الثلاثاء ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

كازابْلانْكا في ليلة قائظة

في إحدى ليالي الصيف، أثقل القيظُ على قلبِها، ففتحتْ صدفاتِ قميصِها لكي يدخل بعض الهواء إلى صدرها البُركاني؛ ومسحَتْ بكُمِّها العرقَ الأسْودَ الذي تصبّب من جبينِها الملتهب... لأنّ الشمسَ كانتْ مُحرقة في تلك الليلة، ولأنّ أدخنة السيارات وأبخرة الناس وهباب الوعود الكاذبة ورذاذ المحيط المحمّل بفتات الخبز الميِّت... لأنّ كلّ هذه الأشياء وبخار أحلام دُورِ الصفيح، سوَّدَ العرقَ الذي مسحتْه بِكُمِّها.
الكمُّ طويل... بالطول الذي يضيع فيه طفلٌ بدون مأوى، وتضيعُ فيه امرأةٌ طرحتْها حُفرةٌ ليلية قذرة، وشابٌّ انتظر الفجرَ فلمْ تأتِ الصلاة، فصلّى صلاة الغيبوبة في سرواله المُرَقّع.

على جنبات الكمّ الطويل، اصطفّتِ المقاهي وهي تنظر ـ نظرة رجل واحد ـ إلى السيِّدة العظيمة وهي تضعُ يدَها على قلبِها... وهي تُديرُ عيْنيْها الدامعتيْن في مِحجريْهِما الخفييْن... وهي تختنق من الحبّ المفرط، من التفريط في الحبّ، من الدّوخة والألم والخوف...

فتفجّر قلبُها ولمْ ينزف لحظتئذٍ من صدرها دمٌ... ولم ينقذفِ الناسُ من المقاهي... ولم تُعرقِلِ الكراسيُ هروبَهم... ولم يدُسْ بعضُهم على صدور بعضِهم... ولم يبْكواْ من هوْل التفجير.... ولمْ ينتبهواْ إلى الشاشة العِملاقة التي كانتْ تعرضُ آخر فلمٍ حربي أنتجتْه "هوليود"...

فرأتْهم لم يفعلواْ شيئاً لإسْعافِها بقلبٍ جديد، لحقنِ دمائها، لرتقِ جراحِها؛ فأشفقتْ عليهم بسبب ما لم يفعلواْ من أجلِها، ولم تتهاوى... ولم تسقُط أرضاً... ولم تتأوّه... ولم تستنجِدْ... ولم تفُهْ بتلك العبارة الجريحة "وا مُحمَّداه! " بيد أنّها استدارت جهة شخصٍ أحمقَ ما زال يحملُ كتاباً من عهد "تولسْتويْ" وسألتْه:" كم السّاعة؟" فَرنا إليها بعينٍ حمقاء وما قال كلمة، فوضع على رأسِه مِقلاةً متفحِّمة، وانصرف يجرُّ خلفَه سلسلة من التَّنَكاتِ الفارغة.

كازابلانْنا... كازابْلانْكا... أمّي... لم يبْقَ لك سوى أنْ تستجمعي أشلاءَك وأن تخيطيها بيديْك المُتناثرتين هنا وهناك؛ فأنا لستُ ابْنَكِ البارّ... أنا حُثالةُ الوقتِ... أنا أُحفورةٌ من زمن الأوهام... أنا وحيدُ قَرْني وليس لديَّ سوى هذا الكتاب القديم، وقُبَّعتي المعدنية هذه، وجيشي الذي خلْفي من خواء...
وفي الأخير، جرْجرَتْ نفسَها إلى مقهى "دار إسبانيا" وأسقطَتْها على كُرسيٍّ لم يُسْقِطْه أحد، وراحتْ تتنفّسُ ببُطءٍ وتنظرُ إلى صدرها المفتوح على بعض الأمل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى