الخميس ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١

تحت برج الجوزاء

تأليف فاروق دوندي، ترجمة زيد الشهيد

 في تاريخ الهند القديمة، أيام الاسكندر الكبير كان ثمّةَ ملكٌ حكيم وشجاع يدعى «بوروس». وكان له ولدان توأمان ولِدا تحت برج الجوزاء سمّاهما «جاف» و«طالقاند». كانا متشابهين تماماً. بيدَ أنَّكَ لا تستطيع رؤية أخوين متباينين مثلهما في الوقت نفسه. تربّيا لأنْ يكونا أخوين باهرين في كل شيء. ففي الوقت الذي كان جاف كثير التأمل والتساؤل لماذا تبدو السماء زرقاء كان طالقاند شاباً لا يساوره التفكير في أمور الكون، بل منشغلاً كان في الصيد والرماية والقتال والرياضة. وبينما كان جاف يمكث في القصر يقرأ المخطوطات ويعزف على آلالآت الموسيقية ويكتب الابتهالات والأدعية بحق الآلهة كان طالقاند منطلقاً مع الصقور والبيزان، صارفاً يومه في رحلات الصيد في براري المملكة سابحاً في جداول الجبال، متجرئاً على تسلّق القمم المعتمرة الثلج، ممتطياً صهوة جواده لعشرات الأميال يوميّاً سعياً لأن يصبح أحسن مَن يجيد استعمال السلاح في مملكة «بوروس» عموماً، وأفضل مصوٌّب سهام في جيشه، وأكفأ مروّض فيلة، وملاكم، ومصارع بامكانه تحدّي أقدر وأشجع بطل على الأرض.

 ومن يوم مجيئهما إلى الحياة عهد بهما الملك بوروس إلى شيخٍ عجوز يعمل خادماً في القصر، ويوليه الثقة الكبيرة اسمه «ساسا». فصار «ساسا» هذا معلِّماً للصغيرين.

 حين شرع يعلمهما السباحة في النهر أظهر طالقاند اهتماماً وولعاً شديدين منذ الوهلة الأولى ؛ وراح يشق طريقهُ نحو ضفة النهر البعيدة بينما وقف جاف وسط الماء متساءلاً لماذا يجري التيار إلى هذه الجهة وليس إلى أخرى؟ وما الذي يجعل الماء يرغو ويزبد؟... وعندما جهِدَ ساسا في تدريبهما على رمي السهام تمكَّن طالقاند من أن يلوي ويشد أقوى وتر ويطلق السهم نحو أهدافٍ محددَّة في الأفق بينما سحبَ جاف وتر القوس وراح يسترق السمع إلى اهتزازاته واضعاً إياه قرب جذع شجرة مجوّف، متساءلاً عن كيفية توالد الأصوات... ويوم أخذهما ساسا على ظهور الخيل لتعليمهما الطعن بالرماح نخس طالقاند حصانه وانطلق في محاولة قتل الخنازير الوحشية بينما أشاح جاف بوجهه عن منظر الدم.

 استطاع طاقاند جلبَ أنياب الخنازير المتوحشة التي تمكَّن من قتلها وقدّمها لأبيه.

«وما الذي أتيتَ به، يا جاف؟» ... سأله الملك بوروس.

 عرضَ جاف صورةً رسمها لأخيه التوأم ممتطياً جواده، طاعناً خنزيراً وحشياً برمحٍ نافذٍ مٌظهراَ عيني الخنزير متخاذلتين لحظة تفجّر الدماء من جنبه الطعين كأنّه يلتمس الرحمة. كانت الصورة تُظهر الحصان من جنبه والفارس من الخلف.

«لماذا لم تجسِّد ملامح الفخر والكبرياء المرتسمة على وجه أخيك لحظة الانقضاض؟»... ساله الملك.

«لم أقوَ على رسم وجهي يومض بالكبرياء في مشهدِ قتلٍ.»... أجاب جاف، إذ كانا متشابهين جداً في الملامح والتجسيم الجسدي.

 حين بلغا الثامنة عشرة تواردت الأنباء عن غزو الاسكندر الأغريقي للأقاليم القريبة ؛ وأنَّ الاغريق _ وهذا ما جلبه ناقلو الأخبار إلى بلاط الملك بوروس _ يعسكرون على بعد مئتي ميل من المدينة.

_ «ما الذي يريده هذا الاسكندر ؟»... تساءل الملك بوروس: «ألا يعرف أننا الأقوى والأشد بأساً في هذا العالم».

_ «لقد تغلَّبَ على مملكة نيكايا، ويسعى لأن يكون سيداً على عموم الهند. لقد وعدَ بذلك جنده المتعطّشين للذهب الخزين في أرضنا كما يعتقدون.» أجابه حاملو الأخبار.

" سوف نتحدث إليهم ونتحاور في أمور السلام في الوقت الذي نستعدُّ للحرب. "... قال الملك طالباً احضار ولديه ؛ في وقت انتاب المجتمعين في البلاط قدرٌ كبير من الخوف والقلق. كانت الروايات تصل إلى الهند عن جيوش الاسكندر الزاحفة دون توقفٍ ولا هوادة من مقدونيا عبر بلاد فارس وأفغانستان ؛ والآن يطرقونَ الأبواب. إلا أنهم توقفوا في الممرات الجبلية بعد أن توعدَّوا بصب الحمم على مملكة بوروس.

" سنرسل لهم سفيراً. " أخبر الملك رجال البلاط بحضور ولديه " جاف " و" طالقاند "." سوف نتصدّى للإغريق قبل أن يطأوا ممر خيبر، ويجب جعلعهم يدركون أنَّ لديناً أرضاً كافية لتكون قبوراً لجميع الاغريق وحشودهم المتقدِّمة. ".

تكلَّمَ بعده طالقاند قائلاً: " دعني أذهب وأهددُّهم بنفسي، يا أبي. "

" لديك عملٌ آخر عليكَ القيام به، يا طالقاند. "... أجابه الملك وأكمل: " لقد أصبحتُ عجوزاً، أمّا أنتَ فراشد الآن وأحسن جندي في جيشي. أريدكَ أن تعد العدّة للحرب. ستكون قائداً للجيش والمشاة وراكبي الفيلة ورماة السهام. كما أنَّ عليكَ الشروع ومنذ اللحظة باعطاء التعليمات لصانعي الأسلحة والدروع، وتعيين ضبّاطاً أكفاء، وتحديد أماكن معاركك مع الاغريق. "

 قليلاً والتفت الملك إلى ولده " جاف ": أمّا أنتَ فستذهب إلى الاسكندر مع بعض الحرّاس المسلحين. أنتَ رجلٌ صاحب كلمة. ستخبره بأننا الهنود لسنا لعبة سهلة، وأنَّ الملك بوروس سيمنح العفوَ للصبي الاسكندر، غافراً له أخطاءه ومحاولات عبثه بشؤون السلام والمملكة والاشاعات التي يطلقها. واخبره أيضاً أنَّ بامكانه العودة من حيث أتى قاطعينَ له عهدَ أنْ لا نتعقَّبه لأننا كرماء. ".

" لقد سمعتُ عن الاسكندر. "... تكلَّم جاف في الوقت الذي كان رجال البلاط يصغون صامتين: " إنّهُ ليس من الرجال الوضيعين. فقد استطاع التغلّب على نصف العالم المعروف ؛ وعلينا التحدّث عن السلام إذا كنّا نُـ..... ".

" السلام ؟! "... هتفَ الملك محتجّاً: " أي سلامٍ، يا جاف. نحنُ نمتلك أقوى جيش تعرفه الهند والعالم بأكمله، وستُعطى القيادة إلى أخيك طالقاند. فكيف تريدنا التحدث عن السلام ؟ ! ".
 لم ينطق جاف بحرف ؛ عندها أمره الملك بالانطلاق بغضون ساعتين صحبة خمسين جندياً لمقابلة الاسكندر وتسليمه رسالة التهديد.

حين غادر جاف التفتَ الملك إل طالقاند:
" لقد سمعت أنَّ هذا الاغريقي ابن زنا ومخادع، وربّما لا يعود أخيك حيّاً أو ربّما سيحتفظ به كرهينة. "
" كان عليَّ أن أذهب بنفسي."... تفوّه طالقاند.

" هذه ليست رغبتي. عليكَ أن تبرهن بأنَّ هؤلاء الاغريق غير المنهزمين التقوا ندّاً نظيراً لهم. وها نحنُ بعثنا لهم أميراً ملكيّاً لنثبت أننا لا نهاب شيئاً ".

 بدا طالقاند حائراً، قلقاً على أخيه التوأم ؛ وهو يعرف لو أنَّ جاف نقل تهديدات أبيه إلى الاسكندر سيكون في مأزق خطير.

لكنَّ الاسكندر لم يفعل بمثل ما خمّنوا وشككّوا ، بل عاد جاف بعد ستة أيامٍ قضاها طالقاند يدرِّب الجيش ويعد العِدّة... عاد جاف إلى المدينة مٌرهقاً، لكنّه في طمأنيمةٍ واستقرار. اتّجه مباشرة ليطلع الملك.

" وهكذا.. وافق الاسكندر، وسوف يعود. أليسَ كذلك ؟ "... تساءل الملك.

" كلا ! "... أجاب جاف.

هل سلّمته رسالتي ؟ ".

" كلا يا أبي، لم أفعل ذلك. لقد تجوّلتُ في معسكره ؛ وقد استقبلني بأدبٍ ودماثة خلق ؛ ودعاني للبقاء فترة أطول. قضيتُ بضع ساعات حول المعسكر مُحسناً ضيافتي. لقد وجدتُ جموعاً كبيرة من الرماة لديه. رماة مقدونيين بارعين، وكتائب فرسان، وراكبي خيول، و.... "

" لا أريد معرفة دُمى الاسكندر التي يلعب بعا. "... نطق الملك بوروس، وأكمل: " أخبرني، ماذا قلت ؟ ".

" إطَّلعتُ على قوّة جيوشه فساورني الخوف على مملكتنا. "... أجاب جاف .: " لقد أحسن الإغريق استعداداتهم فعرضتُ عليهم توقيع معاهدة. ".

" معاهدة ؟!.. وهل طلبتُ منك ذلك ؟! "... بدا الملك في أقصى ثورته ؛ فقاطعه طالقاند:

" دعنا نستمع لما يقوله أخي. "

 استمر جاف يتكلَّم: " أخبرته أن الحرب تعني سفك الدماء لكننا نستطيع حسمها باعطاء الارض الواقعه في الجانب الآخر لنهر الهندوس إن قدَّمَ وعدَ شرف باحترام مملكتنا و........ "

" خائن ! "... انتفض الملك. " يا طالقاند: ضع هذا الخائن قيدَ الاعتقال.. خُذ هذا الجبان من هنا. لا أريد أن تقع عليه عيناي. ".

بعدها إلتفت الملك إلى ساسا:

أهذا كل ما تربّى عليه ولدي ؟.. ينقلب ضدّي وضد رغباتي عندما يهددُّنا الغزاة ! ".
 لم يرد جاف بشيء . فقط دار بعينيه على البلاط. خطا بعدها طالقاند إلى أمام ممسكاً بكتفِ أخيه التوأم.

" عندما أصبح قائداً للجيوش سأكون مسؤولاً عنه. "... قال ذلك ثم قاده خارجاً، يتبعهما ساسا.

" لماذا لا تتراجع وتقدّم اعتذاراً لأبيك حتّى اذا نشبت الحرب تكون جنب أخيك ؟

لم يفه جاف برد. بل اكتفى بالصمت.

" ساسا ؛ اعتنِ به. "... قالها طاقاند: " لن يغفر له أبي حتى نكسب الحرب ؛ وسأكلّمه بنفسي.. ثم أنني أفهم أخي، إنّه عنيد ولا يعرف التراجع. ".

 ترك طالقاند أخاه في ملاذٍ منزوٍ في القصر لا يصل إليه سوى ساسا ؛ وتوجّه لاكمال الاستعدادات اللازمة لمواجهة الاسكندر.

 تلك الليلة أرسل جاف الخادم ساسا ليدعو أخاه للحضور. ولمّا حضر طالقاند خاطبه جاف:
_ " لقد اطّلعتُ على قوى وتعداد حشود الاسكندر، وعلينا تهيئة ما يضاهيهم . ".

أطلع جاف أخاه على قوة واستعداد العدو. أطلعه على سرايا فرسانه وخطوط مشاته ومجاميع الفيلة ورماة السهام، مقارناً إيّاها بخطوط فرقهم المهيأة.

" وماذا عرفتَ عندما كنتَ في معسكرهم "؟ "... سأله طالقاند :" إنَّ الاسكندر هذا يعتبر قائدهم وبطلهم العظيم، وبدونه تنعدم لديهم القدرة على احتلال نصف العالم. فاذا استطعت اغتياله أو أسره أربح الحرب لا محالة. ".

 كان فصلُ أمطارٍ كثيفة وقت وصلت إلى طالقاند أخبار مفادها أنَّ جيوش الاعداء عبرت ممرَّ خيبر وهي الآن تعسكر عند الضفة الأخرى لنهر الهندوس. إذْ تمكنوا من الزحف تحت جنح الظلام واستطاعوا أخذ موطىء قدم لهم، وتمكنت جحافل المشاة من عبور النهر ثم انقسمت إلى قسمين بحركة V للتعرف على الأرض بعد نجاحها في نصب جسور تربطهم بحشود قواتهم الأساسية.
 سمعَ جاف كل هذا من الخادم ساسا..

" وماذا فعل أخي طالقاند ؟ "

" اسرع بارسال سريّة فرسان لكسر خطوطهم من مركز تحركهم. ".

" وهل هو في القصر الآن ؟ "

" أي قصر ! أنه يقود الجيش بنفسه. "

_ " وأبي ؟ "

جَهِدَ طالقاند في جعله بعيداً عن ساحة المعركة بعدما قدِر على اقناعه.

وهل يقود الاسكندر جيشَه بنفسه ؟ ؟

" تبدو شديد الاهتمام بهذه المعركة. لماذا لا تطلب العفو من الملك وتقنعه بالسماح لك بالقتال جنباً إلى جنب مع أخيك ؟ " ... سأله ساسا.

أريد أن أساعد طالقاند ؛ كما تعلم لا أجيد استعمال السيف أو الطعن بالرمح. لكنَّي أستطيع مساعدته من مكاني. ".

" من هنا ؟! "

" نعم. إنَّ ما يعانيه أخي ليس ضعف المقاتل لديه، إنّما هو بحاجة إلى خطة للقتال. ".

" ربّما ؛ لكن ما لم تعتذر لأبيك فلن تحظ بإلقاء نظرة ولو خاطفة على ساحة المعركة. إنّكَ رهن الاعتقال.. تذكَّر ذلك، يا جاف. ".

ستكون أنتَ عيني وأذني.. اجلب لي الآن بعض القطع الخشبية مع سكين النحت.

 ساور الخادم اعتقاد أن الأمير الجبان فقدَ عقله ؛ لكنه فعلَ ما أُمر به.

 في اليوم التالي جاء ساسا لينقل أخبار المعركة إلى الأمير جاف فوجده جالساً القرفصاء وقد رسم ساحة القتال على الأرض، مثبّتاً عليها بضعة هياكل خشبية منحوتة.

_ " أخبار سيئة ! "... قالها الخادم ساسا.

" ماذا حدث في ساحة المعركة ؟ هل استسلمت تشكيلات المشاة الأغريق ؟ ".

" لقد ارتكب طالقاند خطأً جسيماً عندما أرسل الخيالة لمهاجمة مقدمة المشاة الأغريق. لكن الاسكندر تمكن من عبور النهر عبر أكثر من موقع ؛ ولم تمر ساعة أو ساعتان حتى كنّا سنحطم مركزهم لولا إن خُرِقَت خطوط فرساننا راكبي الخيول فاستطاع مشاة العدو التمركز فيها فاضطرت خيولنا إلى التراجع.

" التراجع ؟! ألم يدعمهم بالمشاة كظهير لهم ؟! "... تساءل جاف مندهِشاً. شرع يذرع الأرض جيئةً وذهابا.

" كلا، أيها الأمير. لقد أُجبروا على التراجع بعد أن تكبّدوا الكثير من القتلى والجرحى. ".

" ألم يدرك أخي طاقاند بأنَّ المشاة وحدهم الذين يستطيعون التمسّك بالأرض ؟.. كان بإمكانه أن يكرّس الفرقة الخيالة للإغارة فقط وليس الامساك والتشبّث بالمنطقة... وهل ما زال أخي سالماً ؟ ".

" عرفتُ أنّه جُرحَ جرحاً طفيفاً ؛ لكنه عاد إلى المعسكر مجدداً. ".

" وهل بمقدوركَ احضاره إلى هنا، يا ساسا ؟ ".

" أظنُّهُ منشغل جداً. التشاورات مهمة مع الضباط هذه الليلة. ".

" اخبره بضرورة المجيء. اخبره أنَّ المعركة هذه يجب أن تدور تحت برج الجوزاء فنحن توأمان. نحن رجلٌ واحد. ".
 حملَ ساسا الرسالة إلى طالقان د، غير أنَّ طالقاند لم يكلّف نفسه بالحضور.

 مرّةً أخرى ؛ وعند انقضاء اليوم الثالث أو الرابع حملَ ساسا أنباءً محزنة عن المعركة شاهدها من على الأبراج المتوزعة على أسوار المدينة.

" أفلح الاغريق في عبور النهر يدعمهم المشاة، واستطاعوا التمركز في مواقعهم الجديدة بعدما سلكوا طريق الخداع والمناورة. ".

وماذا بعد ؟ "... تساءل جاف. أبصره ساسا يعود إلى الدمى يغير أماكنَ القطع الخشبية المنحوتة.
" إنَّ مجاميع فيلة الاغريق تحركت نحو الجسور، وهي الآن خلف مشاتهم ومن المتوقَّع عبورها غداً. لذا فانَّ على سرايا فيلتنا المرور خلال مشاتنا هذه الليلة.. وما هي أخبار الاسكندر نفسه ؟ ".

" كان حاضراً في المعركة، واستطاع طالقاند مشاهدته على رأس كتيبة خيّالة فاندفع صوبه مع مجموعة من رماة السهام، لكنه تمكَّن من الثبات بأرضٍ خلف حرسه الخاص من المشاة. ".

حرَّك جاف قطعهُ المنحوتة مرّةً أخرى.
" أنتَ تتصرَّف بمنحوتاتك كالأبله بينما مملكتنا تتعرّض للخطر ! "... قال ساسا محتّجاً.

" احضر لي طالقاند. ها أنا أرى ما يبيّته الاغريق. "... قال جاف محدِّقاً في رقعته الصغيرة التي تفترش الأرض.

" لن يأتي، أيها الأمير. "

" حسناً إذاً.. خذ هذا التنبؤ واخبره بتوقّع حدوثه. غداً سيتحرك خيّالة الاغريق ورماة السهام عبر الأراضي المفتوحة يسارهم باتجاه المدينة. ومن خلفهم سيدعمهم المشاة، ولن يهاجم الاسكندر الخطوط التي أعددناها في الجهة اليمنى بمواجهة جسورهم. ".

عاد ساسا إلى جاف بعد انتهاء ليلة اليوم التالي.

" لقد حدثَ ما تكهنتَ به ! "... قال ساسا " أي سحرٍ لديك ؟! ".

" ليس السحر إنَّما المنطق الذي كان على طالقاند التمسك به في تقدّمه إلى الأمام. أمّا الآن فقد وقع في المصيدة. ".

 وبينما كان جاف يواصل حديثة إلى ساسا دخل طالقاند الغرفة فجأةً وقد ارتسمت على وجهه سيماء الارهاق.

" لقد تسلّمت رسالتك وتنبؤك. "... راح يحدِّق في المنحوتات الصغيرة على الأرض.

" لا تجازف بقيادة القوّة المهاجمة غداً، يا أخي. "... تكلَّم جاف.

" أعتقد أننا سنرغم الاغريق على الفرار. لقد سحبوا هذا اليوم كتيبتين من رماة السهام في الجبهةِ اليمنى. "

" دعْ مكانك لأبينا الملك، وابقَ أنتَ غداَ عند أسوار المدينة. ادفع مشاتك إلى الأمام كي تتمكَّن سرايا الفيلة من التحرك خارج المدينة. "

 بدا طالقاند فاقد الصبر، مشحوناً بالسخط.

" تعال ؛ اقترب. "... قاده جاف إلى حيث القطع المنحوتة التي رتّبها من قبل.: " انظر. هذا هو الاسكندر، وهذا هو جانبنا. هنا كتائبنا من المشاة. لقد حددتُ موقعهم بدقّة كما أعلمني ساسا. "... أمسك جاف بقطعة ثم حرّكها على الرقعة المرسومة على الأرض: " عليكَ اعطاء سرايا الفيلة الفرصة لعبور ساحة المعركة بأقصى سرعة. حينذاك يكونوا قد أمسكوا بكامل المساحة التي أمامهم. سيضطر الاسكندر بسبب ذلك للتحرّك جانباً. عندها تقدِّم فرقة مشاة لاعاقة تحركهم. ".

" لا شكَّ أنكَ مجنون. "... صرخ طالقاند:" سأتسبب بمجزرة إن أمرت بتقدّم هؤلاء الجنود ! ".

" إنّه الثمن الواجب دفعهُ. ".أجابه جاف.

" سبعمائة رجل ؟.. ولماذا لا نجعلهم يتراجعون ؟ ".

" عليهم الامساك بأبعد ما يكون من الأرض، وباستقامةٍ حتى ضفة النهر. لا وقت للقلق بشأنهم. اتركهم هناك. أمّا الخيّالة فأمرهم بالتحرك خارج المدينة لأنَّ الاغريق سيكرسون هجماتهم باتجاه المدينة في ذلك الوقت. ".

" تسلّى بإلعابكَ ودُماك، واترك الحرب لي. "... قالها طالقاند ساخراً قبل مغادرته المكان.
 في اليوم التالي ؛ وتحديداً وقت الظهيرة اندفع ساسا إلى الغرفةٍ حيث يُعتقَل جاف. كان وجهه يُنبيء بكامل القصّة. وفي المسافة القريبة استطاع جاف سماع قرقعة السيوف وصرخات الرجال. الذعر في الشوارع وأصوات الموت تعلو فوق الاشياء.

_ " أنهم فوقنا ! الاغريق ! "

" أين طالقاند ؟ ".

" لم يأخذ بنصائحك. خرج على رأس السرايا هذا الصباح، وقد حدث ما قلته بالضبط. باغتنا الاسكندر خارقاً المدينة بنفسه.. وها نحن نخسر كلَّ شيء. ".

" لا بدَّ أنَّ الأغريق اختاروا أرض المعركة بأنفسهم. " قال جاف ؛ ثم تساءل: " وماذا عن أبي ؟".

" قاتل مثل رجلٍ مجنون. حالما سمع بسوء الموقف لبس درعَهُ واندفع خارجاً. الاسكندر أعطى تعليمات بتطويقه وعدم المساس به. لم يكن لديه وقت للتراجع، فضباط الاسكندر دخلوا المدينة وآخرون يحاصرونها من الخارج. ".

 قرفصَ جاف على الأرض. حرَّكَ بعض القطع المنحوتة. حدَّقَ فيها مصعوقاً.

 وصلت أخبار مقتل طالقاند إلى الملك بوروس في القصر من فم الاسكندر.

" افعل ما تشاء أيها الاغريقي. "... نطق الملك بوروس.

" أعترف أنكَ قاتلتَ بشجاعةٍ ووهبتَ ولدَكَ في هذه المعركة. "... قال الاسكندر المنتصر: "ما واجهتُ خصماً شجاعاً كمواجهتي لهذا الشاب ؛ ولو كنتُ أستطيع اعادة عقارب الساعة لفعلت كيما يبقى ولدُكَ حيّاً. لقد خسرتَ ولدك لكنكَ لم تخسر كرامتك ومملكتك. وبالرغم من أنها كلّفتني من الدماء أكثر من أيةِ حملةٍ فإنّي أعيد إليكَ مملكتك. عندما جاءني هذا الشاب أول مرّة للتفاوض معي وتحدَّث عن السلام خلته جباناً. كم كنتُ مخطئاً. في الأيام الستة الأخيرة للقتال شاهدته كالعفريت. أمّا الآن سأتركك لأحزانك أيها الملك فليسَ من السهل فقدان الولد الوحيد.".

 غمرت الدموع عيني الملك، فصرخ:" ولدي الوحيد ! ". أحنى الاسكندر رأسه وخطا متراجعاً إلى الخلف، وخرج.

بعدها رفع الملك جسدَ طالقاند بذراعيه الواهنتين وحمله خلال ممرات القصر وصولاً لغرفة جاف.

" أنتَ تبدو شبيهاً به. ذلك غريب حقّاً ! "... قالها الملك بوروس مخاطباً جاف: " لقد قاتل كرجلٍ لم يقاتل مثله أحد على الاطلاق. أخطأ الاغريقي حينما تصوَّروه أنت. أعتقد أنَّ ولدي الوحيد مات هذا اليوم. لم أصحح كلامه. إنّه ولدي الوحيد حقّاً. أنتَ هنا جلستَ تتسلّى بدماك الغبية بينما ضحّى هو بحياته. ".

 خطا الملك إلى الأمام رافساً القطع المنحوتة الصغيرة المثبتة على الأرض.

" سأشيحُ بوجهي عنك. " قال مخاطباً جاف :" وعندما سيأتي الحديث عن مملكتنا في الأزمنة القادمة سوف يتذكَّرون طالقاند الفارس والرجل الشجاع الذي تشرَّفَ الاسكندر بمقاتلته. أمّا أنتَ فلم تفعل شيئاَ. "
 تقدّم ممتلئاً غيضاً وحزناً فبصق في وجه ولده الحي ؛ وأدار ظهره إلى الأبد عن الرجل الذي سوفَ يُذكر _ كمخترع الشطرنج _ عندما يُنسى جميعُ الأبطال المهزومين.

(*) ولدَ في بونا جنوب مدينة " بومبي " الهندية. قدِمَ إلى انكلترا عام 1962 لدراسة اللغة الانكليزية في جامعة كمبردج. بعدها أصبح ولعدة سنوات استاذاً في الجامعة نفسها قبل أن يتخلّى عن التدريس نهائياً ويركّز اهتمامه لشؤون الكتابة والصحافة.

له ثلاث روايات:

1.نهاية الشرق عند قدميك.

2.اعلَ إلى مكّة.

3.صحبة بونا.

وقصته " تحت برج الجوزاء " مأخوذة من مجموعته القصصية " كبوة فخ " Trip Trap الصادرة عام 1982.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى