الأحد ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

المسخ والمحرقة

في إطار سلسلة «عيون المعاصرة» التي يشرف عليها الأستاذ الدكتور توفيق بكار و تقديم الأستاذ منير الرقي سيصدر للكاتب التونسي خير الدين الطاهر جمعة عن دار الجنوب للنشر بتونس رواية «القناص الوهم» في نيسان، إبريل ٢٠١١، وتقع في مئتي صفحة، وتتكون من تسعة فصول، وفيما يلي أحد فصولها

جنونا كان ذهابي إلى زوريخ، أعرف ذلك ولكني عزمتُ عليه . كان لابد أن أخرج من دائرة الموت إلى دوامة المغامرة و الجنون. ذلك هو السبيل الوحيد لفهم ما يدور حولي. عندما قدَّمتُ جواز سفري إلى السفارة السويسرية في دمشق ، رمقني الموظف الأشقر بنظراته الحادة ثم سألني إن كنت قد سافرت إلى أوروبا سابقا ، أجبتُه بالنفي تصفَّح جوازي طلب مني التوقيع على الطلب والعودة بعد عشرة أيام . استطلْتُ المدة رغم أنني كنت متأكدا من حصولي على التأشيرة.

المال الذي بقي لديَّ يتضاءل يوما بعد يوم . لم أشأ الذهاب إلى أصدقاء ميلود في مخيم اليرموك رغم حالة الفراغ التي تطبق عليَّ ، لم أرد أن أفتح الجرح من جديد . و لم يكن لديَّ رغبة حتى في الذهاب إلى حي البرامكة حيث كلية الحقوق لملاقاة الطلبة التوانسة . كان الضياع يكتسحني فما حصل لي في بيروت ما زالت آثاره محفورة في كياني ، في ضاحية " المرجة " الماجنة في دمشق حيث الحشاشون و المقامرون و القوادون ( بطرون ). قضيتُ بضعة أيام قبل موعد السفر، هناك أقمتُ عند تيسير شحرور أحد أصدقاء أبو يزيد .....

في بيروت و بعد أسبوع من التردد والاضطراب كنت قلقا من وضعي المالي المتأزم ، وعقلي هناك في تونس . ابن خالي لم يرسل لي مليما واحدا منذ أتيت هذه البلاد رغم يقيني أن أبي يرسل له المال إلى فرنسا باستمرار. وفيما كنت أنتظر رسالة متأخرة من حمادي يفسر لي فيها ما حصل بالضبط وأتأكد مما وصلني عن طريق عبد المجيد من معلومات ، فوجئتُ ببرقية من شخص كنت قد نسيتُه . إنه باتريك استغربتُ الأمر وازداد ذهولي حين قرأت ما فيها باللغة الفرنسية: " إلى الصديق زهير …تحية طيبة …أنا على علم بالوضع المالي الصعب الذي تعيشه في بيروت .أرجو أن تأتي إلى فرنسا بعد أسبوعين على الأقل . يجب أن تنزل في مطار زوريخ ..لديك حجز باسمك في فندق "إيبيس هناك سنلتقي ..لا تنس أن تجلب معك الحقيبة التي تركتها جيزال …اجلبها معك ولا تخشَ شيئا ……..أنتظرك… "

صُعقْتُ لما قرأته . لم أفهم شيئا في البداية . كان لابد لي من بعض الوقت حتى أستوعب شيئا مما قرأت …فمن أين لباتريك و هو الذي تركته في صيدا و أظنه قد عاد إلى فرنسا من أين له أن يعرف كل هذه التفاصيل في حياتي ؟ ثم كيف يعرف جيزال؟ و من أين له أن يعلم أنها قد تركت حقيبة في شقتي هنا في بيروت؟ من قال له أني أعيش أزمة مالية؟ و لماذا هو متأكد أنني سأذهب إلى فرنسا؟ ! و لماذا الذهاب إلى سويسرا أولا؟!

التفتُّ يمنة ويسرة أحسست أن هناك من كان يراقبني. حاولت أن أدفع عن نفسي الجزع والريبة..شعرت كأن هناك آلافا من العيون تتفحصني .بدت لي جدران الشقة عدسات ضخمة تلتقط حركاتي و سكناتي . كان لابد لي في تلك اللحظة من إعادة قراءة كل ما حدث لي منذ أن عرفت باتريك . ذهني لم يستوعب العلاقة التي تربط بين جيزال وباتريك فقد عرفته في صيدا ثم غادر لبنان إلى فرنسا . بعد ذلك تعرفتُ على جيزال ….أصبحت أشك في كل شيء . فهل عملتْ جيزال في مطعم باتريك ؟ و لكن جيزال كانت مقيمة في دمشق و قبل ذلك في بغداد ، هذا قبل أن تأتي إلى بيروت . أصبحت لا أفهم شيئا . الموقف أكبر من أن أستوعبه في هذا الوقت الوجيز. لكن الأكيد أن حلقة الربط بين كل هذا هو ميلود و ميلود لم يبق من جسده إلا أشلاء بدون هوية.

نهضتُ فجأة أبحث عن الحقيبة ، كان لدي شعور بأنني لن أجدها ..لقد أهملتها كنت أتصور أن جيزال ستعود لتأخذها …..بالفعل أصبحت أشك في كل شيء ..لديَّ إحساس أن هناك من يقطن معي في الشقة ..بحثت على غير هدى كنت مضطربا إلى درجة لا توصف ..تساءلتُ في قرارة نفسي عن باتريك هذا كيف عرف عنواني؟

وجدت الحقيبة في مكانها..كانت صغيرة الحجم من النوع الذي يفتح بالأرقام وبذلك عرفت أن المهمة ليست سهلة..فكيف لي أن أحمل حقيبة إلى مطار زوريخ دون أن أعرف ما بداخلها ..الآن عرفت لماذا قال باتريك في نهاية برقيته " لا تخشَ شيئا " فكأنه يدرك أني قد أرفض هذا العرض. باتريك ليس سهلا إنه من النوع الهادىء الصامت الذي يعرف كيف ينتقي عباراته بدقة متناهية. أتذكَّر أول عبارة قالها لي لما أردت الحصول على عمل في مطعمه في صيدا وكنت شريدا هائمًا تتصيَّدني الفرص عبثًا ، تلهو بي مدن الشرق المضطربة والحزينة
قدَّمتُ له نفسي قال لي: من أي البلاد أنت؟ قلت له :
أنا تونسي .
أجابني ولم أعرف إلى الآن إن كان كلامه مدحا أو ذمًّا قال :
 إنكم شعب مختلف ..

مرَّ على اختفاء "أبو يزيد" شهر أو أكثر و دون أن يتصل بي أيّ شخص من جانبه ، كنتُ أريد أن أسأله عن فوضى الأفكار التي تنتابني كنتُ أريد أن أسأله عن جيزال وباتريك ونيتي في الذهاب إلى زوريخ، أبعدْتُ عن خاطري فكرة مقتله ، أردتُُ أن أسأله عن الذي سأفعله ، يصفعني البرد في ذلك الصباح الشتوي عندما كنتُ أتوجّه إلى مقر الصليب الأحمر في بيروت عَلِّي أرى مجدًا هناك لكني وجدتُ المبنى خاليا فقد شوَّهته القذائف بدا مرعبا بدون أبواب ولا نوافذ لقد ازدادت حدة القتال عند خط التماس ، كانت الرياح الباردة تبدو وكأنها هاربة من أصوات القذائف والصواريخ ، أصبح الطيران الإسرائيلي يغير على بيروت بشكل يومي والكتائب يحاولون التقدم نحو بيروت الغربية ، الأخبار التي وصلت من الجنوب تقول إن مدينة صور قد سقطت بأيدي الجيش الإسرائيلي ، لذلك قلَّتْ حركة المقاومة في شوارع بيروت ، أمسى التحرك خارج بيروت الغربية خطرا و تصريح المرور الفلسطيني لا قيمة له ففي نهاية كل شارع عند خطوط التماس تجد الميليشيات المسيحية المتطرفة مترقبة تفتش كل مار وتقتل كل شخص لا يتوقف ...في مثل تلك الظروف فكرت بسرعة لم يبق لي خيار سوى الذهاب إلى دمشق رغم قناعتي أنه في الحالتين بقائي وخروجي لا يعنيان أني سأظل حيا إلا بمعجزة ، عدتُ إلى شقتي أخذتُ أغراضي ، تخلصتُ من تصريح المرور الفلسطيني ثم توجهتُ إلى مكتب بلانكو في ساحة البرج ، وصلتُ هناك غير مصدق لأن الحقيبة الرياضية التي كانت معي تجلب الريبة ..داخل مكتب السفريات تفاجأتُ بإلغاء رحلات الحافلات فلم يبق إلا السيارات الخاصة العاملة في التهريب ..وفي لحظة و لم يمرّ على دخولي نصف ساعة دوَّى انفجار هائل هزَّ المكان انتثر بلَّور النوافذ شظايا أصابتْ بعضا ممَّنْ كانوا ينتظرون ، لقد كانت سيارةً مفخخة لم تكن تبعد كثيرا عن المكتب ، و دون أن أشعر انبطحْتُ أرضا على الزجاج المهشم ففتح جراحا في راحتيَّ ، رأيتُ على الرصيف جثثا لمصابين من جميع الأعمار ، كان لابد أن أخرج من المكتب بسرعة لأنني كنتُ خائفا من انفجار سيارات أخرى متوقفة في المأوى القريب ، زحفتُ على مهل متناسيا الدماء التي كانت تنزف من يديَّ ، كانت أنات الجرحى الخافتة تضيع أمام أصوات المقاتلين القاسية العالية ، تزايدتْ الانفجارات ومزَّقتْ قذائف الصواريخ سماء بيروت و تداخلتْ الأفكار في ذهني ، الشيء الوحيد الذي تأكدتُ منه أن المكان أصبح مسرحا لصواريخ الأر بي جي هذا يعني أن الموت بسقوط البنايات عليك أقرب من القتل بالرصاص ، خرجْتُ زاحفا من المكتب في محاولة للوصول إلى الرصيف ثم أخذتُ أركض بتأنٍّ على أربعٍ مبتعدا عن المبنى باحثا عن منفذ يوصلني إلى الشارع المقابل وصلتُ إلى الرصيف ويداي تنزفان اتكأتُ على الجدار دون أن أشعر ...لاح لي بياض الثلج الشامخ يكسو جبل لبنان ، سكينة سرمدية هادئة تعانق شجر الأرز بخضرته الندية و صوت فيروز يعبث بمخيلتي صدًى من بعيد:

من وَيْن الحلْوِة الحِلْيانِي
عَالْوَرْد و أكثرْ
تتموّجْ مِتْل النِّيسَانِه
بِجْبال العنبرْ
بْهَالصَّحْوِِ تْرُشّ غْنانِي
وتقولْ وتسْكَرْ
حِلْيانِي الدِّنيا حِلْيانِي
بلِبنان الأخضر
لِبنان الأخضر...

غاب صوت فيروز في زحام الدماء و سواد الإسفلت العاري و أزيز الرصاص ، كان صوت الصواريخ يصمُّ أذنيَّ عندما أخذتُ أجري على مهل محاولا عدم جلب الانتباه لكن حركة المارة ازدادتْ ، أحسستُ أن القتال أصبح يقترب أكثر عند ظهور سيارات الجيب الخضراء المكشوفة ، دخلتُ أول منفذ واجهني ، خفضتُ رأسي محاولا التطلع في نفس الوقت إلى البنايات العالية التي تتخلل ذلك المنفذ الضيق خوفا من القناصة ، تأكدتُ أني هالكٌ لامحالة حين رأيتُ مجموعة من المقاتلين بأسلحة خفيفة يملأون المنفذ من الجانب الآخر ، تراجعتُ في محاولة يائسة أن أتتبع الطريق الرئيسي ، في تلك اللحظة بالذات وعلى بعد مترين فقط ، سمعتُ صوت فرامل سيارة ورائي، التفتُّ كانت سيارة إسعـاف بيضاء عليها علامة الصليب الأحمر وعند نافذة السائق عُلِّق علم مليشيات القوات اللبنانية و إذا صوتٌ يصيح : " أبوعلي يالله ..بسرعة ..يالله " لقد كانت " مجد " ، بالكاد عرفتُها وقد وضعتْ كنزةً صوفية رمادية و نزعتْ قبعتها ، أذهلتْني المفاجأة فبقيتُ مُتجمِّدًا في مكاني و لكنها عاودتْ و هي تشير بيدها اليسرى مُتوتِّرة " يالله ..يا أبوعلي ..يالله" ، ارتميتُ بسرعةٍ داخل سيارة الإسعاف فصاحتْ وهي تنطلق بسرعة "ارتمِ في الخلف يا أبو علي " اندفعتُ إلى الوراء ويداي تقطران دما ، وجدتُ تابوتًا خشَبيًّا عليه علامة الصليب ، يجلس على طرفه الرأسيِّ مقاتلٌ ملثَّمٌ بكوفية بيده رشاش كلاشنيكوف قد وجّهَهُ إلى الزجاج الخلفي للميني باص يحمي مؤخرتها من المطاردَات ، لقد عرفتُه قبل أن يلتفت وينزع اللثامَ عن وجهِه ، إنه أبو يزيد بنفس العينين البراقتين ، ارتميتُ عليه وعانقتُهُ ونحن نكاد نسقط من سرعة سير السيارة ، قال وهو يربّتُ على كتفيَّ : " كِلْمِة زَلَمِِيِ يا أبو علي كلمة زَلَمِي " . كانت السيارة تخترق شارع " جورج حداد " بسرعة البرق و قد علا جنون القذائف والرصاص على صوت المحرِّك فتشعر و كأنَّ زجاج النوافذ سينفجر . ناولتْني مجدٌ منديلا وطلبتْ مني أن أربط معصمَ اليد الأكثر إصابة حتي يتوقف نزيف الدم وأحاولَ نزع قطَع الزجاج الصغيرة المنغرسة في لحم راحة يديَّ ثم أخذَتْ العلَم المتدلِّي من النافذة خبَّأتْه تحت الكرسي ومن نفس المكان تناولتْ قبعتَها فوضعتْها على رأسها، عند ذلك وقف أبو يزيد ، رفع غطاء التابوت ، تطلَّعْتُ إلى ما بداخله فذُهِلْتُ ، نظر إليَّ بعينين براقتيْن وقال : " ما رأيتَه في التابوت سِرٌّ بيننا يا أبو علي " ، قلتُ له بحزمٍ : " حتّى لِنْمُوتْ..و كلْمة رجالْ " فأردفَ بهدوء "إنتَ تونِسِي رقم واحد"، تناول بدلةً مجدٍ العسكرية ووضعَها مع رشاشه على الكرسي الأمامي ثم مدَّ إليَّ كوفيةً فلسطينية و قال لي مبتسما وهو يردد ما تعلمه من اللهجة التونسية " ( راوْ – كاوْ – برْشة – ياسرْ – تَوْ!!) هذه لك ..ضعْها على كتفيْك ..حتى لا تنس رائد النّمر " . كنَّا قد وصلنا أطراف مخيَّم برج البراجنة و لم يبقَ سوى صوت الصواريخ يدوِّي في سماء المدينة عندما أوقفتْ مجد سيارة الإسعاف أمام بوابة أحد المستودعات ، فُتحتْ البوابة ، دخلنا ، و عندما نزلنا وجدنا أمامنا سيارة جيب عسكرية مكشوفة وبجانبها مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين الملثَّمين بالكوفيَّات ، سلّم عليهم أبو يزيد ، فتحوا الباب الخلفي و قاموا بأخذ التابوت إلى سيارة الجيب ثمَّ أحاطوا بـ"أبو يزيد " ، قال لهم كلاما لم أسمعه ربما هي تعليمات خاصة ثم عاد و قال لي : " هيا نعدْ إلى السيارة " و لكن قبل ذلك التفتَ إلى مجد التي كانت تنتظره و قد تنحَّتْ جانبا ، بعيدا عن المقاتلين ، اقترب منها، تبادلا كلمات مقتضبة ، مدّ يده سَوَّى ياقة سترتها العسكرية ، أوْمأ برأسه إليَّ وقال لها مبتسمًا : " أبو علي عكَدْ حالو..رحْ يِتْرِكْنا... " كانت مجد تعلِّقُ رشاشها على كتفها حين اقتربتْ منِّي ، أحسستُ نظرتها تتخللني وددتُ لو صافحتُها أو قلت لها كلمة شكر ،...اقتربَتْ مني أكثر في تردّدٍ ، شعرتُ بنظرتها تُدْمي خوائي ، نظرة هي مزيج من الثبات و الإصرار والأسى...نظرة مَن قد لا تراه مرة ثانية.... قلتُ لها بصوت مُرٍّ كَسولٍ " أنتِ..أنتِ... فعلاً ...مجد .." أما هي فبحركةٍ خاطفة وضعتْ يدها بأصابع مرتعشة على كتفِي وابتسمتْ بعينين صارمتيْن مبتلَّتيْن ثم انطلقتْ إلى السيارة ، قفزتْ إلى أعلى بجانب المقاتلين الذين كانوا قد أخذوا مواقعهم ، أحدهم كان يضع قاذفة صواريخ على كتفه .. التفتتْ إلينا تُداري ألمها مُلَمْلِمَةً شعرها تحت قبعتها ثم رسمتْ بإصبعيْها علامة النصر و كذلك فعلْتُ أنا وأبو يزيد.

في الطريق ونحن نغادر برج البراجنة مررنا على الفكهاني كانت القوات الفلسطينية في حالة تأهب وتوتر، لم يقل لي أبو يزيد إلى أين نمضي إلا بعد أن خرجنا من بيروت ، كان المطر قد بدأ يهطل بغزارة ، في ذلك اليوم كان أبو يزيد صارما متجهما أكثر من العادة و لكني رأيتُه يتوجه نحو طريق فرعي ، و بنباهته المتيقظة لاحظ حيرتي فقال بكلمات كأنها أزيز الرصاص: " سنتوجّه إلى الحدود السورية ، الطريق الرئيسي غير آمن سنتخذ طريقا آخر ، سنسير جنوب نهر الزبداني ، الذي يهمنا نحن هو أن نصل إلى ضيعة " جديدة يابوس " ، ضيعة نصفها لبناني و الآخر سوري ، لدينا أصدقاء وطنيون سيساعدونك في الوصول إلى دمشق ... أبو علي نحن مقبلون على حرب مباشرة مع الكيان لا ندري متى ستنتهي ، حرب نخاف فيها غدر الصديق أكثر من غدر العدو، لدينا الآن مشكلة في التموين إذا حوصرتْ بيروت قد نموت جوعا ، منذ شهر أصبحنا لا نشتري السلاح و إنما نشتري الطعام ولا نجد بائعين حتى مستودعات الأنروا سُرقَتْ و نُهبَتْ ..منذ شهر و نحن نملأ مخازننا و مازلنا بحاجة إلى المزيد ..أنت محظوظ يا أبو علي لأنه في طريق العودة عليَّ أن أملأ الميني باص بأيِّ شيء يمكن أن يؤكل ليُخزَّنَ : تنك الزيت مقطوع ، والرُزّ زيّ الذهب ، رحْ نبيع أواعينا ( ملابسنا ) مِشانْ شوالْ طحينْ ( كيس من الدقيق )‘ إذا حوصرْنا سنموت جوعًا ...طبعا الأزمة غير واضحة بالنسبة إليك..ولكن لو ظللْت هنا، بمرور الوقت ، سترى الجوع يجوب شوارع بيروت .. "

أجبته و أنا أتحسَّس الدماء الجافة على راحتيَّ:
 لقد أحسستُ يا أبو يزيد أن الأمور تسوء ..و لكنْ لم أفهم غيابك المفاجئ..
أعرف أنك قلقتَ عليَّ..ولكن في الأيام الأخيرة كل شيء تغيَّر حتى القيادة أصابها الذهول لما حصل في الجنوب ...بيروت تعجُّ بالعملاء و الأعداء ضيَّقوا علينا الخناق ، وجدنا أنفسنا في مثلث من الفكهاني إلى صبرا وشاتيلا إلى كورنيش المزرعة ..ويقولون إن المنظمة أقامت دولة فلسطينية في لبنان إنه كلام الموساد أصبح - للأسف - يقوله بعض العرب ...

سكتَ قليلا و قد أصبحتْ شفتاه ترتعشان من التوتر ، مسح على وجهه و ظلتْ عيناه مسمرتيْن على الطريق ، واصل كلامه و صوت المطر يزداد : السوريون يعززون مواقعهم شرقا على طول سهل البقاع ، بين يوم وليلة انقلبتْ التحالفات ، طيرانهم أغار منذ أيام على مدينة جونيه معقل البطريرك الماروني ، جُنَّ جنون الموارنة ، ازداد بغضهم لنا .." ياالزلمي لَكْ فخَّار يطبِّش بعضَه يلعنْ أبو اللي نَفَضْهمْ..... و أنت في كل هذه المعمعة تأخذ شنطة و تذهب إلى ساحة البرج للعودة إلى دمشق ..أنا أعطيتُك وعد شرف، نحن نخرجك من بيروت و لا أحد سيعلم أنك ساعدتنا .. ولا تحدثني عن المطعم أعرف أنهم قد فجَّروه , ولكن المشكلة في الجزائري هل يمكن أن يموت بتلك الطريقة ؟؟..

لقد كان في المطعم..
هل وجدتَ جثته ؟
لا حتى اسمه غير معروف في سفارة الجزائر ..

لا يمكن أن نقول أنه اختُطفَ لأنه لا أحد سيستفيد من خطف جزائري ..إذا كان مازال على قيد الحياة و ذلك مستبعد فهذا يعني أنه خدعنا ...

أنا لا أتصور ذلك أبدا ..و الذي زاد في حيرتي هو برقية باتريك ..إنه يطلب مني أن أذهب إلى زوريخ ..كأنه مرتبط بعمل مع جيزال .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى