الأربعاء ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم عادل سالم

أبو حسن عاشق القدس

أبو حسن شاهين يعرفه سكان البلدة القديمة في القدس الذين عاشوا فيها في ستينات وسبعينات القرن العشرين، فقد كان أشهر من نار على جبل، ويجهله الجيل الذي جاء بعد ذلك لأنه اختفى منها دون مقدمات، لم يعرف أحد أين ذهب، كثرت حوله الأقاويل والحكايا.

بعضهم قال إنه توفي ودفنه أهله دون علم أحد، لكن آخرون قالوا أن إحدى السائحات الأجنبيات رق قلبها على حاله، ومنظر قدمه فقررت علاجه على حساب كنيستها، فقدمت له الأوراق اللازمة وسافر معها إلى بلادها. أحدهم قال أنه رآه يصعد إلى السماء كطائر بجناحين حاملا معه صرته تاركا شوارع القدس لمن ضاق به. بعض الشبان الملثمين قالوا أنهم رأوا جنود الاحتلال يعتقلونه في سيارة للجيش الإسرائيلي، أخذوه ولم يعد.

قليلون من الناس عرفوا اسمه الحقيقي (أبو حسن شاهين)، فقد عرفوه بلقبة المشهور (أبو حسن بُلُّل)، أو (بُلُّل) حاف دون أية ألقاب أخرى. تلك الكلمة (بُلُّل) يطلقها الناس على من كان مهملا في ثيابه، وشعره ومنظره. لم يعد يعرف الناس هل أطلقوا عليه هذا اللقب لأنه رث الثياب والشعر أم أنهم يطلقون ذلك الوصف على بعضهم نسبة إلى (أبو حسن) صاحب اللقب الأول لهذا الاسم.

لم يكن أبو حسن رجلا أهبل أو أميا، بل كان يجيد القراءة والكتابة، تراه يقف قرب بائعي الصحف يطالع عناوينها حتى يمل منه بائعها فيتركه ويذهب إلى غيره.

لم يترك أبو حسن شارعا في القدس إلا وسار به، فهو يعرف كل أزقتها رغم أن أصله من الخليل من عائلة شاهين المعروفة، أكثر تواجده كان في شارع الواد، باب العامود، وباب الساهرة.

شارع الواد كان مركزه الرئيسي في مقهى أبو رباح أبو رجب في أسفل الشارع وعندما أغلقت المقهى وتحولت إلى محل تجاري تحول إلى مقهى السنترال. وفي باب العامود كان يجلس قريبا من بائع الكعك على بعد أمتار من عمير دعنا بائع الصحف، أما باب الساهرة فقد كان مقره الليلي، حيث كان ينام أمام البريد المركزي، على قطعة كرتون يحملها معه، ويتخذ من صرته التي يحملها أينما سار وسادة، أما عصاه فكان يهش بها الذباب عن رجليه المتورمتين اللتين ينزف منهما الدم واللتين يخيل إليك وأنت تنظر إليهما أن أحدا مزقهما بسكين. كان يعاني من مرض في رجليه، لا أحد يعرف سرهما، ولا أحد فكر في علاجه، فيكف يهتمون به وهو يلتحف السماء كل يوم وينام في شوارع القدس القديمة.

كان عفيف النفس، لا يسأل أحدا شيئا لكن تجار البلد عرفوه، وعرفوا حاجته فكانوا يكفونه السؤال.
وكثيرا ما كان الأطفال يلحقون به ساخرين منه.

  • بُلُّل ، بُلُّل ، بُلُّل....

كان يحاول إبعادهم عنه، لكن أنّى له ذلك، وهو لا يقدر على اللحاق بهم، فهو يكاد يمشي متمايلا بعكازه الطويل الذي يشبه عصا الراعي. وكان الأطفال أو بعضهم لا يحسب حسابا له او لعصاه، لم يكن ينقذه سوى بعض المارة الذين يلحقون بالأطفال ويجبرونهم على تركه بحاله.

كان رواد المقهى يتسابقون لتقديم الشاي له تبركا به وبدعواته، فهو مسكين والمساكين دعواتهم مستجابة.
في فترة الغذاء كان يمر على بعض التجار ملقيا السلام:

  • السلام عليكم.
    وقبل أن يكمل سيره، يناديه أحدهم.
  • أبو حسن تفضل، تعال شاركنا الغذاء.
    فيرد عليه أبو حسن:
  • شكرا يا أخي، سبقتكم في الغذاء.
    يقول ذلك رغم أنه جائع لم يأكل شيئا، وقد عرفوا طبعه فيرد عليه أحدهم.
  • أبو حسن تعال عاوزينك.
    يدخل أبو حسن حاملا صرته التي لا تفارقه، فيسأله صاحب المحل.
  • افتح الصرة، دعنا نرى ما لديك من أكل.
    فيفتحها، فإذا فيها حبة بندورة قديمة وكسرة خبز ناشفة يعلم الله من أين جمعها.
    ينظر إليه مشفقا على حاله.
  • أبو حسن، ما رأيك أن نشترك معك بالغذاء ضع أكلك معنا لنأكل معا.
    يضحك أبو حسن ويقول:
     إن كان كذلك فلا مانع.

أبو حسن اختفى، لم يعد موجودا، لقد حاول سرحان أن يسأل عنه كل الناس لكنه أبدا لم يعرف عنه سوى الأقوال المتضاربة التي سمعها عنه.

اختفى أبو حسن بُلُّل، مات أبو حسن شاهين، هاجر ابن القدس المسكين.

أصبح ذكرى من ذكريات البلدة القديمة وحق لشوارعها أن تفتقده وتحزن عليه. هل يجب على القدس أن تحن للكبار فقط؟

أليس للمساكين والمقطوعين والمظلومين مكان في قلبها؟! ألم تطأ أقدامهم شوارعها؟ يكفي أنه أحبها من كل قلبه، ونام في شوارعها، وتحمل ظلم بعض أهلها، وسخريتهم وشتائمهم.

أبو حسن شاهين (بُلُّل) شكل تراثا للقدس، ومعلما من معالمها القديمة، كان بذقنه الطويلة، وعصاه التي يهش بها الذباب عن قدميه ويتعكز عليها، وملابسه الممزقة، وصرته التي لا تفارقه مثالا للفلسطيني المسكين المقهور لكن المتمسك بالقدس والعاشق لها.

هذا النص جزء من رواية بعنوان:

طريق بلا نهاية لعادل سالم سوف تصدر في مطلع عام ٢٠١١


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى