السبت ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم محمد نادر زعيتر

لفافة التبغ

أنا لا أحب الموت
لا أحب أن أموتَ لأن فيه الغيابْ، ورحيلاً نحو عتمة الآفاقْ
ولا أحب لغيري أن يموت لأن في الموت فراقاً ليس يطاقْ
كما لفافة التبغ فيها أشلاء جسد وغلافها يشبه كفن الأمواتْ
لذلك أكره لفافة التبغ، وأن لا تستعجلوا أحبابيَ لفافة الغداةْ
أنا لم أدخن اللفافة الأولى، واشكر الله أن من يلوذ بي لا يدخنون.

بهذه الافتتاحية كان ذات يوم بَوْحِيَ لزميلة لي تعرفت عليها في مطلع العمر حين كنت وإياها من رفاق درب التعليم إذ كنت وإياها زملاء في مدرسة واحدة في مدينة القامشلي، وحينها كنت وإياها طالبين في كلية الآداب في الجامعة السورية (اسمها الآن جامعة دمشق).

-1-

زمالة في التدريس وزمالة في الدراسة،
جميلة ومن لا يحب الجمال!
أنيقة ومن لا تغريه الأناقة!
شقراء كشعاع شمس الغروب،
عيون فتانة حالمة لا تقاوم،
قامة هيفاء كأنها تمشي ملكا،
أبية ولا تبالي بإعجاب عابر،
اسمها أمل، الآنسة أمل، ما أجمل اسمها!
لكن ثمة عيب فيها ما استسغته أبداً
إنها تدخن ويا سوء طالعي، يا سوء طالعي...

تطور السلام بيننا إلى كلام ثم إلى موعد ثم إلى لقاء في بيتها، حيث كنت أساعدها في تأمين كتب الجامعة من دمشق، ومن المعلوم أن المسافة بين القامشلي ودمشق ألف كيلو متر، وكان أخوها – وهو طالب في نفس الصف الذي أدرِّس فيه ــ يقيم معها كمرافق لها،

-2-

مثلما يزداد السيف مضاءً مع الأيام، مثلما يتكامل الهلال نحو أن يكون بدراً، هكذا ترعرع الإعجاب وهبط من السماء حب طغى على قلبي المقفر كما يهطل المطر بعد طول اشتياق الأرض له تتلقفه بلهفة وتغيِّبه في حناياها كي يستحيل أزهاراً وأثماراً، هكذا حل الحب وتغلغل في حناياي ليبلغ من القلب الشغاف، أحببتها ولم أجرؤ أن أفصح عن حبي لها، وكانت تبادلني نفس الشعور والنظرات ولا تظهر ما في خبيئة نفسها، أجل هكذا البنت الشرقية العفيفة لا تتنازل عن كبريائها، هي مثل الطاووس تريد أن يكون الذكر هو المبادر لإبداء مظهر الحب والإغراء نحو تقارب أنثاه، الحب لا يحتاج إلى أبجدية، لأن القلوب لها لغة تفاهم خاصة، والعيون لها مراسيل تؤدي ما تضمره تلك القلوب:

قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرونَ

كنا في المدرسة نحاول أن نكون قبالة الزملاء الآخرين زملاء فقط، نتحفظ على كل كلمة وكل حركة، كانت ترسل لي أقصوصة ورق بواسطة أخيها إذا شاءت شيئاً وكنت أنا في المقابل كذلك.

تتقدم الأيام ولكل أجل كتاب، وحين حضر والداها لزيارتها أفصحتُ لها ثم لوالديها بأنني أرغب في الزواج من أمل، وافقا مبدئيا، وقدمت لها هدية ذهبية عربون الخطوبة حسب التقاليد.

وقبل ذلك تعهدت لي أمل بأنها سوف تقلع عن التدخين نهائياً كرمى لي حين إجراء العقد، وشاع خبر هذه المناسبة في وسط المدرسة.

لاحظت في إحدى زياراتي لبيتها أن ضابطاً في الجمارك يسكن قريباً من بيتها كان على الدوام يراقبني ويتطلع نحوي في ذهابي وفي إيابي، كنت أتضايق من حركاته، سألتها ذات مرة ما شأنه؟ قالت لي: هو من حلب وتوجد قرابة بعيدة بيننا، وحين كان يحضر والداي إلى هنا في زيارة لي كان يتودد إليهما ويكرمهما، ويظهر أنه يريد أن يهتم بي ويتقرب بالتلطف نحوي.

-3-

ذات يوم أراد الزملاء في المدرسة أن يقيموا حفلة شاي بمناسبة عيد المعلم، وتطوعت الآنسة أمل أن تكون الحفلة في بيتها كون بيتها واسعاً، ولا إشكال لديها،
وفي اليوم المحدد في الوقت المحدد، تواجد السادة الزملاء، وهم إثنا عشر مدرساً ومدرسة، ودعي أيضاً ذلك الضابط للحفلة نفسها، كأنه بالحياء فرض وجوده ... إنه – كما يدّعي – يحب جو التعليم.

قبل احتساء الشاي قامت المضيقة الآنسة أمل بتقديم لفافات التبغ الفاخرة المرصوفة في صحن من الودع الثمين الجميل لكل واحد منا، وإذ مثلت أمامي عارضة علي ضيافة لفافة تبغ، استغربت منها هذا الموقف وهي تعرف أنني لا أدخن بل أذم التدخين، وإن كنت أحترم المدخنين، كما هو واجب احترام الرأي الآخر، قلت لها بعفوية طبيعية: شكراً، وتوقعتُ أن تتابع عرض الضيافة على من يليني: لكنها لم تفعل وتمسمرت أمامي عارضة وبإلحاح أن أتناول ولو لفافة تبغ دون تدخين وكان مني الإصرار الذي ارتفعت نبرته حتى صار يسمع من الحاضرين:
ــ خذ لفافة واحدة ولا تدخنها،
ــ تعرفين رأيي وموقفي، أرفض أن ألمس لفافة واحدة،
ــ إنك تحرجني،
ــ وأنت تحرجينني أيضاً،
ــ قد يسبب ذلك مشكلة بيننا،
ــ أتحمل كل النتائج مهما بلغت،
ــ ستنتهي العلاقة بيننا إذا لم تستجب،
ــ قلت لها ولو تنتهي أنا لن أتراجع،
ــ إذن أنت لا تحبني،

-4-

ــ كيف عرفتِ؟ ما أهون حب مصيره في لفافة تبغ!
ــ إذا كنت لا تسايرني في شغلة تافهة "لفافة تبغ" فكيف ستقوم بيينا حياة تعاون وتفاهم مشتركة أبدية، كيف يستمر حب وأحد الطرفين عنيد بهذا الشكل،
ــ متى كان الثبات على الموقف عناداً، أنا رجلُ قِــيَمٍ والتزام، ولست مذبذباً، ولا أتردد في مواجهة الحقيقة بصراحة، الحقيقة هنا هي أنني أكره التدخين، ولم أدخن اللفافة الأولى، وإذا كان هذا الموقف المبدئي خطأ فأكرم به من خطأ،
ــ إذن انتهى كل شئ بيننا،

وخلعت الآنسة أمل الهدية الذهبية وحاولت، وهي منفعلة، أن أتناولها لكنني رفضت قبولها،
ــ الهدية لا ترد يا آنسة، مهما كان.

ولفوري، نهضت دون أن أحتسي الشاي، غادرت الحفل والدهشة والحيرة بدت على الوجوه لتسارع الأحداث دون توقعها،

صرت أتجنب مشاهدتها، وعلمت فيما بعد أن الموضوع كان مؤامرة مدبرة من ذلك الضابط الذي خطط للتخلص مني بمكر،
ــ يا آنسة، إذا كان الأستاذ خطيبك يحبك حقاً، جربيه،
ــ وكيف ذلك؟
ــ اطلبي منه أن يتناول لفافة تبغ واحدة من يديك أمام الحفل، فإن سايرك وفعل فإنه يحبك فعلاً، وإلا كان متزمتاً ولا يحتمل.

-5-

وكما تترامى لفافات التبغ بعد استهلاكها ويطويها الزمن، تمر الأيام، أخيراً الضابط يتزوج أمل،
أمل تكتشف أن زوجها رجل مناور وغير مستقيم ومتردد في مواقفه، وندمت بعد أن لات حين مندم، أمل تكمل دراستها في الجامعة، أمل تختلف مع زوجها ويتطور الخلاف إلى الطلاق، كانت حاملاً واتفقت مع مطلقها أن ترعى الوليد القادم وأن لا تتزوج بعد الآن، وافق على أن لا يتدخل بهذا الشأن، وانتقلت كمدرسة إلى محافظة حلب حيث لا أعلم عنوانها سوى من مراسلات كانت تأتيني عبر البريد إلى مكان عملي حيث كانت ترسل رسائل ولا تذكر عنوانها وبداخل الظرف ورقة بيضاء لا يظهر عليها أية كتابة إلا بعد أن تبلل بالماء، كما كانت تفعل في أول حبنا، وتقول: إنها تكتبها بدموعها، كما قالت لي سابقاً عندما كانت ترسل رسائل خاصة مع أخيها:

مداد عيني تسخو به المُقـَلُ بالماء امسَحْ تُقرأ الجُـمَـلُ

وسمّت ابنها باسمي بعد أن افترقت عن زوجها.

أما أنا فقد تزوجت بمن اختارها الله لتكون شريكة حياتي مدى الحياة.
ولكنها لا تزال مطلقة، وهي ترسل لي من آن لآخر رسالة لا تذكر عنوانها ولا أعرف عن حياتها شيئا سوى من خلال رسائلها التي تبث فيها آهاتها وحسراتها.

جاء في بعض رسائلها:

-6-

سامحك الله أيها الحبيب الخالد، أذكرك كلما قابلت شخصاً يقول: شكراً لا أدخن! وما أكثر هؤلاء، يومياً فأتذكرك عدة مرات، كأنك لا تحول ولا تزول، أنا أراك وأنت لا تراني لأني لا أريد أن أقتحم حياتك لأني حريصة على سعادتك الأسرية.

كلما ناديت ابني الذي يحمل اسمك أتذكرك،
أنا يكفيني أن أعيش مع طيفك طيلة عمري
أتذكر مشاويرنا على ضفاف نهر جغجغ
أيام كنا نتساقى كؤوس الهوى ولا أجمل
أيام المواعيد والآمال والأحلام النرجسية
وفي بيتي للآن يا الحبيبُ هديتك أيقونة النرجس
ومنفضة السجائر القديمة فقد صرت أكره هذه الذكرى
كلاهما من آثار حبّ هو أولٌ، وهو أيضاً آخرٌ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينــــــــــــــه أبداً لأول منزلِ
حسبي روحك إلى جانبي أناجيها وتناجيني وتؤنسني
حتى أموت أنا، ولست أنت، سأبقى وفية للحب الأصيل
لقد منع التدخين اللعين ولكنهم لا يمنعون الحب في الصميم
ابني هو أنت حبيبي، إثنان غاليان على الجنان الحميم
ولا يزال مشوار الحب في حرفيه: الحاء حياة والباء بقاء.

وفي رسالة سرية كتبت لي هذا الشعر اللامي:

في خافـقي بارقاتُ الحــبِّ تشـــتعـلُ وفي هواكم – يميناً- تســــهرُ المُـقلُ

-7-

ما أصعب الهجرَ! والأشواقُ تحرقني ودمعُ مزن المآقـي في الدجى هَـطِـلُ
غزلت حبكم شـــــــعراً، أســـــــلو بهِ وطيفكم في شـــغافي ليـــــــس يرتحلُ
إن غبتم خلفَ أطلالِ الزمان فـــــــلا والله ما غاب عني ذلك الطلـــــــــــلُ
أعاهد الله أني ســـــوف أذكركــــــــمْ طوال عمـــــري إلى ينتهي الأجـــــلُ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى