الخميس ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم مهند النابلسي

راكانا و ماكانا

- 1 -

أعلنت دولة ماكانا العظمى الحرب على دولة راكانا الصغرى، وأمر رئيس ماكانا جزالاته باستخدام أحدث الأسلحة في ترسانتهم الحربية بغرض تركيع دولة راكانا، وجمعهم في اجتماع طارئ قائلاً:
 لا مجال لإطالة هذه الحرب، فالرأي العام يتحالف ضدنا، وهناك نقد كبير موجه نحونا، فنحن قوة كبيرة وهم قوة صغيرة، هم يملكون الإرادة والشجاعة والرغبة في الحرية والاستقلال ونحن نملك القوة الطاغية والجبروت والرغبة في الهيمنة والاستبداد. لا أريد أن أحول اجتماعي معكم إلى محاضرة سياسية مملة.. أنت أذكياء بما فيه الكفاية حتى تلاحظوا أن العالم يتعاطف مع الضعفاء.. لذا علينا أن ننتهي من هذه الحرب في ثلاثة أشهر فقط كحد أقصى.. استخدموا كل أسلحتكم ومهاراتكم التقنية.. وأبعدوا الصحافة والإعلام.. انقلوا أخباراً عادية من اشتباكات يومية بسيطة دفاعاً عن النفس، فيما تقومون في حقيقة الأمر بتدمير البنية التحتية العسكرية والمدنية لهذه الدولة المتمردة.. لا تسمحوا بتصوير الدمار والموت.. ولاحظ التململ والاستياء على وجه قائد الأركان، فأشار له بأن يعبر عن رأيه:
 ولكن سيدي الرئيس، الأمر ليس منوطاً بنا وحدنا، فنحن نعيش في عالم متعدد الأهواء، فكيف نمنع التغطية الصحفية الأجنبية؟ كيف نمنع خصمنا من استضافته للصحفيين الأجانب؟ كيف نمنع تجوالهم بحرية هنا وهناك؟ أجاب الرئيس مخالفاً:

 كلا.. ستقومون بما هو مطلوب منكم وسوف تنتهون من هذه الحرب المملة التي طالت أكثر من اللازم.. سنزودكم بفرقة كوماندو خاصة.. لا أريد دراما ودموع وتباكي.. استخدموا كل ما في حوزتكم نا بالم.. قنابل انشطارية.. قنابل اختراقية.. قنابل يورانيوم منشطر.. أطعموهم بلوتونيوم بدلاً من الخبز.. واستمر متبجحاً.. حتى قاطعه جنرال آخر:

 سيدي.. كل هذا رائع.. نخوض حرباً مدروسة بعناية.. حرباً تلفزيونية متطورة.. نوجه قنابلنا للأهداف الأرضية ونصور الأهداف مدمرة وتعاد الكرة.. ويفرح مواطنينا من مهارة طيارينا وتقنيتنا المتطورة.. ولكن كيف سنقضي على القيادة؟؟ قاطعه الرئيس مبتسماً بخبث:

 اترك الأمر لي ولوزارة الدفاع والمخابرات.. افعل ما تؤمر به واترك الباقي علينا.

-2 -

في مختبر أبحاث الأسلحة السرية المطل على المحيط الهادي، ساد سكوت غريب في ذلك المساء، حيث بدا وكأن تجربة خطيرة ستتم في ذلك المساء الربيعي.. حيث وقف جنود ضخام غامضون في صف مكون من مئة شخص.. وبدأ كل منهم يدخل بانضباط لقاعة ضخمة تشبه غرفة العمليات في مستشفى كبير.. وبدا وكأنه يتم اقتياده بشكل آلي.. يسير كل واحد لوسط القاعة.. ثم يجلس على كرسي خاص.. فيما يقوم ضابط في غرفة التحكم المنفصلة بالضغط على زر خاص، فيهبط فجأة من السقف جهاز ليزري متطور.. ويتوجه الجهاز لرأس الجندي ثم تبدأ أشعة مركزة صادرة عن الجهاز بقرص طاسة الرأس بشكل دائري.. بعد ذلك تدخل يد ميكانيكية آلية أخرى وتزرع في جزء محدد من الدماغ قرص معدني صغير.. ثم يُعاد لحام طاسة الرأس.. وتنتهي العملية في لحظات.. يقوم بعدها الجندي ويسير بخطى عسكرية خارجاً إلى قاعة أخرى.. وهكذا دواليك.. وهناك يُسلم نظارة خاصة تشبه نظارة "اللحامين".. وينتقل إلى موقع آخر حيث يتسلم البازوكا.. وبعد أن تم تجميع الجنود جرى نقلهم لموقع مجهول بواسطة طائرات الهيليوكبتر..

- 3 –

في غرفة الاجتماعات، دار الحديث التالي بين قائد مركز الأبحاث البروفسور ديمنغ وبين الجنرال شواكوف مدير مشروع "كمبناس"

 لا داعي لأن أعيد وأكرر بأن الموضوع غاية في السرية، ولا أحد يعلم به سوى خمسة أشخاص فقط، ثلاثة يعلمون التفاصيل كاملة، واثنان من العلماء لا يعرفان إلا الجانب البيولوجي – التقني.. المقصود هنا المحافظة على السرية والكتمان وإلا فشل المشروع بطريقة ما. فأجاب ديمنغ:

 هل تعتقد أن أحداً لن ينتبه لحركة الجنود الآليين وطريقة مشيهم؟! فقاطعه شواكوف:

 أجل سيدي.. لقد وظفنا "تيوساً مطيعة"، واخترناهم بشكل خاص، أناس تعرف كيف تطيع الأوامر وتنفذ التعليمات.. أناس غير فضولية إطلاقاً وأخضعناهم لتجارب قاسية، ولن أقول أكثر من هذا…
وشعر دينغ بالملل من فوقية الجنرال، فاستعجل إنهاء الحديث قائلاً:

 آذن ما المطلوب بالتحديد؟ فأجاب الجنرال وبشكل تقريري وكأنه يقرأ:

 المطلوب تحديداً هو ما يلي:

* أن لا يعرف أحداً ماهية هؤلاء الجنود.

* أن لا يعرف أحداً إلى أين يتجهون؟

* وهذا هو الأخطر: أن تفكر منذ الآن سيدي العالم العبقري بالطريقة الأنسب للتخلص من هؤلاء الجنود الأشداء المخلصين بعد إتمام مهمتهم بنجاح.. فهم خطر كبير علينا وعلى وجودنا.. انهم كالقنبلة الموقوتة.. وعليك أن تفكر بأنجح الطرق للتخلص منهم.. ويفضل وجود أكثر من سيناريو حتى نضمن نجاح ذلك ونحتاط للمفاجآت.. فلا مجال للمخاطرة! فاستاء د. ديمنغ من أسلوب التلقين وفجاجة الطرح، فقال في سره:

 هذا غبي مغرور يشعر بتفوقه ويصدر الأوامر ولا يريد نقاشاً!! سأكتفي بأن أنظر إليه بقرف وأخترقه بعيوني.. وهكذا فعل، ولكن الأخير تجاهل نظراته، وعاد ليؤكد ما سبق وقاله:

 معك وجماعتك مهلة شهر للتفكير فيما قلته لك، لوضع السيناريوهات العملية، والوقت يمر بسرعة كما تعلم..

وقام مغادراً المركز بسيارة مرسيدس فاخرة.

— 4 –

في مدينة "واتاكسي" ذهبت صحفية حسناء تدعى هبة للبحث عن عالم معتوه يدعى البرفسور "كريسانس"، يعيش منعزلاً منذ سنوات. واستطاعت بعد جهد مضني أن تعثر على منزله، وقرعت الباب وفوجئت من سرعة التجاوب، فقد شاهدت شخصاً طويلاً أشقر الشعر عريض المنكبين لا تبدو عليه علامات العته أو الجنون.

بماذا أستطيع أن أخدمك يا سيدتي؟ أجاب

أريد أن أقابل البرفسور كريسانس إن كان ذلك ممكناً أجاب

نعم، تفضلي سيدتي .. فأنت تتحدثين اليه وتأملته مستغربة، فهو يبدو مطابقاً للصورة الفوتوغرافية التي بحوزتها، ولكنه بالمقابل يبدو شخصاً متوازناً وماكراً بل وربما مجرماً واستمر
ماذا تريدين؟ فأصابتها قشعريرة خوف وهي تسمع صوت أنين مكتوم بدا صادراً من الغرفة الداخلية المجاورة.. واستمر بالحديث:

تعلمين يا سيدتي أنني قد تخليت عن كافة أبحاثي لوزارة الدفاع وقبضت الثمن، ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش وحيداً في عزلة اختيارية، ولا أعلم ماذا تريدين مني، ولمعلوماتك فقد نسيت أبحاثي.. فأجابت هبة وقد وجهت له نظرات جميلة مليئة بالشك ولكنها آسرة، وربما قصدت ذلك:
وهل يعقل هذا.. كيف يدعي عالم مرموق أنه قد نسي أبحاثه ودراساته؛ ربما تناسيتها بقصد! وحتى تهدأ من شكوكه تابعت بدون تردد:

لا أريد سوى صورة لك والإجابة على سؤال أو سؤالين، وإذا أردت سأحتفظ بسرية المقابلة ولن أصرح لأحد بشيء عنها فأجابها

لا تكوني سخيفة، فأنت تعرفين أني لا أحتاج لنقود منك، كما أنك ذكية بما فيه الكفاية لكي تعلمي بأنهم سيقتلوني فوراً لو علموا بمكاني؛ فأجابته:

ستخدمني سيدي لأن الأمر شخصي وانساني يتعلق ببحثي عن أبي كذلك ستخدمني سيدي لأنك ارتحت لي.. لأني سحرتك بفتنتي.. لأني غزوت روحك.. لأني منحتك وصالاً بشرياً كنت في أمس الحاجة له.. لأنني سأذكر معروفك ما حييت.. لأنك تتمتع بأصالة نادرة.. وبادرها..

كفى.. كفى.. لك ما تريدين.. صورتين أو أكثر.. فصورته وهو سارح يفكر ثم صورته وهو يتحدث محركاً يديه بشكل معبر، ثم سمعت للمرة الثانية صوت أنين مخنوق.. صوت يعبر عن معاناة وكبت وبؤس.. فتجاهلت هذه الأصوات، وتوجهت اليه بحواسها.. فقال:

 اسمعي ما سأقوله لك: لقد قمت بتطوير نموذج لكائن بيولوجي جديد مركب من مزيج إنساني ومكونات حاسوبية في آن واحد، بمعنى أنه يمكننا الاستفادة من كافة خصائصه البيولوجية بما فيها مرونة عضلاته وقوتها ثم نضيف عليها خصائص حاسوبية موجهة تجعله أقوى بخمس مرات من الإنسان القوي العادي، بمعنى أننا نحسن من خصائص الرؤيا والتفكير والاستجابة الحركية.. كما أننا نستطيع توجيهها كما نريد بواسطة قطعة حاسوبية صغيرة نزرعها في دماغه بواسطة عملية جراحية بسيطة ودقيقة في آن واحد، القطعة نسميها "ماتريكس"، وماتريكس هذه تصبح دماغه الجديد الذي نستطيع بواسطتها التحكم في كافة انفعالاته وردود أفعاله كما أننا نستطيع توجيهه كما نريد.. اسمعي سيدتي الفاتنة لقد صنعت إنساناً واحداً فقط، وطلب مني الاختفاء والعزلة.. ثم أكمل صديقي البرفسور ديمنغ المهمة من بعدي.. هل تريدين شيئاً آخر؟ أجابت:

 نعم.. بما أنك كنت كريم وواضح معي، فأرجو أن تفيدني وتبوح لي بما أريد أن أعرفه.. فقد علمت أنك اخترت أشخاصاً موتى أو قتلى من جثث حرب "نام نام".. وكانت أول جثة حولتها لإنسان آلي.. هي جثة شخص اسمه سليم، وأنا يا سيدي الفاضل مهتمة جداً بمصير سليم هذا.. لأنه.. والدي.. أجل والدي فنحن أنا ووالدتي المسكينة لم نستلم جثته، وبلغنا أنه اختفى وربما قتل في ظروف الحرب.. وتأكدت فيما بعد بأنه قد تم تحويله إلى "إنسان آلي" وتأثر ثم استفسر مندهشاً:

 وكيف تأكدت من هذا.. هل لي أن أعلم؟

 لأنه اتصل بي بعد سنوات وبواسطة البريد الإلكتروني، وأخبرني بتفاصيل ما حدت له.
وحادث نفسه قائلاً:

 لا يمكن هذا!... ثم أجاب:

 سأصارحك.. سليم هذا والدك هو الشخص الوحيد الذي اتفقنا أنا وديمنغ على المحافظة على الجانب العاطفي والإنساني في شخصيته، لقد أردنا في البداية أن نبني شخصية مزدوجة، حتى نتبصر ردود الأفعال ونحافظ على حس الضمير البشري، فنحن نعرف أن هذا الشخص هو الوحيد القادر على قيادة الآليين في حالة اندفاعهم المجنون نحو القتل والتدمير!! لا تخبري أحداً.. فلو علموا بما فعلنا لأقدموا ربما على قتل ديمنغ وتدمير سليم.. وربما.. وأحس بالشرك الذي نصبته الصحفية الحسناء.. إن سليم هذا قادر على أن يقود الآليين.. فهو الوحيد الذي يملك حرية الاختيار.. بينما يتحرك الآخرون بلا إرادة ولا روح.. مجرد وحوش آدمية المظهر آلية العنف بالغة القسوة والغباء.. لا يستطيع أحد أن ينجو منها إذا ما قررت الفتك به!

ولم تتمالك هبة نفسها فانفجرت غاضبة:

 ها أنت تعترف بجريمتك يا "كريسانس"، فأين كان ضميرك الذي ظهر الآن فجأة؟.. وكم قبضت مقابل عبثك بجثث أبطال حرب "نام نام" أم أنها كانت حرب قذرة على أي حال، ولم تحترموا أحداً فيها حتى أبطالها؟!

وشعرت هبة فجأة أن هذا الشخص الماثل أمامها. شخص مزيف، واستدركت فجأة أنه ربما الشقيق التوأم "لكريسانس"، وأنه ربما يقوم بدور عجز شقيقه عن إتمامه، إنه يقوم بدور "الضمير"، فكريسانس الحقيقي ذهب إلى ظلام الجنون وعبثه بلا رجعة لأنه لم يجد مبررات كافية لإقناع ضميره الحي، هكذا تقمص شقيقه التوأم دور الضمير، حتى تُغسل الخطايا وتستقر الروح البائسة!

وغادرت والدموع تترقرق في مآقيها، لقد تأثرت بمأساة "كريسانس"، وشعرت بقوة الضمير البشري.. ولم تستطع إخفاء إعجابها بالمشهد الإنساني الماثل أمامها: فقد تحولت الشخصيتان إلى كيان واحد متكامل.

- 5 -

سار كل شيء حسب المخطط المعد، وبعد مضي شهرين من القصف "السجادي" المركز للبنى التحتية لدولة راكانا، شعرت قيادة ماكانا بأن الوقت قد حان لتنفيذ الجزء الثالث من الحرب المدمرة، فأوعزت للجنرال شواكوف للمباشرة بحملته السرية، هكذا وفي منتصف ليلة حالكة الظلام، وبعد الساعة الأولى من يوم 15/2003 قامت عشر طائرات "آباشي" مزودة بالرؤيا الليلية بإنزال مئة جندي آلي بالقرب من قصور ومراكز القيادة والتوجيه في دولة راكانا، وقد تم إدخال صور تلفزيونية لكافة القادة السياسيين والعسكريين في ذاكرة الجنود "المحوسبة" وكان الأمر واضحاً: اقتلوهم.. اقتلوهم.. ثم اقتلوهم!! اقتلوهم ثلاث مرات، حتى تتأكدوا من إنجازكم لمهمة القتل، والرجاء أن تقتلوهم بشكل عادي بعيد عن مظاهر "العنف اللاإنساني".. ويفضل أن يتم القتل بتوجيه رصاصة أو رصاصتين للرأس مع رصاصة أو رصاصتين للقلب.. وذلك للتأكد.. نريد قتلاً "نظيفاً" إنساني الطابع لا يتعارض مع اتفاقيات جنيف وحقوق الإنسان.. لا نريد أسرى!..

دار الحوار التالي داخل الطائرة آباشي:

 مهمتك صعبة جداً.. أنت وزملائك التسعة.. تبحث عن زعيم راكانا أنت وزملائك وتقتله.. وحتى نضمن نجاح مهمتك، فعليك أن تقتل أي شخص يشبهه. ستواجهون مقاومة باسلة.. ولكن عليكم الاستمرار بإنجاز ما هو مطلوب منكم.. مهمتكم صعبة.. لذا يسمح لكم بتكسير الجمجمة.. حطموا العمود الفقري.. أحرقوا.. أبيدوا.. هذا الشخص هو الهدف الأسمى لمهمتنا وإذا فشلتم في اغتياله فقد فشلت المهمة؟! هل تدرك ذلك؟

فأجاب القائد الآلي.. المفتول العضلات... الذي تبدو القسوة والشراسة واضحة في معالم وجهه.. أجاب بصوت آلي:

 أجل.. اعلم.. اعرف المطلوب جيداً ثم استطرد ولكن ما مكافأتي؟! فاستغرب كابتن الطائرة من هذا السؤال الغير متوقع، فأجاب بمكر:

أجل.. سوف نكافئك بالتأكيد.. هل تعتقد أن أحداً سيتجاهل مثل هذا الإنجاز؟!

- 6 –

تمت المهمة كما يجب، وانتصرت دولة ماكانا العظمى على دولة راكانا الصغرى، وسحقت قيادتها ودعست على كبرياءها، ونشرت الأخبار المتلفزة خبر اغتيال زعيم راكانا بل وتم بث صورة له وهو مقتول.. وذلك بغرف تحطيم معنويات جيوب المقاومة المتناثرة.. كما تم بث صور دراماتيكية لنوابه ومساعديه وقادة أركانه وهم ملقون أرضاً والدماء تنزف منهم!

- 7 –

ظهر زعيم دولة ماكانا على القناة التلفزيونية العالمية والابتسامة تعلو محياه الأنيق، وقال بصوت خفيض واثق:

أيها الشعب العظيم.. شعب "ماكانا".. لقد انتصرت قواتكم أخيراً على راكانا.. لقد انتصرت الحرية الديمقراطية على الدكتاتورية. وانتصر السلام على العدوان.. الآن فقط سنضمن المستقبل للأبد.. وسنعيش بثقة.. الآن نستطيع أن نضمن حقوق الإنسان في دولة راكانا.. ولكني احذر القادة الجدد لدولة راكانا بأننا لن نرفع الحصار عن دولتهم إلا إذا ضمنا توجهاتهم تجاهنا وتجاه العالم وتجاه شعبهم المسكين الذي عانى من الطغيان والاضطهاد.. وكم كنت أتمنى أن تسقط على رؤوسهم الهدايا والأطعمة والعلاجات بدلاً من أنواع القنابل المدمرة.. ولكن يجب أن يتأكدوا من تعاطفنا الإنساني معهم، فالصراع هو مع قادتهم العنيدين المتسلطين وليس معهم.. وربما ستسمح لنا الظروف في الأيام القادمة أن نعوض صبرهم ومعاناتهم وتحل عليهم النعمة والرخاء بدلاً من القتل والتدمير والمعاناة.. والأمر بيد قادتهم الجدد.. فإن ساروا كما أردنا لهم أن يسيروا وإن التزموا بسلام الشجعان وباعونا الطاقة بأسعار رخيصة وتخلوا عن عنادهم وإرهابهم فسوف تحل مشاكلهم ومشاكل شعبهم وإلا فسنعود ونمطرهم بوابل من أسلحتنا الجديدة وإن كنا نفضل الانتظار لسنتين أو ثلاثة، فأنا لا أخفي عليكم شعبنا الحبيب شعب ماكانا العظيم.. فنحن بصدد إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة وسيكون الأمر مجدياً بعد سنتين أو ثلاثة ولا مغزى من تجربتها الآن لأنها ما زالت بطور "الإنتاج التجريبي".. آذن لندع حكام راكانا الجدد يستفيدون من الدرس القاسي الذي لقيناه لهم.. ولندع أول العالم الأخرى تأخذ حذرها.. ولنقول لهم بوضوح.. لن نساعدكم اقتصادياً ولن نفك الحصار عن بلدكم إلا إذا ضمنا سلامة توجهاتكم الجديدة!!

وعاد يبتسم بثقة وهدوء وأنهى خطابه:

لتنتصر إرادة الرب ولتسود ماكانا.. فالألفية الثالثة لنا ولن تكون لأحد غيرنا.. لتشرق شمس الحرية على العالم.. ولتنتصر الديمقراطية.. عاشت ماكانا!

- 8 –

تم تدمير 3 طائرات آباشي، وفقد خمسين جندياً آلياً في المعارك الطاحنة التي دارت في مراكز القيادة والتوجيه في محيط عاصمة دولة راكانا، ويبدو أنهم قتلوا بوسائل غير تقليدية أو اختفوا بشكل غامض لأنه لم يعثر لهم على أثر، وعادت طائرات الآباشي محملة بخمسين جندياً فقط، وفوجئ الجنرال شواكوف بوجود ثلاثة رؤوس مقطوعة لزعيم دولة راكانا، قام الجنود الآليون بجلبها معهم كدليل على قتلهم للزعيم. وخاطب شواكوف القائد الآلي المكلف بتنفيذ المهمة:

 كيف عرفت أولاً بأن الجثة المصورة للزعيم المقتول هي الأصل وأن هؤلاء هم مجرد أشباه له؟
فأجاب ببساطة:

 سيدي، لم نعطي الزعيم أي مجال للهرب، فقتلناه بقسوة وهو يهم بالهرب من مكتبة في القصر الرئاسي، وتأكدنا تماماً من موته ثم صورناه كما طلبتم، ثم فوجئنا بوجود هؤلاء "الشبهاء" في مقر آخر وفي مركزي قيادة، وقتلناهم بلا رحمة بالرغم من ادعاءهم بأنهم مجرد "بدلاء مساكين" حيث لم نعر توسلاتهم أي اهتمام.. هكذا تأكدنا سيدي!!

 يا "للذكاء الحاسوبي" الخارق! صرخ بصوت أشبه بالزعيق وأضاف:

 وكيف لنا أن نتأكد نحن المهتمين بالموضوع من أن ذاك المقتول في الصورة هو الزعيم المقصود وبأن هؤلاء المقطوعي الرؤوس هم البدلاء؟ ثم كيف سنضمن عدم وجود "شبهاء" آخرين للزعيم؟ ثم كيف سأتأكد أنا شخصياً من عدم وجود الزعيم حياً يرزق في مكان سري ما؟! أجاب القائد الآلي وبطريقة بديهية:

 لو كان موجوداً لقتلناه.. نحن لا نعرف الرحمة.. كما أننا لا نعرف الكذب.. فهذه السلعة سلعتكم أنتم.. ونحن لا نخاف منك.. وإذا كان الزعيم الذي ترغبون بقتله مختفياً في مكان سري.. فهذه ليست مشكلتنا، للبحث عن الزعيم في محيط بعيد عن العاصمة.. فهذه مشكلتك أنت ومدير المركز ديمنغ.. الأمر ببساطة توزيع أدوار.. فالمطلوب أن يقوم كل شخص بعمل ما هو مطلوب منه.. أما أسلوبكم الآدمي الذي يعتمد على التهرب من المسؤولية ولوم الآخرين.. فهذا شيء لا نتقنه نحن الآليين.. فأرجو أن تحدثني بالمنطق وبدون عصبية وزعيق!! وسكت الجنرال شواكوف وهو يغلي من الغضب والاستياء!

- 9 –

استطاعت الصحفية هبة أن تدخل متخفية لمركز الأبحاث بحثاً عن أبيها سليم، وعندما نزل الجنود الآليون من طائراتهم عائدين للمركز، استطاعت أن تُميز أباها.. وتم توجيههم لغرفة خاصة بغرض الاستراحة، وشعرت هبة بأن هناك مكيدة ما تدبر لهم، فالآليون لا يحتاجون للاستراحة! وانتظرت بهدوء وتيقظ.. وكان من حسن حظها أن ترتيبه كان الأخير في الصف الداخل.. فصرخت.. بابا.. بابا.. اهرب فهرب بأقصى سرعته مع ابنته، ولاحقه جنديان آليان وأطلقوا عليهما قذائف خاصة تسمى "بقذائف التبخير" فهي قادرة عن طريق الانبعاث الحراري العالي أن تبخر الجسم الصلب فوراً.. فهذه كما يبدو إحدى وسائل القضاء على الجنود الآليين.. هكذا نجى سليم مع ابنته من المصير المحتوم الذي كان ينتظره على أي حال، وهرب مع ابنته في سيارة صغيرة، أزالت هبة نمرتها حتى يصعب تمييزها.. ثم سلكت طرقاً جانبية، وتوقفت فجأة على جانب رصيف مكتظ بالسيارات زيادة في التمويه.. هكذا نجحت خطة الهرب.

— 10 -

بعد أن أدخل الجنود الآليين للقاعة، طلب منهم الجلوس على كراسي خاصة، ثم أُغلقت القاعة بأحكام شديدة، وبدأ غاز النيتروجين المبرد ينتشر بسرعة كبيرة في قاعة الإعدام، وسربت مع الغاز البارد جزيئات مادة كيماوية قاتلة وزيادة في الفتك، فقد نشرت رذاذات خاصة سائل حامض الفلورودريك القادر على إذابة الأجسام العضوية.. وسادت فوضى رهيبة وهلع شديد بين الجنود، وصاح أحدهم: آذن، فهذه هي مكافأتنا!.. وهجموا بأقصى قوتهم، بقصد تدمير المكان والهرب بأنفسهم، ولكن الوقت كان متأخراً، والخطة كانت محكمة التنفيذ.. فاندفاع الغازات القاتلة كان سريعاً وانهمر عليهم الرذاذ الحمضي الفتاك كالمطر.. ولم تكن هناك فرصة للنجاة.. فالموت يحيط بهم من كل الاتجاهات.. وآلية الفناء مدروسة.. فقد كانوا يتجمدون أولاً بفعل الغاز الفائق البرودة ثم تتولى جزيئات المارد الكيماوية باقي المهمة فتقوم بتفجيرهم ذاتياً بفعل تفاعل خاص مع جزيئات أجسامهم العضوية، ثم يقوم سائل حامض الهيدروفلوريدريك بدور الإبادة والفناء فيحول ما تبقى من أجسامهم لغازات خانقة! وكان المنظر رهيباً من خلف الغرفة الزجاجية المطلة على مشهد القتل، فقال شواكوف للعالم ديمنغ معلقاً:

 لا تنزعج كثيراً يا صديقي.. فهم بالأساس موتى.. وقاموا بإنجاز مهمة "نبيلة" بفعل برمجتنا الذكية لأدمغتهم ومحافظتنا على أجسامهم، وها هم يعودون موتى.. فأرجوك لا تنفعل.. ولا تنظر للمشهد بعين عاطفية بل انظر كما أنظر أنا.. بعين باردة الأحاسيس!

وانزعج ديمنغ من تعليق شواكوف، فقال منزعجاً:

 بالفعل، كان الأفضل أن يقوم عالم آخر ببرمجتي، حتى أفقد مشاعري، وأتعامل مع المشهد كما تتعامل معه تماماً مثل البقرة أو الذئب!! فرد شواكوف غاضباً:

 لا تفهمني بطريقة خاطئة.. أرجوك.. لم أقصد إزعاجك، وأرجو أن تراقب ألفاظك!!

 بالفعل لقد قمتم بخطأ فادح عندما تخلصتم من "كريسانيس" وعزلتوه، لو كنت مكانكم لقمت باستغلال واحد ضد الآخر بمعنى استغلاله ضدي أو استغلالي ضده.. أما الآن فالوضع صعب بالنسبة إليكم.. كلانا "مشروع ميت".. أتريدني أن أقتنع بأن قتلكم المريع لهذه الكائنات وسمها كما تريد عملاً إنسانياً ضرورياً.. وكذلك تريدني أن لا أتاثر إطلاقاً بما أشاهده!

- 11 –

لم تفلح رقاقة "الماتركس" المزروعة في دماغ سليم، وعجزت عن تدمير الجزء العاطفي من دماغه، وبقي نموذجاً نادراً للإنسان والحاسوب، والأمر يعتمد على الإثارة الخارجية، فأحياناً تغلب عليه صفات الآلة وفي أحيان أخرى تغلب على سلوكه سمات عاطفية.. وهذا ما حدث عندما شاهد ابنته الجميلة، فلم يستطع مقاومة رغبته في احتضانها بأبوة متأججة بالعاطفة والمحبة.. وبعد أن تيقن أنها أنقذته من فناء محقق زاد ارتباطه بها وشعر أن حياته مرهونة منذ الآن بوجودها جانبه، وحتى أثناء حياته العادية فقد كانت ابنته الوحيدة، وهي تذكره دائماً بزوجته المتوفاة والتي كان يحبها كثيراً. "لا أريدكك يا هبة أن تدمري حياتك بارتباطك الشديد بي.. اذهبي يا ابنتي وعيشي حياتك، فأنا مشروع رجل ميت.. أنا حالة مؤقتة.. وهم لن يتركوني حراً على أية حال.. اتركيني يا ابنتي.. أعطيني عنوانك ورقم هاتفك واذهبي لعملك وحياتك.. أرجوك."

 سأقول لك حتى إن تركوني فلن أتركهم بحال سبيلهم، سأقتل شواكوف مهما كلف الأمر.. وإن أردت أن تساعديني.. فقط رتبي لي مؤتمراً صحفياً في قاعة المدينة.. حتى أكشف للملأ أسرار تدميرهم وانتصارهم على دولة راكانا.

قاطعته فجأة وهي تبكي:

 لا يا أبي.. لن أتركك تدمر نفسك.. فهؤلاء أشرار أوغاد لن يتورعوا عن قتلك كما يقتلون الذبابة.. فلا تهدر فرصة وجودك الحالية كما هدرتها في حرب "نام نام" ولم تنل شيئاً مقابل بسالتك.. وحتى بعد انتصاركم الساحق في راكانا عادوا فغدروكم.. وقتلوا رفاقك شر قتلة!! لا يا أبي.. لقد فقدت أمي بالسرطان.. ثم فقدتك في نام نام ولن أقبل أن أعيش بعد الآن وحيدة.. وحتى لو تزوجت فأريدك أن تبقى بجانبي.. أشعر بحسك في الحياة.. لا لن أسمح لك بالاقتراب من هذا الوغد شواكوف.. أو الآخر ديمنغ، فقاطعها قائلاً:

 لا.. لا يا عزيزتي.. إن ديمنغ شخص مختلف.. إنه فقط متورط معهم.. ولا يستطيع الفكاك.. مثل ما حدث للمسكين "كريسانس" الذي انتهى معتوهاً منعزلاً.. اسمعي يا ابنتي.. ديمنغ هذا يملك ضميراً حياً.. أو بقايا ضمير.. وأنا أتعاطف معه تماماً.. ثم إنه الوحيد القادر على إعادتي لحالتي البيولوجية العادية.. لذا فلن اؤذيه.. بل سأسعى لحمايته لأني أعرف ما يخبئون له من مفاجآت غير سارة.. وخاصة هذا الغادر شواكوف!!

- 12 –

في اليوم التالي، نشرت الصحف خبراً يفيد بمقتل العالم الشهير "ديمنغ" وتحت الخبر صورة "سليم وهبة" تحت عنوان "مطلوبان للعدالة" بتهمة قتل العالم الشهير في منزله لأسباب تتعلق بالسرقة!!
 يا للنذالة والإجرام!

صرخ سليم قائلاً:

 ألم أقل لك بأنهم لن يتركوه حياً، كنت أشعر بما سيحدث له! هكذا تخلصوا منه ببساطة وألصقوا التهمة بنا.. يريدون أن ينتهوا من قصة "فرنكشتين".. أن يبيدوا العالم وصنيعه الذي هو أنا! صدقيني لن أتركهم.. وسأتمادى وأقتل زعيم ماكانا.. وأنا لن أخسر شيئاً يا ابنتي.. الآن فقدت الأمل في العودة للحياة كإنسان عادي.. وأصبحت حياتي مرهونة بالبرنامج المزروع في دماغي..

وعادت هبة تؤكد والدموع تنهمر من عينيها الجميلتين:

 لنهرب يا أبي.. كفانا مصائب.. استحلفك بالله وبحبك الأبوي لي.. اتركهم لعذاب الضمير!

وما أن سمع سليم لفظ الجلالة حتى شعر براحة نفسية نادرة، وبدا وكأنه يغوص في سلام روحاني عميق.. وكادت هبة أن تشعر بأنها قد نجحت أخيراً في إقناعه، وتمنت في أعماقها أن يتخلص أباها من عناده الشديد وتذكرت أمها المرحومة وهي تستحلفه بعدم الالتحاق بحرب نام نام قبل شهر واحد من موتها المأساوي.. ولكنها شعرت بسعادة غامرة عندما سألها فجأة:

 هل لك أن تخبريني عن خطتك.. كيف سنتخفى أولاً ثم كيف سنهرب.. كيف ستتدبرين كل هذا.. إن وجهتنا ستكون بالتأكيد إلى دولة راكانا.. فهناك مهمة تنتظرني.. أنا أعرف تماماً كيف أنتقم من هؤلاء الأوغاد هنا.. شواكوف وأمثاله.. هناك في عاصمة راكانا سأضع خطة بالتعاون مع قادة هذه الدولة الباسلة.. وسنرى من سينتصر في النهاية.. فالغد لنا.. أقصد للشرفاء..

فقاطعته بابتهاج شديد:

 لا عليك يا والدي الحبيب.. اترك كل التفاصيل لي.. أعرف تماماً ما يجب أن أفعل.. وقفزت فرحة واحتضنته، فقال في سره الشعوب لن تقهر يا ماكانا.. الشعوب لن تقهر.. الغد للأحرار !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى