الجمعة ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١

عود عمران

محمد بن يوسف كرزون

كان يراودني من حين إلى آخر شوق عارم لسماع ترنيمات شادٍ.. فتقتحم علي كل أنواع «الملتميديا» لتفرض نفسها، فأعافها جميعا.. فأنا في شوق لسماع صوت بَشَرِيٍّ مباشرة، من الحنجرة إلى الأذن، ولا بأس إن كان يحتضن عوده، أو يعانق كمانه.. أو يلثم نايه... فأجد نفسي وقد سرت في الطريق ماشيا إلى بيت «عمران».. أدعوه لزيارتي، أو أدعو نفسي للدخول إلى بيته..

والحق أن عمران صار يفهم الغرض من زيارتي، فإن كان مزاجه عامراً رحّب وأوسع لي طريق الدخول.. وإن كان مزاجه معكّراً نفث في وجهي نفثتين محمّلتين بالهموم.. مع مدة من الصمت الطويل.. فأفهم، فإما أنسحب وأعود أدراجي إلى بيتي بواسطة «تاكسي أجرة» هذه المرّة.. وإما أدخل لأستمع إلى شكواه من هذه الدنيا التي ندر فيها الذوق والتذوق!

وكان يبدو وكأنــّه لا شكوى له من أحد بعينه، قريباً كان أو صديقاً.. أكثر همومه عامّة.. إلى الحدّ الذي كنتُ أسمع منه صدى لشكاوى الآخرين ومعاناتهم أكثر من همومه الشخصية..

وما أبــرع عمران وهو يصول ويجول بين طبقات أصواته، ومقامات الموسيقى العربية، وأصابعه تلاعب الأوتار بخفة عجيبة.. ما أروعه وقد تملّكه الطرب ودخل ملكوت الإبداع.. وما أسعدني وأنا أعيش لحظات صافية لا يعكّر صفوها معكّر.. وما أشقاني عندما ألوم نفسي: لماذا لم أصادق الموسيقى بدل الهندسة الميكانيكية؟! لقد حوّلت هذه الهندسة اللعينة تفكيري إلى أن الحياة عبارة عن أقراص مسننات كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وكل مسنن يدفع غيره ويندفع بقوة من غيره.. والكلّ يدور، ولكن لا يدري لماذا يدور، ولا إلى متى يدور، ولا لمن يدور.. حتى بتُّ أشعر أن مسننات حياتي بدأت تتآكل وتتعثـّر وتطقطق، ولم يعدْ ينفع معها زيت الآلات في مرونة حركتها وتخفيف ضجيجها الرتيب.. وليس لها من مصير إلا الإهمال أو الصهر وإعادة التصنيع..

محظوظ عمران.. الحياة عنده كلها أوتار.. ولكلّ وتر نغمة جميلة.. الحياة جمل موسيقية متتابعة، ولكنــّها ليست متدافعة.. هكذا كان يبدو لي هذا الرجل... إلى أن أدخلني ذات يوم بفعل قوة جذبه التي لم تنفع معها قوة نبذي:
 يا صاحبي... لا موسيقى بعد اليوم.. لا غناء.. لا طرب... يا صاحبي.. الحياة.. ما الحياة؟ دعني ألخصها لك بكلمات.. في كل مرة تأتيني فأستمع إلى منطقك.. وتستمع إلى أوتاري.. اليوم أريدك أذناً لا فماً لتستمع إلى منطقي.. هذري.. جنوني.. سمّهِ ما شئت.. اليوم أريدك مستمعاً.. مستمعاً وحسب!!!
بدا علي بعض الغباء، وبعض البلاهة، من هول المفاجأة.. ولكنني سرعان ما عاد إليّ شعوري الإنساني النبيل الذي طالما صفّاهُ عمران بعزفه الصافـي من كل شائبة..
 معك أنا يا عمران.. أسمع.. وأفهم !! معك وبين يديك..
وقمت لأجلس قربه وأضع يدي على كتفه.. ويدي الأخرى على صدره:
 انفث ما في هذا الصدر من دخان.. واحكِ ما تريد..
أعتدل عمران.. وخفّف من ثورته.. ثم نهض يعمر إبريق الشاي.. المنكّه بنكهة الليمون:
 عشرون عاماً.. وأنا أظن أنّ كل الأصدقاء مثل صديقي العود.. قصتي – يا صاحبي – باختصار.. ليس هناك من صديق كالعود.. لا تؤاخذني.. فأنا لم أرَ منكَ في أي يوم تصرفاً قبيحاً.. ولكن في نفس الوقت لم أجرّبك.. لم يحدث أنْ...

وصمت برهة، ثم عاد إلى القول:
 ومن يدري ؟ فقد تكون مثلهم!!!

وعاد إلى الصمت من جديد.. وعمران لا يدري كيف يخرج من مأزق انتقاده لي، ورغبته في (الفضفضة) و(بثّ الهموم).. فرأيت أن أبادر إلى إخراجه إلى برّ الأمان:
 كل ما تقوله صحيح.. وأنا لم أزعل.. ولن أزعل منك.. يا شيخ حرام عليك كلّ هذا التفكير قبل الدخول في الموضوع.. ادخل في صلب الموضوع.. ولا يهمّك.. أنا معك.. في الماضي معك.. وفي الحاضر والمستقبل معك.. يا شيخ حرام عليك تتعب نفسك!!!

وفجأة، انقضّ عمران على صندوق خشبي كبير في زاوية الغرفة، أخرج منه ورقة:
 انظر، ما تاريخ هذا التنازل ؟! سبعة عشر عاماً.. منذ سبعة عشر عاماً تنازلتُ لهم عن كل ميراثي من والدي عندما رأيتهم مختلفين.. وقلتُ لهم: يكفيني من ريحه هذه العمامة وتلك المخطوطات... وكتابه الوحيد في (المناجاة).. وضحكوا في سرّهم... أنا متأكّد أنهم قد ضحكوا في سرّهم، لأنــّني –كما يعرفونني – بحثتُ عن الأشياء الروحية.. المعنوية، وتركتُ مال الدنيا لهم.. وظنــّوني مسكيناً، ولكن هم المساكين.. تركتُ لهم البيت الكبير، والمحلّ الذي في السوق القديمة.. وبعض الأملاك الأخرى.. تنازلتُ عنها جميعاً مقابل العمامة وبعض الكتب.. واليوم يتّهمونني بأنــّي استأثرتُ بكل شيء.. صحيح أنّ العمامة والكتب هي عندي كل شيء، ولكن تركوها لي بإرادتهم، وتركتُ لهم كل شيء برضا وطيب نفس.. لقد باعوا كل التركة وتقاسموا ثمنها فيما بينهم.. ولم يبقَ من أشياء عينية سوى ما بقي عندي..

حتّى هذه اللحظة لم أجد مشكلة في كلام عمران.. لم أجد ما يثير.. ولا أخفي أنّ بعض الملل قد ظهر عليّ.. ولكن لم يكن في يدي حيلة.. عليَّ أن أتابع إلى الأخير..

كان الشاي قد صار جاهزاً.. صبّ بعضاً منها في فنجاني.. وشعر بتململي.. وبدأ يبدي اعتذاره غير المباشر، وحاول أن يغيّر الحديث، ولكنــّني استعدتُ نشاطي، وصحوتُ لأمري معه، وبإصـــــرار قويّ منــّي طالبته بالمتابعة:
 مؤتمر!! يا سيّدي مؤتمر حول جدّي.. الآن اكتشفه الباحثون، فصار كل ما مسّته يداه ثميناً، وكلّ ما وضعه على رأسه ذا قيمة.. إحدى المنظمات الثقافية الدولية اكتشفت أنّ والدي – رحمة الله عليه – كان ناثراً مجدّداً من خلال كتابه الذي احتفظتُ به، والذي طبع منه أقلّ من ألف نسخة عندما كان على قيد الحياة.. ويعلم الله كم عانينا من تلك النسخ، عشر سنين لم يبع منها أكثر من مئتي نسخة.. إلى أن جاء الحاج أمين الكتبي، فأخذها بربع قيمة كلفتها.. وفرحنا وقتها، وفرح والدي بتلك الصفقة.. وظننــّا جميعاً أنّ القصّة انتهت وانطوت.. واليوم يُعقد مؤتمر خاص بهذا الكتاب.. وقد جاءت وفود من بلاد متعددة.. ووُجِّهتْ ودعوات خاصّة للمشاركة فيه لمن بقي من أصدقائه، مع تكريم خاص لأولاده أو أحفاده.. وقد سمعتُ أنّ اللجنة المنظمة للمؤتمر قد عرضت مبلغاً ضخماً لقاء حصولها على المخطوطة.. لا أخفيك أنــّني قلتُ لهم: اشتروا البيت الذي بعناه وحوّلوه إلى متحف صغير، ولكن أخوتي عارضوني وطلبوا أن لا اذكر مثل هذا الاقتراح، فماذا يقول الناس إذا سمعوا أنــّنا فرّطنا في البيت من أوّل شهر بعد وفاته ؟! وبصراحة، المبلغ الذي سيدفعونه للبيت لن يأتينا منه شيء، ولن نستطيع الانتفاع من البيت لأن إدارة المتحف ستشغله...
بدأتُ أشعر أنّ رواية من نوع غريب تُنسج.. وصار عندي فضول إلى سماع تفاصيلها كاملة..

وماذا حصل بعد ذلك؟
 ما حصل هو دعوى مقامة ضدّي بأنــّني أستأثر بميراث والدي ولا أدع الورثة ينتفعون به.. فأنا أمنعها عنهم قاصداً أو أكتم عنهم (ثروة قومية) باستئثاري بـ(مناجاته) والدخول في الجوّ الروحي العظيم الذي تركه لنا قلمه.. ولا أقدّم قائمة بالكتب التي كان لها الأثر في ثقافته وشخصيته.. أو كرّاسته التي دوّن فيها بعض المعلومات عن شيوخـه وتلامذته... هل تصدّقْ أنْ أتّهمَ بكلّ هذه الاتّهامات ؟!

وهممتُ بسؤاله: لماذا تحبسها عنهم، ولكنــّي فضّلتُ أن يسترسل في حديثه لعلّه يكشف جوانب أخرى لم أفهمها بعدُ..

ودونَ أن يدري، ذهب إلى عوده.. أزال عنه الغلاف القماشيّ.. ركنه بقربه.. وهمّ باستئناف الحديث، ولكنــّه فضّل أن يخبّئ الكثير.. وفجأة قال:
 لا أحد يستحقّ الكتاب أكثر منــّي.. إنــّني أشمّ منه رائحة أبي.. عطر مداده.. عبق فكره الصافي عندما يتضرّع إلى الله.. لا أطمئنّ إلاّ عندما يكون بقربي.. لن يسرقوه منــّي.. لن أمكّنهم من النيل منه.. لا أحد يفهمه مثلي..

نسي كلّ ما قرّر في حقّ صديقنا (الموسيقى) وهجرانه لها.. انكبّ عليه يدندن بأوتاره ما تيسّر من نفسه..
كانت سهرة من أجمل سهرات عمري، وربّما أجمل سهرات عمره أيضاً.. ولم أستطع أن أقاوم الدموع التي انسلّت من عينيّ..

في نهاية السهرة غلّف عمران مخطوطة أبيه بقماش من الحرير الأخضر، وأعطاني إياها، وهو يقول:
 فليأخذوها.. لقد حفظتها.. بكل مقاطعها وحروفها.. بكلّ خلجة من خلجات أبي عندما كان يناجي بها ربّه.. أرجوك خذها وسلّمها لهم فلستُ أنا من أحبس مناجاة أبي التي ملأت الآفاق.. هذه أمانتي إليك، فهل تساعدني؟! ادعُ ربّنا أن يهيّئ لهذا الكتاب من يفهمه.. لا من يأخذ به شهادة عليا لينتفع بها في دنياه..
وكان ذلك آخر عهدي بعمران......

محمد بن يوسف كرزون

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى