الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم سعدي أبو شاور

تطور الحركة الشعرية الفلسطينية خلال القرن العشرين

لاشك في أن فلسطين ـ خلال القرن المنصرم ـ قد تعرضت لكثير من التطورات والأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وكانت ـ ولا تزال ـ مسرحا متواصلا للثورات والحروب، فقد ظلت لقرون عدة تحت الاحتلال التركي، حيث كانت جزءا من الدولة العثمانية، التي رانت على المنطقة العربية قرونا طويلة، وعانت من الفقر والحرمان والإهمال والتخلف بمختلف أشكاله في كافة جواتب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادجية والثقافية، التي أرهقت المواطن إرهاقا شديدا، ثم انتهى العهد العثماني باحتلال جديد تمثل بالانتداب الإنجليزي، الذي عمل جاهدا على تسليم البلاد للصهانية، وأنهى انتدابه سنة 1948 بقام دولة إسرائيل على الجزء الأكبر من فلسطين وتشريد الشعب الفلسطيني عن أرضه إلى الجزء المتبقي من فلسطين وإلى البلاد العربية المجاورة بمساندة بريطانية وأمريكية وبمباركة دولية، وعمل صهيوني دؤوب أسفر عن احتلال كامل التراب الفلسطيني سنة 1967، وتشرد الشعب الفلسطيني عن أرضه ووطنية، فعانى ما عانى من ويلات وضائقات اجتماعية ومعيشية واجتماعية واقتصادية وسياسية صعبة، وقامت الثورة الفلسطينية عام 1965، وتواصلت حروب الاستنزاف على مختلف الجبهات العربية، التي انتهت بمبادرات الحل السياسي، والتي لا زالت مباحثاتها جارية مع السلطة الوطنية الفلسطينية، مرة تحيا ومرات تموت، وخلال ذلك القرن قامت ثورات وحروب وانتفاضات شعبية متعددة.

ولم تكن الحباة الأدبية ـ بعامة ـ والحركة الشعرية ـ بخاصة ـ بمعزل عن تلك الظروف، بل كان لها دورها الفاعل والمتواصل في رصد تلك الأحداث، والتفاعل معها، وبالتالي كان لتلك الظروف دورها في تغيير مسار الحركة الشعرية الفلسطينية، وفي تطورها وتجديدها، لذلك كان لابد لنا ـ بعد مرور قرن على مسيرة تلك الحركة ـ من وقفة معها، لحصر ملامح التطور والتجديد والمعاصرة فيها.

لقد قمت بدراسة الشعر الفلسطيني المعاصر خلال ما يربو على قرن من الزمان، ودرست أشعارا تنسب إلى عشرات الشعراء الذين يمثلون القسم الأكبر من شعراء فلسطين ـ في داخلها وخارجها ـ باحثا عن مدى تطوره.

لقد وصلت خلال تلك الدراسة إلى أن الشعر الفلسطيني قد قطع أشواطا بعيدة في تطوره وتجديده ومعاصرته تساير التطور الذي قطعته القصيدة العربية في مختلف أقطار الوطن العربي، وربما تجاوزتها، فقد استطاع الشاعر الفلسطيني أن يتغلب على الكثير من العوامل التي تعد عوامل جمود وتخلف، لا عوامل تطور ونماء، فقد تمكن من اجتياز مرحلة الجهل والتخلف والجمود الفكري والثقافي من مخلفات العصر التركي، تلك المرحلة التي عانى منها الشعب العربي بشكل عام والشعب الفلسطيني بشكل خاص، وخاصة في أواخر العصر العثماني، واستطاع أن يجتاز عامل المفاجأة بالاحتلال الإنجليزي لفلسطين، وما رافقه من ظلم واضطهاد وعسف وألوان مختلفة من المعاناة بكافة أشكالها: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، واستطاع أن يجتاز خطوط الحصار الثقافي والإعلامي الذي فرضته قوات الاحتلال الإنجليزي والصهيونية العالمية قبل النكبة، والحصار الذي فرضته دولة الاحتلال الإسرائيلي ثقافيا وإعلاميا وسياسيا بعد النكبة، واستطاع أن يتغلب على واقع الهزيمة وآثارها وآلامها ومعاناته من تلك الآثار الشرسة بعد نكبة عام 1948، وقبل هذا وذاك، تمكن من التغلب على الاضطراب السياسي والثقافي والعسكري الذي عايشته فلسطين، وعدم الاستقرار الذي شمل الحياة والفكر فيها، واستطاع أن يتجاوز واقع النكسة سنة 1967، والتطورات السياسية والنضالية والقكريةالتي وجد الشاعر الفلسطيني نفسه في مواجهتها بعد النكسة.

وإذا كان الشاعر الفلسطيني قد تغلب على هذه العوامل وغيرها، فإنه بالمقابل قد استنفذ جميع الإمكانيات والعوامل التراثية والعربية والإقليمية والعالمية لخدمة قضيته، فقد استلهم معطيات التراث دينيا وتاريخيا وثقافيا، ولعل ما يشهد له بالتطور في هذه الناحية استلهامه لمضامين الدين الإسلامي، ومضامين الديانات السابقة على الإسلام كالمسيحية واليهودية وقصص الأنبياء والأقوام السابقة، واستلهامه للمضمون التراثي الأدبي العربي، والمضمون الأسطوري بجوانبه المختلفة العربية وغير العربية، وتوظيف كل ذلك في شعره.

ثم مسايرته لظواهر التطور والتجديد في الشعر العربي المعاصر وحركات التحرر العربية والثورات العربية، وغير تلك من العوامل القومية، بالإضافة إلى اطلاعه على نواحي التطور والتجديد في العالم فكريا وأدبيا وسياسيا، واطلاعه على حركات التحرر العالمية الفكرية والأدبية والسياسية، واطلاعه على حركات التحرر في العالم ضد الاستعمار وأشكاله ومناصرته لها ضمن شعره، على اعتبار أن القضية الفلسطينية جزء من القضايا العربية والعالمية الساعية للتحرر من الاستعمار، والداعية للحرية وحق تقرير المصير.

وعلى مستوى البعد الإقليمي الضيق، فقد تمكن الشاعر الفلسطيني من الاستفادة من العوامل الإقليمية كالعادات والتقاليد في المجتمع الفلسطيني، والشخصيات الفلسطينية الأدبية والسياسية، والأحداث التي كانت تمر بالبلاد، بل حتى استطاع أن يستفيد من أدب العدو نفسه، وبالتالي استطاع أن يوظف جميع الجوانب الوطنبة ـ سياسيا ونضاليا واجتماعيا وثقافيا ـ في شعره لخدمة قضيته، مما أضفى على شعره نكهة مميزة ومذاقا خاصا وخصائص متفردة وكيانا متميزا؛ يمكن من خلاله أن نطلق عليه اسم الشعر الفلسطيني المعاصر.

فلو نظرنا إلى الشعر الفلسطيني ـ بشكل خاص ـ والشعر العربي ـ بشكل عام ـ في عصر الجمود والتخلف والانحطاط الفكري والثقافي والأدبي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ حيث الموضوعات والقضايا الجامدة، والخيال المحدود، والقوالب الجاهزة، والألفاظ والتعبيرات المكررة، والصور الحسية، والاهتمام بالظواهر البديعية والشكلية من جناس وطباق ومقابلة وسجع، بالإضافة إلى ضعف الصلة بين الأدب الفلسطيني والآداب العربية بشكل خاص وانعدام تلك الصلة بالآداب العالمية بشكل عام، وغير ذلك ممالا يتسع الحديث عنه في هذه العجالة، ثم مقارنة ذلك مع الشعر الفلسطيني المعاصر ـ اليوم ـ ؛ لتبين لنا مدى حجم التطور الهائل الذي وصلت إليه القصيدة الفلسطينية في مختلف جوانبها:الموضوعية والفكرية والفنية.

لقد كان الجانب الموضوعي ـ في القصيدة الفلسطينية ـ من أكثر الجوانب استجابة لروح التطور والنماء، فقد عالج الشعر الفلسطيني جميع الجوانب التي جدت على الساحة الفلسطينية، وعلى الإنسان الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، وتبني الكثير من القضايا التي لم يكن يحفل بها من قبل على جميع المستويات الإقليمية والقومية والعالمية بأبعادها المختلفة سياسيا ونضاليا وإنسانيا.

لقد وعى الشاعر الفلسطيني الواقع الجديد الذي فرض على فلسطين وشعبها منذ دخول الإنجليز لأرض فلسطين، واستطاع منذ البداية تحديد هوية ذلك الوافد الجديد وأهدافه، وأن يتبين دوره في التصدي له والدفاع عن وطنه؛ وبالتالي ظهرت مضامين جديدة على سطح ديوان الشعر الفلسطيني؛ كوعد بلفور، والوطن القومي اليهودي، والخطر الصهيوني، وتعاون الاستعمار البريطاني مع الصهاينة، ثم قضية بيع الأراضي لليهود ودور السماسرة والدلالين في ذلك، والتنبيه على أثر الأرض وضرورة الحفاظ عليها وعدم بيعها، ثم تبين دوره في الدفاع عن أرضه ووطنه بشعره وبروحه، ودوره في بث روح الوطنية والحماس في قلوب الناس، وأن يثير الحمية في نفوسهم؛ ودعوتهم لحمل السلاح والدفاع عن الوطن بالنفس والمال والولد، ثم رصد الممارسات الوحشية التي كان الغزاة يتبعونها للسيطرة على البلاد ومقدراتها وتهويدها، بالإضافة إلى ذلك لم ينس الشاعر الفلسطيني دوره في إصلاح ذات البين، والدعوة لنبذ الخلافات بين الأحزاب والقيادات الفلسطينية، وتوفير الجهد للدفاع عن الوطن، ورصد الثورات والحركات التحررية التي قامت في فلسطين وتسجيلها والتأريخ لهاومتابعة أحداثها وتطوراتها، ثم حرب فلسطين سنة 1940.

لقد أخذ الشعر الفلسطيني منذ البداية التأريخ لقضية بلاده وشعبه سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا وعسكريا، وأصبح مصدرا من مصادر التاريخ السياسي والنضالي والاجتماعي الفلسطيني.

وتابع الشعر الفلسطيني دوره بعد النكبة، حيث بدأت مرحلة التساؤل عن أسباب الهزيمة ودوافعها وملابساتها، وأشار بأصابع الاتهام لكل الذين كان يرى أنهم سبب في تلك المأساة، ورافق الشعب الفلسطيني في داخل الوطن المحتل وخارجه مصورا آلامهم وآمالهم، ومبرزا مختلف أشكال معاناتهم في وطنهم المحتل وفي منافيهم، ومنتظرا عودتهم ولم شملهم، ومصورا ذكريات الماضي، والشوق والحنين للوطن وأهله، ومؤكدا على الوفاء والعهد، دون أن يفارقه الأمل بالعودة، طال الزمان أم قصر، ومشاركا في كافة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان له حضوره الثقافي على كافة المستويات والأصعدة الإقليمية والقومبة والعالمية، مساندا الثورات العربية ضد الاستعمار في المغرب العربي، ومتغنيا ببطولات المصريين أثناء العدوان الثلاثي وصمود بورسعيد، والإشادة بالسد العالي والوحدة الكبرى بين مصر وسوريا، كما أشادوا بالثورات العالمية ضد الاستعار بمختلف أشكاله في إفريقبا وآسيا، مما حدا بالشعر الفلسطيني إلى تبني الاتجاه القومي ثم الأممي؛ على اعتباره أن القضية الفلسطينية جزء من القضايا العربية والعالمية المناهضة للاستعمار بمختلف أشكاله، و وبالتالي اعتبر الشاعر الفلسطيني أن جميع القضايا النضالية والتحررية في الوطن العربي وفي العالم هي قضية المناضل الفلسطيني، فالتغني بالثورات في العالم هو تغني بالثوره الفلسطينيه التي أصبحت في نظر الشاعر الفلسطيني جزءا من الثورات في العالم، والذي ؤان جاز لنا التعبير يمكننا أن نطلق عليها اسم ( الثوره العالمية) أو النضال العالمي لمكافحة الاستعمار).

وبعد النكسة سنة 1967 واصل الشعر الفلسطيني دوره الأدبي والسياسي، والمشاركة الفعلية سياسيا ونضاليا على كافة المستويات الوطنية والقومية والأممية، فقد شارك بشعره في كافة حروب الاستنزاف العربية الإسرائيلية، وشارك بشعره وبنفسه في المقاومة الفلسطينية ضد الصهاينة من أجل التحرير، وتابع معركة الكرامة، وحرب رمضان، والاجتياحين الإسرائيليين للبنان، وغيرها، ولم ينس دوره في حروب الخليج، وفي مفاوضات السلام العربية والفلسطينية مع إسرائيل، كما شارك بشعره وبنفسه في انتفاضتي الشعب الفلسطيني ضد العدو الصهيوني؛ رصدا وتسجيلا وتحليلا، مبينا رأيه، ومتخذا موقفه بكل وعي.

لقد أثرت القضية الفلسطينية الشعر الفلسطيني المعاصر بفيض غزير جدا من القضايا والموضوعات الجديدة. ولعلي لا أخالف الصواب بقولي: إن ديوان الشعر الفلسطيني المعاصر يمثل دائرة واسعة من دوائر الرصد والمتابعة لأبعاد القضية الفلسطينية وملابساتها وأحداثها وتطوراتها وتسلسلها التاريخي والزمني، منذ أن وطئت أقدام الإنجليز ارض فلسطين حتى اليوم، ورصدا متكاملا لجميع الظروف والملابسات وألوان المعاناة التي مر بها الإنسان الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، داخل الوطن المحتل وخارجه، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ونضاليا. وبحق، فقد استطاع الشعر الفلسطيني المعاصر أن يكون من نفسه مصدرا أساسيا من مصادر دراسة القضية الفلسطينية.

هذا الفيض الزاخر من القضايا والموضوعات الجديدة، التي نمت وتطورت مع نمو وتطور أحداث القضية، التي تبناها الشاعر الفلسطيني المعاصر، يقف شاهدا على مدى التطور الفكري الكبير الذي وصل إليه وعي الشاعر الفلسطيني المعاصر وإدراكه، سياسيا واجتماعيا وثقافيا ونضاليا. فمنذ بداية العقد الثاني من القرن الماضي بدأ لشاعر الفلسطيني يخرج من دائرة الرصد والملاحظة إلى دائرة التساؤل، ومن ثم إلى دائرة الكشف والتحليل، من خلال وعيه بمفاهيم الأحداث الجديدة في بلاده، والأهداف الظاهرة والخفية وراءها، ثم تحديد موقفه منها اجتماعيا وسياسيا ونضاليا وبالتالي يحدد دوره فيها، من خلال وعيه الفكري برسالته التي يجب أن يؤديها بصدق وأمانة. ومن شواهد ذلك التطور على المستوى الفكري، اقتراب الشاعر من القاعدة الشعبية، من خلال إدراكه لدور الشعب وأهميته، ومن خلال إدراكه لدوره في تبني نهج الإصلاح والتثقيف والتوعية والإرشاد والتصحيح لذلك الشعب وتبصيره بحقائق الأمور، والأخذ بيده إلى الطريق الصحيح، وبث روح الوطنية والحماس الوطني في نفسه، ذلك النهج الذي لم يلبث ـ بعد النكبة ـ أن تحول إلى أسلوب للتدمير والبناء من جديد، من خلال إدراكه للعوامل التي كانت سببا في نكبته، من اجل مواكبة ملامح التطور والمعاصرة التي أصابت الشعوب، وحركات التحرر الوطني عربيا وعالميا.

إن الشاعر الفلسطيني المعاصر ـ خلال تلك الفترة ـ التي تجاوزت قرنا من الزمان ـ كان يمثل دور الموجة والمثقف للشعب سياسيا وفكريا واجتماعيا ونضاليا، من خلال انصهار الشاعر في بوتقة المجتمع، ومعايشته لظروف الشعب وواقعه ومعاناته؛ لذلك كان الموقف الاجتماعي للشعر الفلسطيني ـ في تلك المرحلة ـ ينطلق من إحساس الشعب بالآثار المترتبة علي تطور الأحداث في بلاده، وكان الموقف الاجتماعي في الشعر الفلسطيني المعاصر يتطور تبعا لتطور الأحداث وآثارها على الشعب، فقد تطور الموقف الاجتماعي في القصيدة الفلسطينية قبل النكبة من الموقف التسجيلي إلى موقف المتسائل، ومن ثم إلى الموقف النضالي وخاصة في فترة الثورة الكبرى ( 1936 ـ 1939 )، وبعد توقف الثورة اضطراب الموقف الاجتماعي تبعا لاضطراب الظروف والأحداث فكان مزيجا من المواقف الحزينة والغاضبة والمتمردة والقلقة.

أما بعد النكبة فقد انتقل الموقف ـ اجتماعيا ـ من موقف الهزيمة إلى مواقف ثورية مختلفة تجمع بين الحزن تارة، والغضب تارة أخرى، والانفعال تارة ثالثة، حتى اتخذ شكلا أكثر التزاما ـ في بداية الستينات ـ وأكثر واقعية، في حين انتقل الموقف بعد النكسة سنة 1967 ليتخذ شكل الثورة المسلحة، فظهر شعر المقاومة، وشعر الثورة الفلسطينية، وشارك الأدباء في المقاومة والثورة والنضال المسلح عمليا، مع ضرورة الإشارة ـ أن الشعر الفلسطيني قد خرج من نطاقه الإقليمي منذ النكبة، ليتخذ مواقف أكثر بعدا، تمثلت في المواقف القومية والعالمية والإنسانية، وذلك في مرحلة تطورية لاحقة ـ فكريا واجتماعيا ـ ، وخلال تلك المرحلة لم ينس الشاعر الفلسطيني دوره في معركته مع أعداء البلاد بنفسه وشعره، من خلال مشاركته في أحداث البلاد وفي مراحلها النضالية بنفسه أولا، ثم بشعره ثانيا، فقد ناضل الشاعر الفلسطيني بشعره من خلال تعرية الأحداث وإظهارها أمام الشعب، ومن خلال توعية الشعب سياسيا ونضاليا، وبث روح الحماس والوطنية في نفوسهم، وتحبيب النضال والجهاد إلى نفوسهم، دفاعا عن أراضيهم ووطنهم، ومسايرته للمراحل النضالية في فلسطين، وتسجيل وقائعها والتأريخ لها، وتخليد بطولات شهداءها المجاهدين فيها، ومن خلال شرح أبعاد قضيته على جميع الأصعدة الإقليمية والعربية والعالمية.

ولعل التطور الفكري في القصيدة الفلسطينية أن يكون قد دخل مرحلة تطورية جديدة حين أدرك الشاعر الفلسطيني ضرورة الالتزام بتلك القضية. والالتزام كجانب فكري بدأ في الشعر الفلسطيني منذ مرحلة مبكرة؛ حيث التزم الشاعر الفلسطيني بقضية بلاده منذ أوائل العشرينات من القرن الماضي، من خلال تحديده للفئات البشرية التي خاطبها وطنيا، ومن خلال الأبعاد الرئيسية التي شملها التزامه؛ تلك الفئات البشرية التي تمثلت قبل النكبة في المستويين الإقليمي الفلسطيني والقومي العربي، لم تلبث أن تطورت بعد النكبة لتشمل البعد العالمي بجانبه الإنساني، ثم ألأممي بعد النكسة، وربما قبل ذلك، وبالتالي التزم الشاعر الفلسطيني بجميع القضايا الوطنية والتحررية إقليميا وعربيا وعالميا، ومناصرته لجميع حركات التحرر الوطني العربية والعالمية ضد جميع أشكال الاستعمار؛ باعتبار أن قضية بلاده هي جزء من القضايا الأممية الباحثة عن التحرر والاستقلال.

وكما حققت القصيدة الفلسطينية تطورا ملموسا في جوانبها الموضوعية والفكرية، فقد حققت تطورا كبيرا في جوانبها الفنية، فقد تأثر الشعر الفلسطيني بالاتجاهات والمذاهب الأدبية التي شاعت في بلاد الغرب، والتي هبت بعض رياحها على المنطقة العربية، دون أن تتكون مثل هذه الاتجاهات في الشعر الفلسطيني بشكل خاص، والشعر العربي بشكل عام على الوجه الذي ساد في بلاد الغرب.
فمنذ أوائل القرن الماضي وحتى نهاية الرابع الأول منه، كان الجانب التقليدي " الكلاسيكي " هو الجانب البارز في شعر تلك الفترة، والذي من سماته اهتمام الشعراء الفلسطينيين بالشعر العمودي ووحدة الوزن والقافية، ثم اهتمامه بشعر المناسبات الوطنية والسياسية، والاحتفالات والمهرجانات، والاهتمام بالصور والقوالب التقليدية الجاهزة، ثم الحرص على متانة السبك، والاهتمام بصياغة الألفاظ وانتقائها وقواعد النحو والصرف، ثم الأسلوب الخطابي والتقريري المباشر.

ومنذ بداية الرابع الثاني من القرن الماضي بدأت نفحات الرومانسية تهب على الشعر الفلسطيني من خلال البدايات التي بدأها إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي، والتي أخذت تنمو بشكل سريع خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، والعقود التالية، وخاصة بعد النكبة، نتيجة لعدة عوامل مختلفة، سياسية واجتماعية وثقافية، فظهرت الموضوعات الجديدة بأساليب جديدة وصور جديدة وموسيقى جديدة، والتي كان من ظواهرها، صدق الإحساس وطغيان العاطفة، وسعة الخيال، وتنوع الصور، وحيوية اللغة وبساطتها، وانسياب الموسيقى والتنوع في القوافي والأوزان، وغير تلك من الظواهر.

أما النمط الواقعي، فقد ظهر بشكل بارز في الشعر الفلسطيني المعاصر بعد النكبة، وان كانت بذوره قد رافقت الرومانسية منذ الربع الثاني من القرن العشرين، ولعل شعراء الأرض المحتلة قد كانوا من أكثر الشعراء الفلسطينيين تأثرا بالاتجاه الواقعي، حيث استطاعوا إلى حد ما التخلص من أثار الازدواجية التي رافقت الشعراء الفلسطينيين في المنفى، والتي تحولت إلى واقعية أكثر ثورية بعد النكسة، ثم اندفعوا بوعي في حركة الحداثة التي بدأت تطغى على الشعر العربي بعامة منذ منتصف القرن، والتي كان من مظاهرها شعر التفعيلة والأسلوب الإيحاثي والتجديد في مصادر الصورة الفنية.

ونتيجة لعدة ظروف، فقد بدأت ملامح الرمزية تظهر في أفق الشعر الفلسطيني المعاصر، وخاصة بعد النكبة، حيث نجد عددا لا بأس به من الرموز التي تعامل معها الشعراء الفلسطينيون، خاصة الرموز الأسطورية والتاريخية، وخاصة شعراء الوطن المحتل؛ نتيجة للظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشونها داخل الوطن المحتل، تلك الرموز التي اتخذت شكلا أكثر غموضا بعد النكسة، وخاصة في فترات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

ولعل الجانب التطوري البارز في الشعر الفلسطيني المعاصر ـ فنيا ـ قد ظهر في خصائصه الفنية، اللغوية والأسلوبية والتصورية والموسيقية. فمن حيث اللغة، فقد ظهرت ملامح التطور والمعاصرة من خلال تفاعل لغة الشعر الفلسطيني المعاصر مع روح المجتمع الفلسطيني، حيث احتوت على الكثير من مضامين التراث الشعبي والعادات والتقاليد الاجتماعية، ونفسية الإنسان الفلسطيني، كالألفاظ الشعبية والأغاني والمواويل الشعبية، والأمثال والحكايات الشعبية، ثم احتواء لغة الشعر الفلسطيني الكثير من المضامين الجغرافية كالأراضي والقرى والمدن الفلسطينية، وأسماء النباتات والأشجار والثمار والورود والأزهار والأودية والجبال والسهول وغيرها، بالإضافة إلى احتوائها على فيض هائل من مصطلحات المأساة وألفاظها ورموزها، واهتمامها بالعديد من الأسماء التي تحمل الهوية الفلسطينية، وبالتالي كان للشعر الفلسطسني دوره في حفظ الذاكرة الفلسطسنية من التغيير أو الانقراض، خاصة وأن الدولة الصهيونية كانت تعمل جاهدة على تدمير تلك الذاكرة.

وفي الشعر الفلسطيني المعاصر، نجد الكثير من الوجوه اللغوية الجديدة، كاللغة الفاعلة التي تدل على الفعل والحركة والعمل، واللغة المتسائلة، ولغة النداء واقعا ورمزا.
كذلك نجد الكثير من الألفاظ العصرية والأجنبية والتصرف فيها تصرفا موحيا. هذا بالإضافة إلى سهولة اللغة وانتقائها، وكثافتها، والقلب والتحول في مدلولاتها، وتكرار بعض الألفاظ، والترميز اللغوي.

كل تلك الظواهر المتطورة لم تشع إلا بعد نكبة سنة 1948، وخاصة منذ منتصف الخمسينات وأوائل الستينات، والتي ما زالت تنمو وتتطور حتى اليوم

ولعل تنوع الأساليب في الشعر الفلسطيني المعاصر يعد ظاهرة تطورية معاصرة، فمن حيث البناء المعماري للقصيدة الفلسطينية نجد ظاهرتي المطولات والملاحم الشعرية ثم القصائد القصيرة المركزة، ثم التنوع في أساليب التعبير في الشعر الفلسطيني المعاصر والانتقال من أسلوب الفن الغنائي بوجوهه المختلفة إلى أسلوب القصة الشعرية فأسلوب المسرحية الشعرية والحوار الشعري، ومن أسلوبي القصة الشعرية والمسرحية الشعرية تعامل الشاعر الفلسطيني مع الحوار الدرامي والفن التراجيدي، تلك الأساليب التي لم تنم بشكل واضح إلا بعد النكبة.

وإذا كان الأسلوب الخطابي والتقريري المباشر، هو الأسلوب الغالب في الشعر الفلسطيني ـ قبل النكبة ـ فقد تطور ليتخذ شكلا إيحائيا ومن ثم شكلا رمزيا بعد النكبة، بالإضافة إلى أسلوب الوحدة الموضوعية الغالب على القصيدة الفلسطينية.

ذلك التنوع والتطور القائم في أسلوب الشعر الفلسطيني المعاصر يقف شاهدا عل تطوره أسلوبيا؛ ومراعاته لظواهر التجديد والتطور والمعاصرة عربيا وعالميا.

وفي مجال الصورة الشعرية، فقد كانت الصورة التقليدية القديمة هي الصورة البارزة في شعر مرحلة الانتداب والنصف الأول من جيل الخمسينات، ومنذ النصف الثاني من الخمسينات وخلال فترة الستينات بدأت ظواهر جديدة ـ في مجال الصورة الشعرية ـ تنمو في الشعر الفلسطيني المعاصر، حيث ظهرت الصورة الجديدة، التي تعتمد على عدم اقتراب العلاقة بين المشبه والمشبه به في الصورة، ثم ظهور الصور النفسية التي تعتمد على حركة الانفعال الداخلي، ومن ثم ظهور أنواع جديدة من الصور كالصورة الأسطورية والصور المركبة والكلية والمكثفة وصورة التوقيعات والصورة المتوازنة والانتشارية والتفصيلية، وغيرها الكثير من الصور الجديدة التي تنم عن وعي الشاعر بظواهر التطور والتجديد والمعاصرة في صورة الشعر المعاصر؛ فقد انتقل الشاعر الفلسطيني خلال تطوره في مجال الصورة الشعرية، من الصورة التقليدية القديمة إلى الصورة التقليدية الجديدة، ومن الصورة الجزئية والبسيطة وإلى الصور المركبة والكلية، ومن الصور المحدودة إلى العديد من الصور المتنوعة، بالإضافة إلى إشراق الصورة وغناها وكثرة الظلال فيها، ثم واقعيتها في الغالب، واستلهام الموروثات التاريخية والشعبية والأسطورية والتراثية في تنويع مصادر التصوير الأدبي والفني، ومعالجتها لمختلف جوانب المأساة، وآثارها وتطوراتها وأبعادها قبل النكبة وبعدها، ومتابعة تصوير آثار عملية السلام بعد حرب الخليج الثانية سنة 1990، ثم انتفاضتي الشعب الفلسطيني الأولى والثانية، وتصوير الآثار التي ترتبت عليها.

وبالنسبة للصورة الموسيقية في الشعر الفلسطيني المعاصر. فقد تطورت أيضا ، فمن حيث الأوزان، مرت القصيدة الفلسطينية بمراحل تطورية ثلاث هي : مرحلة البيت الشعري ذي الشطرين في الشعر التقليدي القديم، ثم مرحلتي السطر الشعري والجملة الشعرية في شعر الحداثة الذي يعتمد على وحدة التفعيلة لا وحدة البيت.

وخلال تلك المراحل الثلاث فقد تعامل الشعراء الفلسطينيون مع الأوزان المتعددة في القصيدة الواحدة. وإدخال بعض التعديلات على الأوزان، ثم المزج بين النمطين التقليدي والحر داخل القصيدة الواحدة. بالإضافة إلى التعامل مع ما يسمى " بقصيدة النثر ".

ومن حيث القافية، فقد تعامل الشعر الفلسطيني مع مختلف أنواع القوافي حيث ظهرت في الشعر الفلسطيني قواف متنوعة: القافية العمودية الموحدة على نمط القافية التقليدية، ثم القوافي العمودية المتعددة مستفيدا من إمكانيات الموشحات، وإمكانيات الشعر المرسل، ثم قوافي الشعر الحر الموحدة والمتعددة والمهملة.

وخلال ذلك تعامل الشعر الفلسطيني المعاصر مع الموسيقى الداخلية، وظاهرتي التدوير والتكرار، كأبعاد لها آثارها في تلوين موسيقى الشعر الفلسطيني المعاصر.

من كل هذا نصل إلى حقيقة صادقة، هي أن الشعر الفلسطيني المعاصر

ـ على الرغم من كل ظواهر الإضراب السياسي والاجتماعي التي مر بها

ـ قد قطع أشواطا بعيدة في نموه وتطوره وتجديده موضوعيا وفنيا خلال القرن الماضي تساير التطور الذي قطعته القصيدة العربية، ودخل الحداثة من أوسع أبوابها، وتوغل فيها توغلا بعيدا، تاركا بصمات واضحة في الشعر العربي والعالمي؛ يمكن من خلالها أن نطلق عليه ـ بقوة وحزم ـ اسم الشعر الفلسطيني المعاصر، بظروفه الخاصة وكيانه المفرد ونكهته الفريدة ومذاقه المتميز واتجاهاته المحددة، وخصائصه المتميزة.


مشاركة منتدى

  • الموضوع جميل وشيق الا أن النماذج تنقصه، فقد كان الأفضل الاستشهاد بشعر الشعراء الفلسطينين في هذا المجال لكي يكون الموضوع اكثر صدقيه ، وشكرأ للاستاذ سعدي أبو شادر على هذا المجهود القيم .

    محمد ادريس
    نادي الشعر / اتحاد كتاب وادباء الامارات العربيه المتحده

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أنا الطالب المعتصم المصري الذي ادرس صحافة واعلام بجامعة الاقصي في فلسطين والا أنا بصدد عمل بحث بعنوا ((مميزات الشعر الفلسطيني الحديث )) اذ تكرمتم وعندكم معلومات عند هذا الموضوع فلا تبخلوا علي وأعاهدكم عي ذكر المصدر وللتواصل عي الايميلsusn-2008@hotmail.com الرجاء عدم البخل وجزاكم الله خيرا

  • مجهود جيد لكن بعض أفكاره غير صحيحة
     أفضل وجهة نظر تقسيمية قالها الباحث سمير سليمان التميمي في المنار نت عام 2014- بيروت :
    1. شعراء ( المقاومة ) في شمال فلسطين: محمود درويش- سميح القاسم- راشد حسين- توفيق زياد... وينتمون الى الحزب الشيوعي الاسرائيلي باستثناء راشد حسين ( حزب المابام الاسرائيلي). مع الأشارة الى انشقاق درويش والتحاقه بشعراء الثورة في بيروت.
    2. شعراء الثورة الفلسطينية في المنفى: عزالدين المناصرة- محمود درويش- معين بسيسو- أحمد دحبور- مريد البرغوثي.- وينتمون الى تيار الكفاح المسلح وفلسفة التحرر الوطني.
     يشار أيضا الى أن الشاعر الفلسطيني الوحيد الذي حمل السلاح في المرحلة البنانيةهو عزالدين المناصرة. الذي تقول عنه الجزائرية ليديا وعد الله في كتابها ( التناص في شعر المناصرة ) بأنه ( أكثر الشعراء الفلسطينيين ثقافة وعمقا ).

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى