الأرض، التي أسكنت الغربان فيها فترات بأسعار متفاوتة، تعالت الضحكات وأصوات الطبل والزمر، هتف الليل بأن الوقت قد أزف، سيرتدي نهاره ويخلع مجونه الليلي، على أعتاب الماجنين وسراق الحياة وعار البشرية، مرتادي خيم الرايات الحمراء، في زمن عتيق بعيد، وأسموها اليوم الليالي الحمراء، في زمن الوأد البشري و حرية التطور، التي قتلت بأيدي خفية، تحت مسميات غربية، مالت وإياه في حضن الشيطان، تلمست يديه بقاع ارض عشق ان يطأها، مد شفتيه يلعق عَرقاً، يروي به جوف مارد مجنون، جاب مساحات الدنيا في عالمها الغض، ركب سفينة الرغبة، ممسكا بأشرعة السفينة، رافعا الصواري، ليبحر بهيجان رغبة، لعبت الرياح بسفينته، مرة تعلو بموج، ومرة تهبط بقلاع، لم يدرك خفايا ذلك الجسد، الذي بيع للشيطان مقابل دراهم معدودات، تهالك محاولا إظهار مهارته بالإبحار، لكن السفينة لم تعنه على الإبحار معه، نظر إليها!! فوجد جمود في ابتسامة حزينة، ودموع نزلت أحرقت جوانب عينيها، لم تسعفه نفسه على التلفظ بشيء، كان منهكا خمرا، لم يرقه ما كان منها من برود، قام عنها بسبٍ ولعنٍ وألفاظً بذيئة، مع أيدٍ امتدت لتضرب جسدا قد ماتت نبضات الحياة فيه، انقلب وحشا، همجيا، من عصر الجاهلية، لم تصد الضربات، لم تصرخ، ولم تبكي، فجأة دخلت همس الشيطان، لتكبح جماحه المجنون قف!! ماذا فعلت؟؟؟ لمَ ضربتها؟! ابتعد أيها المجنون، قفزت إلى السرير، تمسح دماء سالت من جراء ضرب مبرح، لم ينقطع الدم، انه يسيل بغزارة، هيا استدعوا الإسعاف!! لكل من رآها بحالها ذاك، إنها تنزف!؟ لقد قتلتها أيها المجنون.. قتلتها ...، لم يتلقى صفعة فعله من أول وهلة, لم يعي نفسه إلا وقضبان وقتية، يقف خلفها، لتفتح بعدها بأوراق خضراء وعلاقات، أما هي؟؟ فقد ركبت لوحا، في مكان ما، في تربة بأرض بور، يرتادها ضحايا غربان الزمن الجديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى