الاثنين ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم صلاح السروي

الشابى يواصل إشعال الثورات

عندما أشعل محمد البوعزيزى النار فى جسده، لم يكن يدرك، بالتأكيد، أنه قد أشعل نيران أول ثورة شعبية منتصرة فى العالم العربى، ضد حكام مرحلة ما بعد الاستقلال. فلقد بلغ الفتى حدا من التعاسة والمهانة، واليقين التام بانسداد الآفاق أمامه، بعد مصادرة عربة الخضار الفقيرة التى يعمل عليها، وبعد اهانته وضربه على يد الشرطى الجلف المتأله، وهو الشاب المتعلم تعليما عاليا (ولعل ذلك يكون من أسباب تفاقم احساسه بهدر الكرامة واهانة الكبرياء)، لقد وصل الى حالة لا يمكنه معها أن يحسب عواقب ما أقدم عليه. الا أنه بفعلته الخارقة، تلك، كان قد سلط ضوءا بالغ القوة والدلالة على المأساة الاجتماعية والانسانية التى كان يعانى وطأتها الشعب التونسى بعامة، وأبناء جيله، بخاصة. (فهناك 22% من المتخرجين الجامعيين، عدا عن أبناء الشرائح الاجتماعية الأخرى. بما يصل الى حوالى 35% ممن هم فى سن العمل من التونسيين، حسب التقارير الدولية، من العاطلين الذين يتكففون قوت يومهم). لقد شعر أفراد الشعب التونسى جميعا بأن داخل كل منه يوجد هذا المحمد بوعزيزى، وأن ما جعله يصل الى هذه الدرجة من الضياع ليس بعيدا عن أى واحد منهم، وأنه باحراق جسده قد جعل النار تصل الى قلوبهم وأرواحهم، وجعل روحه تحل فى صدر ووعى كل منهم. هكذا كشف البوعزيزى للجماهير التونسية، عن غير قصد، مثل كل المكتشفين العظام، حقيقة وضعهم الاجتماعى والسياسى، وأبعاد الكارثة الاقتصادية والانسانية التى وصلوا اليها، بعد ما ينيف عن الستين عاما من ال "استقلال"!! وال "حرية"!! حتى وان تبجح أنصار نظام الجلادين بالمن على أبناء شعبهم بأنه توجد هناك بعض البنايات وبعض الطرق والمشروعات التى أنشأها الديكتاتور، ونتساءل: أفلم يكن للمستعمر أيضا انشاءاته وانجازاته ؟؟. ولكن العبرة تكمن فى السؤال : هذه الانجازات لمصلحة من بالتحديد ؟؟ وفيم اختلف الوضع، من قبل ومن بعد؟؟

ومن هنا كانت الحقيقة القاسية التى توصل التونسيون اليها، وتتلخص فى: ان لاهم ولا غيرهم من الشعوب العربية قد بارحوا بخطوة واحدة مرحلة ماقبل الاستقلال؛ فارادتنا الوطنية لازالت مرتهنة للخارج، ولقمة عيشنا لازلنا ننتزعها بشق الأنفس، وكرامتنا وانسانيتنا لا تزالان مهدرتان تحت حذاء الرئيس والشرطى و المخبر، وقد نصبوا من أنفسهم جميعا آلهة علينا؛ نحن الودعاء الطيبين الذين لم نؤمن أبدا بهم.

واندلعت الثورة التى لاتقل، فى عنفوانها وشمولها وتواصلها، عن أى ثورة تاريخية كبرى. ولم تكن فى حاجة الى أية جهة لتنظمها، لا لحزب أو نقابة أو جماعة. فلقد كانت فكرتها أكبر نم خيال هؤلاء جميعا. وكانت مختمرة فى الأفئدة والقلوب وتنتظر شرارة واحدة لتحرق السهل بأكمله. ولم يكن هناك مجال لانتظار ما لا يمكن مجيئه فى ظل هذه السلطة الدموية، فكل الأحزاب الحقيقية ممنوعة ، وليس مسموحا بالوجود الا لمن "آمن" منها بالآلهة الجدد و"أصلح" من حاله وسار فى ركب النفاق وعقد "الصفقات" ورضى بالفتات، وكل النقابات الفعلية مقموعة، الا من بعض الشرفاء من المحامين واتحاد الشغل. وكل الصحف ووسائل الاعلام الحرة محجوبة، حتى مواقع الفيس بوك والتويتر، الا ممن تمكن من شباب تونس من اختراقه واعادة تشغيله ابان الثورة.
لقد تجاوزت حركة الشعب جميع الحسابات، وكذبت جميع تقارير المخبرين، وتوقعات جميع خبراء السي آي إي والموساد، وقياسات الرأى العام ، وأطاحت بالجميع فى ضربة واحدة، فياله من شعب!!

ان كل ما عرفناه من ثورات حقيقية فى عالمنا العربى، فيما قبل ذلك، كان قد اندلع ضد قوى الاستعمار الأجنبى. حيث كان هناك هذا الاجماع الوطنى، الذى لايحتاج الى الشرح أو الاقناع، فالعدو واضح وماثل أمام الأعين والأفئدة، ولالبس فى تصنيفه ولا أوهام حول عدوانيته و تربصه. أما هذا الجيل من حكام أنظمة مابعد الاستقلال ، فقد تمكن من خداع الكثيرين لوقت طويل، بدعوى "اللحظة التاريخية الدقيقة" وأن هذه الأنظمة و"طنية" على أى حال. فهل كانت حقا أنظمة وطنية ؟؟ وقد قام بعض قادتها (على الأقل) بسرقة ثمار الثورات التى كان وقودها دماء أبناء الشعب وتضحياته، وأمموها لحسابهم الشخصى، بل "أمموا" ارادة الأمة بالكامل ولخصوها فى اراداتهم الذاتية (علما بأنهم قد أعادوا ما تم تأميمه ومصادرته فى السابق من شركات وأطيان، على استحياء غداة الاستقلال، الى ملاكه السابقين، بل وزادوا عليه باقامة اقطاعيات جديدة لمحاسيب جدد .. من أنسبائهم وأصهارهم وحاشيتهم ومن والاهم على حساب الشعب المسكين). فلم يجد الشبان المتعلمون مايقتاتون به الا بيع بضاعتهم الرخيصة على العربات الخشبية البائسة، بينما شرع بعضهم الآخر فى ركوب قوارب الموت، متجهين نحو الشواطىء الأخرى .. نحو أوربا التى كانت، وربما لازالت، تستعمرنا، (أكثر من مليون ونصف مليون تونسى هاجروا الى بلدان أوربا، حيث يعيشون فى ضواحيها الفقيرة)، بحثا عن العمل والخبز والحرية، معا. بعدما يئسوا من وجودهم فى بلادهم!! وهنا يصدق قول (الباهلى) بطل رواية "وليمة لأعشاب البحر" عن بلد ليس بالبعيد عن تونس :
"ما معنى أن تدفع أمة ب( مليون ) شهيد من أجل الحرية ، وبعد النصر يهاجر (الملايين) من أبنائها الى بلاد المستعمر السابق بحثا عن ذات الحرية"؟؟.

فماذا جنينا اذن ؟؟ وفيم كانت كل هذه التضحيات والدماء والشهداء، اذا كانت تلك هى الحصيلة ؟؟

والاجابة الأوضح من الشمس هى أن تضحيات شعوبنا قد أهدرها لصوص الثورات، وأن خيرات بلادنا قد سرقها السماسرة، وأن انتصارات جيوشنا قد باعها الحكام العملاء بمعاهدات لا تخدم الا أمن أعدائنا، وأن غازنا وثرواتنا يصدرونها بعشر ثمنها الى هؤلاء الأعداء، وأن ارادتنا قد تم تزويرها ويواصلون تزويرها عيانا بيانا ودون خجل أو حياء، وأن حكامنا قد أضحوا جلادينا. فأصبحنا على ما نحن فيه من مهانة واذلال، والويل لنا.
لكن لماذا كان حكامنا على هذه الشاكلة ؟؟

اننى أظن أن ذلك قد نتج عن فكرة قبيحة استقرت فى أذهان رجال الحكم عندنا من النخب السياسية العربية الذين ورثوا السلطة من المستعمر، فلقد ورثوا مع السلطة هذه الفكرة التى بدت لهم مريحة للغاية، ومناسبة لشهوة التسلط والتحكم عندهم الى أبعد حد، ألا وهى الفكرة الاستشراقية القبيحة التى طاب للاستعماريين ترويجها على الدوام عن انحطاط شعوبنا وعدم جدارتها بالاحترام، فيصبح من المبرر والحتمى، بل من الضرورى !!، أن يحكمونا ويشكمونا. وبالطبع راقت هذه الفكرة من بعدهم للمتجبرين علينا من حكامنا فأخذوا يعيدون انتاجها وتدويرها متمنين أن تتحول الى حقيقة أبدية لاتتغير. يقول اللورد كرومر فى كتابه "مصر الحديثة":
"أما الشرقى فهو على النقيض( يقارن بينه وبين الأوربى)، مثل شوارع مدنه الجميلة، صوري. يفتقر بشكل بارز الى التناظر، ومحاكمته العقلية من طبيعة مهلهلة الى أقصى درجة ( .. ) خذ على عاتقك أن تحصل على تقرير صريح للحقائق من مصرى عادى، وسيكون ايضاحه بشكل عام مسهبا، ومفتقرا للسلاسة. ومن المحتمل أن يناقض نفسه بضع مرات قبل أن ينهى قصته، وهو غالبا ما ينهار أمام أكثر عمليات التحقيق لينا".
فهل يختلف هذا الخطاب عن ما يمكن أن تجود به قريحة أى وزير داخلية معاصر من جلادينا؟

وهل لاحظتم اللغة الأمنية التى ينطق بها كرومر ؟ ان الرجل يتحدث بلغة التقارير والتحقيقات التى تليق بجلاد مطبوع، كما يتحدث بلغة الازدراء والاستعلاء التى تليق بحاكم مطلق لاراد لقوله ولا معقب على حكمه، وقد مكنته المقادير من التحكم فى رقاب المصريين الأيتام الضعاف، الذين ليس لهم من ولى ولا نصير. ان نظرته الينا ترتكز على أننا أقرب الى العبيد اللؤماء الذين لايصلح معهم الا السوط والعصا، ولسوء الحظ فقد اتضح أن لهذه الفكرة مكان فى تراثنا، بدءا من الحجاج الذى رأى "رؤوسا قد أينعت وحان قطافها"، حتى المتنبى الذى قال:

"لاتشترى العبد الا والعصى

معه ان العبيد لأنجاس مناكيد"

(هل شاهدت ضرب النساء بالسياط فى شوارع الخرطوم ؟؟ وهل أتاك حديث السلخانات العربية ؟؟ وهل رأيت صور تعذيب خالد سعيد والسيد بلال وهتك الأعراض بالعصى وزجاجات المياه فى أقسام الشرطة المصرية ؟؟).

هكذا ورث حكامنا نظريات مستعمرينا وأعادوا تصنيعها محليا، ووصلوها بماضينا الذى يصرون على اعادة انتاجه وتأبيده، فهى عندهم بضاعتنا وقد ردت الينا، بضاعة احتقار المواطن والاستقواء عليه والسخرية من آلامه، واستتفاه شأنه. فأصبحوا مستعمرين من الباطن وجلادين بالنيابة وبالأصالة. وفوق هذا كله، أصبحوا لصوصا لايبارون.

فاللعنة على محمد بوعزيزى لأنه أحرق نفسه فمات كافرا!! حسب أحد شيوخ النفاق. واللعنة عليه لأنه عكر صفو الاستقرار فطفش الحاكم "الفلتة" والذى لابديل عنه فى تونس !! حسب أحد الزعماء العرب "الفلتة" (أى والله قال ذلك أحد الزعماء العرب)من بلاد الديناصورات الغائبة عن الوعى، المجاورة لتونس.

غير أن المفاجأة غير السارة بالنسبة لهذه الفلتات هى أن الشعب التونسى قد أثبت باصرار لايمكن التعامى عنه، وعلى نحو فاجأ الجميع وقلب كل التوقعات والتصورات، أننا ننتمى الى صنف الكائنات الجديرة بالاحترام والحرية. فقلب الطاولة على رؤوسهم، وفر الديكتاتور مذعورا كالجرز فى جنح الظلام، بلا كبرياء ولا أنفة، باحثا عن ملاذ آمن. وليبرهن على حقيقة أخرى، وهى أن الطغاة من أضعف وأجبن الكائنات، وهم على العكس تماما مما يبدون عليه من تجبر وصلف وتطاول،(هل لاحظت الأداء الشاهنشاهى لبن على فى مؤتمرات القمة اياها) وأن قوتهم انما تتأتى من جهل الشعوب بقوتها العاتية. وقد أبى هذا الشعب الا أن يجرب هذه القوة الدفينة، محققا ومطبقا لنبوءة أبى القاسم الشابى، ليقهر بها همجية الحجاج واللورد كرومر والحكام الديناصورات فصنع معجزة الثورة الشعبية وغنى "أغانى الحياة".

لقد أراد التونسيون الحياة الحرة فاستجاب لهم القدر، وتعين على ليلهم (الذى استمر ثلاثة وعشرين عاما) أن ينجلى، وتحتم على قيدهم أن ينكسر.

المجد والخلود للشهيد محمد بوعزيزى ولكل شهداء الثورة التونسية الأبطال. ولأبى القاسم الشابى صاحب القصيدة - النبوءة التى كانت زادا ووقود معنويا ملهما للثورة.

وعقبال عندكم يا حبايب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى